قبل أن يُلبس الجسد الإحرام، يتهيأ القلب لرحلةٍ لا يشبهها شيء. رحلة لا تبدأ بالخطوة، بل بالرجفة. وقبل أن تُعلَن النيّة باللسان، هناك همس داخلي يبدأ في التصاعد: "هل أنا مستعدٌ للمواجهة؟ هل أنا حقًا ذاهب إلى الله أم فقط إلى مكة؟" الحج لا يبدأ من الميقات، بل من حيث تبدأ الروح في استعادة وعدها الأول. من لحظة نادرة يستيقظ فيها الوعي ويقول: حان وقت التجرّد. لا تجرّد الجسد، بل تجرّد النفس من كل ما ظنّته هي: من الصور، والتعريفات، والأدوار، والرغبات التي تشبّثت بها طيلة العمر. في لحظة الاستعداد، يعيش الإنسان نوعًا من القلق النبيل. هو لا يخشى الزحام، ولا الطقوس، بل يخشى أن يمرّ بكل ذلك... دون أن يتغيّر. كأن الحاج يقول لنفسه: "سأدخل هذه الرحلة بقلبي عاريًا. فإما أن أعود منها مولودًا، أو أعود أكثر تشوّهًا مما كنت." الجسد يستعد. يغتسل. يقصّ أظافره. يتخفف من الزينة. لكن ما لا يُرى هو ما يهم: هل اغتسل القلب من علله؟ هل قصّ الإنسان أظافر كبريائه؟ هل خفّف عقله من زينة التبرير والتبرّم والتخطيط الزائف؟ فالحج، في جوهره، ليس سفرًا إلى مكة، بل عودة إلى الحقيقة الأولى. إلى الجواب الأول الذي قالته الأرواح حين سألها الله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟﴾ ولأنّ الله لم يكتفِ بنداء الأرواح، بل نادى الأجساد أيضًا عبر التاريخ، جاء النداء الإبراهيمي الخالد، نداءٌ ما زالت أصداؤه تعمل في الأعماق، وتوقظ الأرواح من سباتها: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (سورة الحج – الآية 27). إنه نداءٌ لا يُسمع بالأذن، بل يُستشعر برجفة القلب. فإذا لبّاه القلب، بدأ الرجوع الحقيقي. والاستعداد لهذا الرجوع لا يكون بالحقائب، بل بإفراغ الداخل. أن يُخلي الإنسان قلبه من التكدّس، من التشتّت، من الأثقال التي علِقت به وهو يركض في الدنيا دون أن يلتفت إلى نفسه. في لحظات ما قبل الإحرام، شيء ما يتغيّر في نبرة الصوت. الصمت يصبح أكثر عمقًا، والخطوات أكثر بطئًا. كأن الروح تتحسّس الطريق قبل أن تسير فيه. كأن الإنسان يعرف، دون أن يقول، أنه مقبل على مقامٍ عظيم لا يصلح أن يدخل إليه بثقله القديم. وهكذا، لا يكون الاستعداد للحج تجهيزًا، بل تخلّيًا. تخلّيًا عن التوقّعات، عن السيطرة، عن الحسابات. أن تمشي وأنت لا تعرف ما الذي سيحدث داخلك، لكنّك تؤمن أن شيئًا ما سيحدث... شيئا كبيرا، عميقا، نهائيا. الحج لا يبدأ من التلبية، بل من رجفة القلب التي تسبقها. من تلك اللحظة التي تقف فيها وحدك، قبل أن تلبس شيئًا، وتشعر بأنك على وشك عبور بابٍ لا يُفتح إلا مرة واحدة. وتعلم حينها أن الطريق إلى مكة.. يبدأ من قلبك.