عرف المغرب، خلال العقود الأخيرة، مسارًا إصلاحيًا وتنمويًا متدرجًا وطموحا، تحت قيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، تميز بإطلاق أوراش ومشاريع كبرى وبرامج اجتماعية واقتصادية مهمة، إضافة إلى إصلاحات مؤسساتية غير مسبوقة في مجالات البنية التحتية والتنمية البشرية وتطوير الخدمات الاجتماعية، مع اهتمام واضح بتقليص الفوارق المجالية وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية. ورغم هذه الإنجازات، أظهرت التقييمات التي خضعت لها العديد من السياسات العمومية استمرار وجود فجوات تنموية لم يتم تجاوزها بعد، خصوصًا في المناطق القروية والجبلية والنائية، التي ما زالت تعاني من ضعف البنى التحتية، الخدمات الأساسية، والمرافق التعليمية والصحية، وشح فرص الاستثمار. وهو ما أشار إليه عاهل البلاد صراحة في خطاب العرش الأخير، بقوله " غير أنه مع الأسف، ما تزال هناك بعض المناطق، لاسيما بالعالم القروي، تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب النقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية. وهو ما لا يتماشى مع تصورنا لمغرب اليوم، ولا مع جهودنا في سبيل تعزيز التنمية الاجتماعية، وتحقيق العدالة المجالية. فلا مكان اليوم ولا غدا، لمغرب يسير بسرعتين." هذا الواقع دفع في بعض الأحيان إلى خروج العديد من المواطنين لاسيما في المناطق القروية والنائية، للاحتجاج والمطالبة بنصيب مجالاتهم الترابية من التنمية، ولعل أبرز مثال على ذلك المسيرة التي جسدتها دواوير منطقة أيت بوكماز قبل فترة للمطالبة بمطالب تنموية واجتماعية، وهو الشيء الذي عجل من بإعادة التفكير في استراتيجية التنمية الوطنية، عبر التحول من المقاربات القطاعية المركزية إلى سياسات أكثر دقة وتكييفًا مع الظروف المحلية لكل مجال ترابي. وقد مثّل الخطاب الملكي السامي لمناسبة عيد العرش في 29 يوليوز 2025 لحظة تحول، حيث دعا إلى إطلاق جيل جديد من البرامج التنموية الترابية المندمجة، المرتكزة على مبادئ التكامل والتضامن، والمتكيفة مع الخصوصيات المحلية، لضمان تكافؤ الفرص التنموية. في هذا السياق، وجه وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، بتاريخ 15 غشت 2025، رسالة موجهة إلى الولاة والعمال تتضمن توجيهات عملية مباشرة تعتبر بمثابة تنزيل للتوجيهات الملكية في هذا الصدد، لإعداد وتنزيل هذه البرامج، مع التأكيد على تفعيل مجموعة من التوجيهات واستحضار العديد من الأبعاد التي لايمكن إلا أن نجملها في دعوة صريحة من طرف وزير الداخلية إلى إعمال مفهوم "الذكاء الترابي" كمقاربة محورية، وإشراك كافة الفاعلين المحليين ضمن إطار تشاركي، شفاف، ومسؤول. حيث يُمثل هذا التوجه سواء من عاهل البلاد أولا ثم من طرف وزارة الداخلية ثانيا -اسيما أمام وجود برامج تنموية قيد التنزيل حاليا على مستوى الجماعات الترابية، وعلى بعد ما يقارب سنتين من انتهاء الولاية الانتدابية الحالية للمجالس المنتخبة – نقطة تدعو للتفكير والتحليل، وربما إشارة إلى قصور بارز في إعداد وتنزيل البرامج الحالية وعدم استحضارها لمجموعة من الأبعاد التي تدخل ضمن صميم استراتيجية الذكاء الترابي الذي يشمل التعبئة المنسقة للموارد المعلوماتية والبشرية والتكنولوجية والمؤسسية لتشخيص وتوقع ودعم التحولات في التراب، مع تسهيل بناء المعرفة المشتركة والابتكار المحلي. وكذا ، التواصل الترابي، التنسيق الترابي، استحضار الخصوصيات الترابية، التخطيط الاستراتيجي، التنسيق بين الفاعلين، استخدام التقنيات التكنولوجية...وغيرها وفي هذا الإطار وقبل تناول الرسالة الموجهة لممثلي الحكومة (العمال والولاة) على المستوى الترابي (المحور الثاني)، نرى أنه من الضروري التطرق أولا للمفهوم كاستراتيجية حديثة للتدبير الترابي ومجالات استخدامه والياته (المحور الأول). الذكاء الترابي استراتيجية حديثة للتدبير التنموي الترابي تعريف ونطاق الذكاء الترابي لا يقتصر الذكاء الترابي على جمع البيانات بشكل مجرد؛ بل يشمل إنشاء منظومات تواصل ومشاركة، حيث تتفاعل الفاعلون المحليون والمؤسسيون والاقتصاديون لوضع استراتيجيات تتكيف مع الواقع الترابي. يدمج هذا البعد المادي (الجغرافي) للإقليم، بالإضافة إلى جوانبه الرقمية والمعلوماتية، مما يجعل المجالات الترابية "هجينة" في أساليب عملها وتدخلها. من المفهوم إلى التطبيق: إشراك الفاعلين والذكاء الجماعي من النقاط الرئيسية التي أبرزتها الدراسات أهمية التشاور والإدماج في عملية صنع القرار. تُشجع أنظمة التحليل المكاني الجماعي، القائمة على تعبئة مجموعات متعددة التخصصات، على التوافق وتُحسّن توزيع الموارد والخدمات والإجراءات داخل التراب، حتى مع المستخدمين غير المتخصصين في التقنيات ذات الصلة. ويتماشى هذا أيضًا مع أهداف التدابير التي اتخذتها وزارة الداخلية: إنشاء مجتمع معرفي استراتيجي يهدف إلى توقع تحديات العولمة والتنمية والاستجابة لها. دور التكنولوجيا والاتصالات يُسهّل دمج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) في السياسات العمومية تدفق المعلومات، والبناء المشترك لسيناريوهات التنمية وبرامجها، ومشاركة المواطنين، لا سيما من خلال المنصات الرقمية المُخصصة. تدعم هذه الأدوات الإدارة الجماعية للموارد، وزيادة التشاور العمومي، والشفافية في عمليات صنع القرار. التقييم، والحكامة، والابتكار يتوافق الجيل الجديد من البرامج الترابية مع المقاربات التشاركية والتقييمية: إذ أصبح تقييم السياسات العمومية نشاطًا متكاملًا داخل الجماعات الترابية، يجمع بين الابتكار الإداري، والرقابة الإدارية، والإدارة الاستراتيجية، وتيسير النقاش العام. وبالتالي، يتماشى مقاربة "الذكاء الترابي" مع بروز حكامة عامة جديدة، مما يمنح الفاعلين المحليين مزيدًا من الاستقلالية والمسؤولية، ويعزز الاستجابات السياقية المُتكيّفة مع التحديات المعاصرة. الذكاء الترابي كمدخل للتنمية المندمجة يُعَرَّف "الذكاء الترابي" بأنه القدرة على توظيف المعرفة والموارد والطاقات المحلية في صياغة وتنفيذ سياسات تنموية فعالة، تتسم بالدقة والاستدامة. ويتألف هذا المفهوم من عناصر رئيسية: 1. إعداد قاعدة بيانات محينة وشاملة تشمل البنية التحتية والموارد الطبيعية والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. 2. تحويل البيانات إلى خطط تنفيذية دقيقة عبر تحديد أولويات قابلة للتنفيذ في أجال زمنية معينة. 3. تعزيز التنسيق بين الفاعلين المحليين والقطاع الخاص والمجتمع المدني لضمان التكامل وتقليص التكرار. 4. التقييم المستمر باستخدام مؤشرات أداء موضوعية، يتيح ضبط التوجهات وتصحيح الحراك، بما يحقق أثرًا مستدامًا. تستفيد مبادرات التنمية المستدامة بشكل خاص من هذه المقاربة (مقاربة الذكاء الترابي): فجمع المهارات، ومراعاة خصوصيات كل تراب، والتأكيد على القدرات الجماعية، أمورٌ أساسية لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية على المستويين المحلي والترابي. ويصاحب ذلك مبادرات شاملة، تعزز تنوع الفاعلين المعنيين، وتُسهم في إيجاد حلول مبتكرة، كما هو موجد في العديد من التجارب المقارنة. أمثلة ملموسة ونماذج قابلة للنقل تُظهر البرامج الأوروبية المبتكرة في قطاع الأغذية الزراعية أهمية نقل المعرفة وإشراك الذكاء الجماعي الترابي، في نجاح المبادرات المحلية واستدامتها. تُبرز تجربة المناطق الرائدة، مثل بواتو شارانت، أهمية الإدارة من خلال المعرفة الاستراتيجية والقدرة على استباق التغيرات الاقتصادية والاجتماعية. باختصار، يهدف تفعيل وزارة الداخلية للذكاء الترابي إلى: تعزيز الحكامة المشتركة، تشجيع الابتكار والتكيف المحلي، دمج الأدوات الرقمية والتعاونية، توسيع نطاق مشاركة المواطنين، تحسين فعالية وأهمية الأجيال الجديدة من برامج التنمية. ويُسهم هذا في الابتكار في كلٍّ من العمليات والنتائج المُحققة، مع الاعتماد على التقييم المنهجي والاستفادة من أفضل الممارسات. رسالة وزارة الداخلية دعوة صريحة تفعيل الذكاء الترابي في إعداد وتنزيل جيل جديد من البرامج التنموية الترابية من الخطاب الملكي إلى الخطوات التنفيذية أوضح الخطاب الملكي أن العدالة المجالية لم تتحقق بعد، رغم الجهود التنموية السابقة، ورغم التقدم البارز الذي تحقق على صعيد العديد من المستويات، مع بقاء بعض المناطق على الهامش نتيجة عوامل جغرافية وبنيوية وعامل الاهتمام السياسي. واستجابت الرسالة الوزارية لهذا الوضع عبر إطار عملي يتمثل في: تنظيم مشاورات موسعة على المستوى الإقليمي، تشمل المنتخبين والقطاع الخاص والمجتمع المدني والجامعات. جمع وتحليل بيانات ميدانية دقيقة ومحدثة باستخدام أدوات حديثة لتحليل الفجوات. تحديد أولويات تنموية واضحة قائمة على مؤشرات كمية ونوعية قابلة للقياس. ضمان تكامل البرامج المحلية مع المشاريع الوطنية الكبرى لتحقيق تلاحم استراتيجي. إن هذا الربط بين الرؤية الاستراتيجية والتطبيق العملي يعكس التحول من التركيز على الكم إلى التركيز على كيف ومتى وأين يكون الأثر فعليًا. الخصوصيات المحلية والتشاور الترابي في خدمة التنمية الترابية يرتكز التوجه الجديد على ضرورة الانطلاق من الخصوصيات المحلية لكل إقليم أو عمالة، ما يعكس رفض المقاربات المعيارية الموحدة بعيدًا عن السياق: التضاريس والموقع الجغرافي. الموارد الطبيعية والإمكانات الاقتصادية الموروث الثقافي والحضاري. التحديات البيئية والمناخية. ويستدعي ذلك التشاور الترابي الواسع مع مختلف الفاعلين: السلطات المحلية، الجماعات الترابية، القطاع الخاص، المجتمع المدني، الهيئات المهنية، والمؤسسات الأكاديمية، لتحقيق تشخيص شامل وتحفيز الشعور بالملكية الجماعية، ولتحصين البرامج من التسييس أو الارتجال. محاور الأولوية في الجيل الجديد من البرامج حددت الرؤية الملكية والرسالة الوزارية أربعة محاور استراتيجية: 1. تشغيل الشباب وتنمية الاقتصاد المحلي عبر دعم المقاولات الصغيرة، وتوجيه الاستثمار نحو القطاعات المحلية الواعدة، وتقديم تكوين ملائم. 2. تحسين الخدمات الاجتماعية الأساسية، خصوصًا في التعليم والصحة في الفضاءات القروية والنائية. 3. إدارة الموارد المائية المستدامة باستخدام تقنيات مثل التحلية وإعادة استعمال المياه العادمة وترشيد الاستهلاك. 4. التأهيل الترابي المندمج عبر الربط بين المشاريع المحلية والمشاريع الوطنية الكبرى لتعزيز التكامل والتنافسية. تحديات التنفيذ في سياق سياسي خاص يأتي تنفيذ هذه البرامج التنموية في ظرفية سياسية حساسة تُواكب اقتراب الانتخابات التشريعية لسنة 2026، ما يفرض أولوية إنشاء آليات هيكيلة قوية لضمان النجاعة والشفافية: تحصين العمل التنموي من الاعتبارات السياسية اللحظية عبر اعتماد معايير واضحة لاختيار المشاريع وإشراك المجتمع المدني في المراقبة. ضبط التوازن بين التنفيذ السريع والنتائج الجيدة: حيث أن توظيف العمل بسرعة إن لم يُؤسس على أساس علمي تقني فقد يُخفق في تحقيق الاستدامة. إدارة التوقعات المجتمعية من خلال التواصل المسبق والشفاف حول الأهداف والآجال والآليات، لتجنب الإحباط. التنسيق المؤسسي عبر لجان مشتركة بين الفاعلين باختلافهم والمجالس الترابية، مجهزة بآليات حكماتية واضحة ومساءلة دورية. المراقبة والتقييم الخارجي لضمان النزاهة وتعزيز الثقة. تلخص هذه التحديات أنّ الحكامة القوية، والمساءلة، والوضوح الاستراتيجي هي ضامن ونجاح هذا الورش في ظل السياق السياسي المعقد. من المقاربة المركزية إلى المقاربة الترابية يُمثل اعتماد الإقليم أو العمالة كإطار للإعداد والتنفيذ تحوّلًا فعليًا نحو الجهوية المتقدمة، حيث يتم نقل القرار التنموي إلى المستويات الأقرب للمواطن: تفويض الفاعلين الترابيين صياغة وتنفيذ هذه البرامج يعزز الاستقلالية التفكيرية والمالية. تعزيز الديمقراطية التشاركية عبر إشراك السكان والمجتمع المدني في صياغة البرامج، ما يُعطيها طابعًا ملّكيًا وفاعلاً. اختصار الإجراءات الإدارية عبر تبسيط المساطر، وتفويض صلاحيات التنفيذ لجهات محلية لها من المعرفة ما يكفي بالاشكالات الحقيقية التي تعانيها هذه المجالات الترابية ولها القدرة على الابتكار. تشجيع الابتكار المحلي في معالجة الإشكالات اليومية، كتنظيم الماء أو تشجيع السياحة القروية المستدامة، ما يعزز الشعور بالمسؤولية الجماعية. لكن هذا التحول يتطلب ثلاثة عناصر مهمة: تكوين قدرات محلية في التخطيط وإدارة المشاريع والتقييم لتوفير المهارات اللازمة. ضمان التمويل المستدام والشفاف، حرصًا على استقلالية البرامج ومرونتها. بناء منظومة معلومات محينة (GIS، قواعد بيانات، توضح المؤشرات وتدعم اتخاذ القرار). الرهانات والآفاق نجاح هذه البرامج سارٍ بالعوامل التالية: إرادة سياسية من المركز والجهات. مشاركة/ تشارك بين الفاعلين المتعددين. تمويل كافٍ ومتعدد المصادر. مؤشرات أداء دقيقة ومراجعة مستمرة. مقترحات من أجل التنزيل السليم للاستراتيجية الجديدة 1. إنشاء مراصد ترابية محلية لرصد المؤشرات وتتبع تطوير البرامج. 2. تعزيز إشراك الجامعات ومراكز البحث في التشخيص والتخطيط. 3. إطلاق منصات رقمية تفاعلية لتمكين المواطنين من متابعة المشاريع والمساهمة بأفكارهم. 4. اعتماد آليات شفافية ومساءلة صارمة، مثل نشر ميزانيات المشاريع وتقارير الأداء. 5. تنظيم تكوين محلي مستمر في مجالات التخطيط وإدارة المشاريع والتقييم. 6. تنمية شراكات فعالة بين الدولة، القطاع الخاص، والمجتمع المدني لتقوية التمويل والخبرة. على سبيل الختم، يمكن الخلاص إلى أنه تشكل التوجيهات الملكية والرسالة الوزارية بمثابة استدراك للاشكالات التنموية التي تعيشها المجالات الترابية، وكذل تصحيحا لهفوات يمكن أن تكون البرامج التنموية الترابية الحالية سقطت فيها، سواء في فترة الاعداد أو التنزيل وتقوم هذه المبادرة على على الذكاء الترابي، التشاور الشامل، وحُسن توظيف الخصوصيات المحلية. وإذا ما أُحسن تنزيل هذه الرؤية ضمن إطار الجهوية المتقدمة والحكامة الرشيدة، ووفرت لها التمويلات اللازمة، فإن المجالات الترابية في طريقه نحو قفزة تنموية نوعية نحو عدالة أكبر، وتوازن تنموي أوسع، وازدهار محتمَل. -باحث بسلك الدكتوراه في التنمية الجهوية والذكاء الترابي (قانون عام) مهندس، إطار بالإدارة العمومية