إن تلك العلاقة التعاقدية التي تربط الدولة بالأفراد تلزم كلا منهما بالوفاء بالاتزاماته والاستفادة من حقوقه، وهي العلاقة التفاعلية التي أطلق عليها في لحظة من اللحظات "العقد الاجتماعي". وقد صاحب ظهور نموذج الدولة المدنية الحديثة تطور كبير في ميكانيزمات ممارسة السلطة، وتطور مهم في كيفيات تأطير العلاقة بين كل دولة ومواطينها، تأطير تكرس من خلال مجموعة من المواثيق والمعاهدات الدولية من جهة، ومن خلال الدساتير والتشريعات الوطنية من جهة أخرى. ولإن اختلفت هذه التشريعات في عدة جوانب حسب كل دولة على حدة؛ فقد توحدت في ضمان مجموعة من الحقوق الأساسية، كالحق في الحياة، والحق في السلامة الجسدية، والحق في الصحة..إلخ وعلى غرار باقي الأمم، فقد عملت الدولة المغربية منذ أول دستور بعد الاستقلال على تكريس مجموعة من الحقوق الأساسية التي من أبرزها الحق في الحياة (الفصل 20)، والحق في السلامة الجسدية والنفسية (الفصل 22)، كما أكد الدستور على مسؤولية الدولة في تيسير استفادة الأفراد من العلاج والعناية الصحية، وهو ما تم تكريسه من خلال القانون الإطار 22-06 المتعلق بالمنظومة الصحية الوطنية، إذ جاء فيه أن على الدولة اتخاذ التدابير اللازمة لضمان حماية السلامة الجسدية والمعنوية للأشخاص (المادة 06). إن هذه النصوص القانونية تلقي على كاهل الدولة مسؤولية ضمان الحق في الصحة لكل فرد من أفراد هذا المجتمع، غير أن معطيات الواقع تبين أن بنية المنظومة الصحية بالمغرب تعرف تصدعات كبيرة تصل حد الهشاشة، بحيث لا تستطيع هذه الأخيرة استيعاب عدد المواطنين المقبلين على المؤسسات الصحية، وهو نقص مرتبط بمختلف جوانب العرض الصحي، من موارد بشرية وتجهيزات وبنيات على حد السواء، هذا العجز يؤدي في بعض -أو بالأحرى في أغلب- الأحيان إلى طول المواعيد الطبية التي تمتد على فترات طويلة قد تتجاوز الأشهر في أحيان كثيرة. وعليه، فإن كانت الطبيعة البيولوجية لبعض الأمرض الحميدة قد تحتمل أحيانا تأخرا يسيرا؛ فإن أمراض كثيرة لا تحتمل تأجيل يوم واحد، بل قد يكون عامل الزمن عاملا محددا لإمكانية الشفاء واحتمالية النجاة، وبالتالي فقد يكون الوقت حدا فاصلا بين الحياة والموت في حالة بعض الأمراض الخبيثة. على ضوء هذه المعطيات، تطرح مجموعة من الأسئلة حول مسؤولية الدولة عن الأضرار التي يمكن أن تمس السلامة الجسدية للمرضى، والناتجة عن تأخر تلقي العلاج في الوقت المناسب، أو بطء عمليات الاستشفاء، وتكون هذه الأسئلة أكثر حدة وإلحاحا إلى تعلق الأمر بحالات الوفاة نتيجة للأمراض الخطيرة. تبعا لمقتضيات قانون الالتزامات والعقود، فإن الدولة مسؤولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها (الفصل 79)، وهي مسؤولية تقصيرية شأنها شأن مسؤولية الأفراد نتيجة للأضرار التي تسببها أخطاؤهم، أو نتيجة للتقصير في الوفاء بالالتزامات. ومن جهة أخرى، ينص القانون 90-41 أن دعاوى التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام من اختصاص المحاكم الإدارية (المادة الثامنة). ويبقى السؤال العالق مرتبطا بمدى انعقاد هذه المسؤولية في هذه الحالة. لا شك أن قيام مسؤولية الدولة رهين بتوفر شروط معينة، وبالنسبة لحالتنا هذه، فالأمر يتعلق بثلاثة أركان أساسية، أولها حدوث التقصير أو الخطأ، وثانيا حدوث الضرر المادي أو المعنوي، وأخيرا وجود العلاقة السببية المباشرة بين ذلك الضرر والخطأ المرتكب أو التقصير الحاصل. وهو ما يمكن اعتباره متوفرا بشكل تام في واقعة الحال. حيث بالنسبة للركن الأول، والمتعلق بحدوث التقصير، فهو حال لا محالة إذا ما تجاوزت الفترة الفاصلة بين الموعد والآخر الآجال المعقولة، وبالنظر كذلك لطبيعة الخدمة التي يحتاجها مرتفق المؤسسات الصحية، والتي تتطلب التدخل السريع بالنسبة لأغلب الحالات المرضية، فلا أحد يستحمل العلل كيفما كانت خطورتها وتطورها. وبغض النظر عن الحالات المستعجلة، فإن حالات مرضية كثيرة تتطلب تدخلا مستعجلا أيضا، نظرا لخصوصية المرض وخطورته، وما يشكله عامل الوقت في تحديد نسبة الشفاء، وهو ما ينطبق على أغلب أمراض السرطان مثلا، ففي مثل هذه الحالات، يشكل تأخير المواعيد الطبية، ومواعيد إجراء التدخلات الجراحية والحصص العلاجية تقصيرا واضحا من جهة الدولة، والذي قد يؤدي في أغلب الحالات إلى تفاقم المرض أو انتشاره، مما ينتج عنه في بعض الأحيان وفاة المريض. وبالتالي، فالضرر بين، ، بل إن الدافع الأساسي من الإقبال على المؤسسة الصحية يكون مبدئيا هو حدوث الضرر. كما أن العلاقة السببية بين الضرر والتقصير واضحة كذلك، وهو ما يحيل على قيام مسؤولية الدولة باعتبارها الجهة الوصية أصالة عن ضمان الحق في الحياة، والحق في السلامة الجسدية والولوج إلى العلاج. وقد يقول قائل أن الولوج إلى العلاج متاح في القطاع الخاص في حالة تعذره في القطاع العام، على اعتبار أن المصحات الخاصة جزء لا يتجزأ من المنظومة الصحية، وهو ما يمكن اعتباره عذرا أكبر من الزلة، حيث إن كانت إمكانية التوجه للمؤسسات الصحية الخاصة متاحة لشريحة معينة من المواطنين؛ فإن ذلك متعذر بالنسبة لفئات كثيرة يضرب فيها الفقر أطنابه، خصوصا وأن تكاليف علاج أغلب الأمراض الخطيرة جد عالية، وبالتالي فلا ملاذ لهؤلاء إلا مؤسسات الدولة. لهذه الأسباب، لا يمكن الحديث عن الولوجية في العلاج إلا إذا كان التدخل في الوقت المناسب، فاستفادة المريض من التشخيص أو العلاج بعد فوات الأوان لا يمكن اعتباره إلا تقصيرا من طرف المؤسسة الصحية، وحدوث الضرر المتمثل في تفاقم المرض، أو الوفاة نتيجة لذلك، يثير مسؤولية الدولة، وبالتالي فيمكن للمتضرر أو لذوي حقوقه المطالبة بالتعويض. ولإن كانت معطيات الواقع تبين أن مثل هذه الممارسات ما تزال في طور الكمون بالدول السائرة في طريق النمو جملة، وبالمغرب تفصيلا؛ فإن إعمالها من طرف الأفراد، وإقرارها من طرف القضاء يعتبر تكريسا لمبادئ دولة الحق والقانون، وضمانا للحقوق الإنسانية الكونية، وفي طليعتها الحق في الحياة. -دكتور في القانون