من أعجب ما ألاحظه من تناقضات بشرية عالميا الصدع بمبدإ عدم التدخل في شؤون الدول وخصوصياتها، مع العلم أنه يسري في واقع العلاقات الدولية تَحَكّمُ القويّ في أتباعه وفيمن هو في معسكره، سواء هذا بالشرق أو بالغرب. بل قمة التناقض هو احتضان دول غربية -متخصصة في استعمار بلدان العالم ونهب خيراتها إلى الآن- لحركات تحررية يسارية وإسلامية تستقطب روادها بأنها ستكون هي الملاذ والملجأ والمنجى للشعوب من الظلم والقهر. وأرى قريبا من هذا المنهج/التناقض ما تتداوله الأفكار والأقلام والأصوات بشأن الزاوية الصوفية القادرية البودشيشية بعد وفاة شيخها الدكتور المربّي جمال الدين تغمده الله بواسع رحمته، مما اطّلعنا عليه في الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي من قَبيل أهلية من يَخلُفه في مشيخة الزاوية، أو تَنافُس بعض الأبناء على المشيخة، أو خبر تحويل مال الزاوية العام لحساب خاص، وما إلى هذا، ونحن نعلم أن كثيرا من الأخبار والتحليلات تكون مجانبة للصواب لعوامل متعددة أحيانا تكون طبيعية وأخرى تكون مغرضة، وقد يتسرب خبر ما يكون في أصله صحيحا وسرّيّا فيُعمَد إلى إنكاره أو حتى السكوت عنه بالمرة لحفظ خصوصيته السّرّيّة؛ لذا نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. مع العلم أن مَثَلنا المغربي الدارج "ملي كتطيح البقرة كيكثرو الجناوا"، أي السكاكين، يدل في سياقنا هذا على تجنّد جميع المغرضين -من شتى القناعات والتمذهبات- للركوب على هذا الحدَث ليصفّي بعضهم حساباته مع وزير ما، أو اتجاه صوفي، أو حاكم معين، وما إلى هذا. فنجد من لا صلة له بالتصوف يصبح "متخصصا محللا" لقضاياه، وعباراتُه مليئة أخطاء، وانتقاؤه لأقوال عن التصوف من هنا وهناك تُسقِطه في عدم إلمامه وفي تناقضه الواضح؛ إذ يعوزه النظر الشمولي. ووسائل تواصلنا الاجتماعي في شقها المغرض تعجّ بهذا. لي كتاب بعنوان "في التصوف المغربي" مطبوع منذ 2018 بمباحثه التالية: تقديم، التصوف وأقسامه، بداية التصوف المغربي وطبيعته، مصادر التصوف المغربي، الرباطات والزوايا، الإجازة الطرقية شروطها وأقسامها، نقد التصوف، خاتمة. إن قضية التنازع داخل الصف الصوفي سواء أكان على الزعامة الروحية أم على المنفعة المادية، سلبية من سلبيات وأخطاء النفس البشرية المائلة إلى أنانيتها ونرجسيتها. وإن طبيعة الأخطاء والمعاصي التي يسقط فيها المتصوف لا تُخرِجه من صوفيته ولا تطعن في روحانيته إلا إذا أسس أو انخرط في التصوف أصالة لغاية مادية صرفة أو ما شابه هذا، كما كنتُ فصلتُ فيه الحديث -في مبحث "نقد التصوف" من كتابي- عن زوايا أسست أصالة لتمكين المستعمر من بعض الانقلابات الداخلية، أو بغرض ادعاء النبوة للسيطرة على العوام السذج؛ إذ الزوايا -كما وضحته في مبحث "الرباطات والزوايا"- كانت قديما تقوم مقام الحزب والجمعية وباقي أشكال التنظيمات المعاصرة الطارئة... فمنهم المخلص ومنهم المغرض، وهكذا. وأعلم توظيف بعض الزوايا لوسيلة السِّحر والإيهام لاستمالة بعض الأغنياء حتى يبقوا داعمين للزاوية ماليا أبد الآبدين، كما حكاه لي شخصيا أحد الأثرياء الذي مورس عليه هذا لدرجة دخوله في حالات اكتئاب ووسواس وما إلى هذا. إن قضية خلط العمل الصالح بالطالح عَلَّمَنا القرآن أن نتفاءل لصاحبه بقوله من سورة التوبة: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، بل لا تَنقُضُ المعصية صفة الولاية والقرب من الله باعتبار بشرية الإنسان وضعفه كما ورد في سورة فاطر قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ): فالظالم لنفسه ممن اصطفاه الله هو المُكتسِب للمعاصي المُجترِح للسيئات، المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات؛ فالولاية أصلها القرب والمحبة وهي نوعان: ولاية عامة... وولاية خاصة...، والكلام في هذا يطول ليس موضعه هنا. ولتعميق هذا المعنى أسوق مثالا لمعصية تكون من جهة عظمى/مؤدّية للكفر ومن أخرى صغرى/غير مخرِجة عن الملة، ففي الحديث: "لا إيمانَ لِمَن لا أمانةَ لَه" تقدير خبر "لا" -التي تعمل عمل "إنّ"- المحذوف، فبتقدير: لا إيمانَ "موجودٌ" أو "كائنٌ" ننفي جنس الإيمان عن مرتكب المعصية المخرجة عن الملة، وبتقدير: لا إيمانَ "كاملٌ" ننفي كمال الإيمان لا جنسه عن المرتكب معصية غير مكفِّرة لصاحبها. وعلى غرار هذا قُنِّنت قوانين الخيانة العظمى لدى مختلِف دول العالم. ونفس المنهج -بطريقة أو بأخرى- يسري على مختلف الأحزاب والجماعات لمّا يقنن مؤسسوها للممارسات التي بها يفقد المنخرط عضويته من انتمائه. إن الزاوية القادرية البودشيشية إن لم يكن لها من فضل سوى تجميع شباب مثلا في حده الأدنى على الذِّكر وتزكية النفس وتطهيرها لشغلهم بالصالحات عن استهلاك المخدرات، وصرفهم عن وساوس الأمراض النفسية الملهيات، وتحبيبهم في أن يكونوا رحمة لغيرهم من الناس تحقيقا لأمننا الروحي، وفي حده الأعلى أن تُسهِم في حماية وحدة البلاد من التطرف ومن أطماع المستعمر وأذنابه بتشتيته وتمزيقه، وكذا مد جسور الدبلوماسية الناعمة عالميا لصالح تنمية المغرب وحضارته، في تكامل مع باقي تنظيمات البلاد المؤثثة لحضارتنا وريادتنا، لكفتها إبراء لذمتها تجاه شرع السماء وقانون الأرض. أما الأخطاء كيفما كان لونها فلا تستعصي على مغربنا القادر على حلها وتجاوزها بكل حكمة ورزانة، بالمساطر القانونية في حده الأدنى، وبقاعدة "أقيلوا ذوي الهيئات عَثَراتِهم" في حده الأعلى؛ إذ لكل مقام مقال ولكل دولة رجال. وبهذا لا يزيد تعددُ الابتلاءاتِ بلدَنا المغربَ إلا مزيد تعقل وعميق حكمة، خصوصا وقد تنوعت معاول الهدم والتنقيص والانتقاد المثبّط من كل حدَب وصوب، لتكملة مشوار تشتيتنا خوفا من رجوعنا لامبراطوريتنا المغربية.