نقد مقال: المولد النبوي: فرحة مشروعة أم بدعة محدثة؟! للدكتور أحمد الريسوني يكشِفُ مقال الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني من خلال عنوانه عن نوع لبسٍ وخفاء مفضٍ إلى مغالطة وجفاء نُجلُّ الأستاذ عنها في صياغة مدارسة حكم الاحتفال بالمولد النبوي الموميء ظاهرُه إلى اختلاف حكم الفرح بالمولد النبوي بين المشروعية وعدمها، فالأول أي الاحتفال ليس إلا تعبيرا عن تعظيم المولد والفرح به وله حكم الوسائل وجارٍ فيه حكاية الخلاف، أما الثاني وهو الفرح به وبمولده وبعثته وهجرته وهديه وشرعته ؛ فهو من المقاصد الشرعية المعتبرة دون أدنى مواربة. لذا فقد استشكلتُ صورة العنوان القائم على توقف واستفهام في حقيقة المولد النبوي هل الفرح به مشروع، أم بدعة محدثة؟، لنكتشف في تفاصيل المقال أمورا وجب التنبيه عليها، وهي لا تتناسب ألبتّة لو تفطن الأستاذ مع حال المغاربة الذين دأبوا على الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، سواء العلماء أو العوام، تارة بعقد مجالس العلم والتذكير وختمِ فصولٍ من كتب الشمائل والفضائل والسيرة النبوية، وتارة بالإطعام وبذل الصدقات والإحسان عموما، أو الاجتماع على الذكر والمديح في الجناب النبوي الشريف، وكلها منازل طاعة وعبادة، ولا يحتاج إلى بسط الأدلة عليها سواء بعينها أو ما يشهد لجنسها، فالذكر في كل الأحوال لازم، والمديح في الجناب النبوي الشريف سنة متبعة، ومجالس العلم والتذكير مندوب إليها، ويُنظَر إلى ما يستجد فيأخذ حكم مقاصده وغاياته. ومراعاة أقوال العلماء وما جرى عليه عملهم له اعتبار في الاجتهاد والفتوى، ومخالفتهم دون التفات إلى مدارك اجتهادهم جناية، لاسيما فيما تعم به البلوى أو يحتمل الخلاف وما لا يوجد فيه النص الصريح، فأقل ما يقال أن جرى فيه اختلاف العلماء بين الجواز والمنع، ثم إن اعتبار عوائد الناس واستعمالُهُم حجة مما ينبغي التفطن له ولاريب، لاسيما وأن الأمر متعلق بالمشاعر والاعتبارات النفسية والاجتماعية التي لابد وأن تستقي في مجتمع الإيمان من آثاره وتعابيره، ولا بد أيضا من تعلق الحكم بها لأنها تنعكس على الأفعال والتصرفات، فإن شابَ هذه المظاهر أحيانا بعض المغالطات أو الانحرافات فلا يَكِرُّ ذلك على أَصْلِ الاحتفال بالبطلان، بل الذي ينبغي التنبيه على ذلك وإصلاح ما هنالك. والذي كان ينبغي مدارسته هو حكم الاحتفال بالمولد النبوي لا الفرح بمولده عليه الصلاة والسلام في حد ذاته، لأن الفرح به واجب، بل هو من ركائز الإيمان بنبوته وصدق محبته عليه الصلاة والسلام، وتعظيمه وكمال الأدب معه ومعرفة حقوقه. ولم يختلف علماؤنا في تعظيم مولده عليه الصلاة والسلام، من خلال الوقوف عند آثاره ومدارستها واستجلاء معانيها وعبرها، ومقاصدها وأسرارها، والتأليف والتصنيف فيه، وذكر البشائر الحافَّة به، والتصديق الجازم بها، دونه ما وصلنا إليه من حال الجفاء حتى لنستفسر كُلَّ عامٍ عن الواجب الفرض اللازب تجاه سيدنا ومولانا وإمامنا وقدوتنا عليه الصلاة والسلام؟!، في سياقٍ لا يمتُّ إلى احترام وتعظيم مقام النبوة، وتقدير جهود أعلام السلف والخلف في ترسيخ مقام المحبة والأدب في هذه المواقف الإسلامية الخالدة. يقول الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني: ذكرى المولد النبوي لم يرد في شأنها نصٌّ في القرآن أو السنة بعبادةٍ مخصوصة؛ لذلك لا يجوز تخصيصها بصيام أو صلاة أو أذكار معيّنة على أنها شعيرة ثابتة، ومن فعل ذلك فقد أدخل في الدين ما ليس منه، وهو بدعة. أمّا الاحتفال الاجتماعي أو الثقافي الطوعي الذي يقوّي محبة النبي صلى الله عليه وسلم ويعظّمه في النفوس ويزيد المعرفة بسيرته وشمائله والاقتداء به، فهذا جائز لا مانع منه، بل هو محمود إذا التزم الضوابط الشرعية.اه إن جزم الأستاذ بنفي ورود النص في ذكرى المولد النبوي وما يشرع فيه مما يفتقر إلى بيان، إذ لا يسأل عن مثله إلا أرباب التيار الحرفي، الواقفون مع رسوم النصوص إن وجدوها، دونهم الموغلون في المقاصد والأستاذ من أعلامها ، كيف وعمومات النصوص تدل على اللباب المستطاب فيما يشمل هذا الأمر وغيره من الأبواب؟!. ثم إن الفقيه المجتهد المستنبط من كليات النصوص وجزئياتها، ومعاني الشريعة وألفاظها، لا يحتاج في كل حادثة إلى نص، وحسبه هنا الاشتغال على جوهر حقيقة مقام النبي الصفي الطاهر عليه الصلاة والسلام في تفاصيل السيرة المحمدية، وفي محاسن الإسلام وشرعته الهادية، وفي مقاصد البعثة وأسرارها الزكية، وعند تفقد آثار الصحابة رضوان الله عليهم ومن أتى بعدهم من سلف الأمة وخلفها من خلال سَنَنِهم في تعظيمه وتوقيره وكمال الأدب في حضرته، وفي كل ما يعلم من هديه، واجتهادهم فيما يستحسن عنده وإن لم يعلم من هديه، ليستيقن بعد ذلك أن الفرح به لازم لعلوه قدره عند مولاه، ولمكانته في نفوس من بايعه واتبعه وأطاعه بحسه ومعناه وهواه، ولأنه رحمة مهداة من رب البرية سبحانه وتعالى، أظهر الله بوجوده وببعثته الحق ومحق الباطل، وأنار بطلعته البهية الوجود بمكوناته، ففرحت به الكائنات العلوية والسفلية، واستبشر به الملائكة وأهل السماوات، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال لي جبريل: "قلبتُ مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد ولم أجد بني أب أفضل من بني هاشم"، وتحدث عليه الصلاة والسلام بنعمة الله عليه وقد أمره ربه سبحانه وتعالى بذلك في وجوده وظهوره وشرف وطيب أرُومَتِه وبعثته وكمال رسالته، فقال: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"، واستبشر بميلاده الناس جميعا، حتى الكافر الذي جاء ذمه في القرآن الكريم، فقد نال جزاء بشراه بذلك، قال الحافظ ابن ناصر الدمشقي: إذا كان هذَا كافرا جاء ذمَهُ وتبَّتْ يدَاهُ في الجحِيم مخَلَّدا أتى أنه في يوم الإثنين دائماً يُخفَّف عنه للسُّرورِ بأحمَدَا فما الظَنَ بالعبد الذي طول عمْرِه بأحمدَ مسرواً ومات مُوَحِدَا وفرح واستبشر بطلعته الجبل والحجر والشجر والمدر وكل الجمادات، حتى روي عن علي كرم الله وجهه: "كنت أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في نواحي مكة فما لقينا من شجر ولا حجر إلا وقال: السلام عليك يا رسول الله". هذا الذي ينبغي أن يُعلَمَ ونُعلِّمه للناس في مثل هذه المقامات، لأن الإشكال لم يكن أبدا عند من سلف وخلف في الفرح بمولده عليه الصلاة والسلام، كيف والحق سبحانه يقول: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"، وقد سماه الله تعالى رحمة فقال: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وقال هو عليه الصلاة والسلام عن نفسه: "إنما أنا رحمة مهداة"، وليس من فضل على البرية كوجوده وظهوره ونبوته وبعثته وسيادته وإمامته ورحمته بالخلائق، قال تعالى: "وَمَا كَانَ اللهُ ليعذِّبَهُم وأنْتَ فِيهِم"، فصار الفرح بالرحمة طاعة وقربة كباقي الطاعات يستحق من الله تعالى الثواب الجليل والأجر الجزيل بنص الآية الكريمة. وهذا ما يستبطنُه صدق التعبير عن هذا الفرح بالمولد الشريف بالاحتفال والابتهاج وكل الرسوم الدالة عليه، وهو الذي أشكل على الأستاذ فأسماه: [الاحتفال الاجتماعي والثقافي الطوعي...]، احترازا من التحديد، أي تخصيص ذكرى المولد النبوي بعبادة مخصوصة، وهذا لم يُعينه أحد فيما نعلم، ولم يُر تحديد ذلك عند من تقدم. نعم، الأصل كراهية التحديد، ولا تحديد إلا بدليل.. لكن، إيرادُه هنا فيه التباس إلى حدٍّ كبير، لأنه يجاري قول المانعين من الاحتفال لعدم وجود الدليل، وهو الذي يفتح باب الجدل والنكاية بالمخالف لدخوله به في سلك الإحداث والابتداع، مع أنه لو قارن هذا الفرح الاجتماع على الذكر وتلاوة القرآن وغير ذلك من أنواع القربات...، فلم لا يكون احتفالا تعبديا ومحلَّ طاعةٍ وقربة، وارتقاء حسيا ومعنويا؟!، لأن مداره على المحبة، وهي بساطُ كل خيرٍ وفسطاط كل جمالٍ، وقد قال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: الخوف سوط سائق، والرجاء حاد قائد، والمحبة سيلٌ أو تيّارٌ حاملٌ.. لذا لم يناسب إطلاق وصف [الاجتماعي والثقافي..] على هذه المقام بتاتا بل يُناكدُه سياقُ التدليل والتأصيل، لأنه مادام الفرح بفضل الله ورحمته بالنص طاعة وقربة، فإن مباشرَ الفرح بالمولد النبوي والمعبر عنه بالاحتفال والاهتبال مأجور لحسن قصده وعظيم وفائه وإخلاصه، وهو مُشعر بمحبته وتعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم وهما عنوان الإيمان ولاريب، ثم إن التعبير هنا دائرٌ حكمه على ما تختص به الوسائل من أحكام ، والوسائل والتوابعُ لها حكم المقاصد. وأما دلالة التنبيه في النص الذي "سئل فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الإثنين، فقال: ذاك يومٌ وُلِدْتُ فِيهِ"، فهي تشير إلى أمرين مهمين مُلِحَّين: 1 التذكير بمولده عليه الصلاة والسلام؛ 2 مباشرة أعمال الطاعات في مثل هذه المنازل والمقامات. والصيام صدقة وقربة، وجُنّة ووقاية، وقس عليه سائر القربات لصدقه على التعبد والطاعة في مقام الفرح به، والاستبشار بوجوده، في حياته وبعد مماته، لأنه لا يوجد دليل على انتفاء ذلك، وحكمُه سارٍ على ذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين، ما دام النص ينبه إلى الندب إلى المكارم ومحاسن الأعمال في هذا اليوم من كل أسبوع. وأمَّا ما يُحَاذِي ذلك من صُنُوف تعابير الفرح وأشكاله، فلا يناكد مقام المحبة المُخْتَزِنِ لصِدْقِ الإيمان، ويؤجر فيه الناس على قدر محبتهم، ووسيلة الطاعة طاعة ولا ريب، وقد يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد، بوصفها هنا وسائل غير مقصودة بحكم الإباحة لا المحرمة أو المكروهة كما يجري عليه حال القاعدة، إلا إن اعترى ذلك ما يُمنع من التصرفات، فإنه ينبغي التنبيه عليها وتذكير الناس بما يحقق حكم المنع فيها، دون العود على الفرح اللازم في مثل هذا المقام بالتلبيس أو التشويش، أو حتى الاستدلالات الباردة التي لا تتوافق والسياق العام الموسوم بالتميل والانحراف..، ألمن يجتريء على الذات الإلهية، ويحط من شأن الصلوات المصطفوية...، وغيرها من أشكال الانحرافات الشائعة الذائعة نضع حجابا بينه وبين عنوان الهداية الربانية، حتى يجد من القسوة والجفاء مرادَه؟!. كلا وألف كلا!، إنه لينبغي نشر قيم الخير في مثل هذه المواطن على أشدّه، والعض على مجامع التذكير بالنواجذ، واستدراج الناس إلى منازل الخير بكل حكمة وتبصّر، لتعزيز قيم الاقتداء والاهتداء، والردّ إلى المنهج السوي ردّاً جميلا، ولله درُّ ابن لب الغرناطي الأندلسي المالكي حين قال: "تُحدَث للناس مرغِّبَاتٌ بقدرِ ما أحدَثُوا من الفُتُور"، وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه: "وافعلوا الخير لعلكم تفلحون". -أستاذ التعليم العالي بجامعة ابن زهر مدير ورئيس تحرير مجلة الإبصار