لم يعد الفساد في المغرب مجرّد انحراف أخلاقي أو خلل إداري يمكن علاجه بالإصلاحات التقنية أو بإصدار تشريعات جديدة. يبدو اننا أمام بنية اجتماعية وثقافية منتجة للفساد، وأمام نسقٍ متكامل من التواطؤ الرمزي والمصلحي، تتقاطع فيه مصالح السلطة السياسية مع سلوكيات المجتمع، في علاقة تبادلية تجعل من الفساد ليس مجرد عارض، بل آلية اشتغالٍ للنظام الاجتماعي نفسه. من منظور سوسيولوجي، يمكن القول إن الفساد في المغرب يمثل شكلاً من أشكال إعادة توزيع الثروات خارج منطق الشرعية والقانون. فحين تضعف مؤسسات الدولة، وتغيب العدالة التوزيعية، يُعاد إنتاج النفوذ والثروة عبر قنوات غير رسمية: الزبونية، المحسوبية، الولاءات القبلية أو الحزبية، وشبكات العلاقات الشخصية. وهكذا، تتحول الدولة من إطارٍ منظمٍ للمصالح إلى سوق رمزية للامتيازات، يُباع فيها القرار وتُشترى فيها الخدمات. غير أن المعضلة لا تكمن في النخب وحدها، التي لا يشك أحد في ان كثيرا منها غارقة في الفساد حتى النخاع، بل في قابلية المجتمع نفسه للفساد. فالمواطن الذي يحتج ضد غياب النزاهة هو ذاته الذي يبرر الغش في امتحان، أو يسعى إلى خدمة غير مستحقة عبر الوساطة، أو يقدّم رشوة صغيرة بدعوى تسريع المصلحة. هذه المفارقة تكشف عن انفصام قيمي عميق، وعن هشاشة في الضمير الجمعي، حيث تتحول القاعدة الأخلاقية إلى مجرد خطابٍ رمزي بلا قوة إلزامية. يبدو أن العلاقة بين المواطن والدولة لم تعد قائمة على منطق الحق والواجب. فالمواطن لا يرى في الدولة مؤسسةً محايدة، بل كياناً يُمكن التفاوض معه بالمحاباة والوساطات. وبدلاً من أن يُنظر إلى القانون باعتباره أداة لتحقيق العدالة، يُتعامل معه كعائقٍ يجب التحايل عليه. الخطير في الأمر هو أن هذا الوضع أصبح شبه مقبول اجتماعيا حتى انك في بعض الأحيان تجد الشخص يفتخر بكونه تمكن من قضاء مصلحته التحايل او تقديم رشوة. لم يعد الفساد في المغرب نتاج غياب الرقابة أو ضعف المحاسبة فقط، بل أيضاً نتاج أزمة عميقة في منظومة القيم. فحين تتحول القيم الجماعية من الإخلاص والواجب إلى النفعية والولاء الشخصي، يصبح الفساد سلوكاً اجتماعياً عقلانياً في سياقه. بمعنى آخر، إن المواطن الذي يشارك في الرشوة لا يفعل ذلك بالضرورة لأنه فاسد بطبعه، بل لأنه يتأقلم مع بنية اجتماعية فاسدة، حيث لا ينجح فيها النزيه، ولا يضمن فيها المستحق حقّه إلا عبر الالتفاف على القواعد. هذه البنية الفاسدة تنتج انهيار المعايير الموضوعية داخل مؤسسات الدولة، لتحلّ محلّها الولاءات الشخصية والعلاقات الزبونية. وبذلك، تصبح الإدارة المغربية في كثير من الأحيان فضاءً لإعادة إنتاج التفاوت، لا أداةً لتقليصه. ولا يمكن أن نغفل البعد السياسي في هذه المعادلة. فغياب الإرادة السياسية الجدية في محاربة الفساد يعمّق الأزمة، لأن الفساد أصبح جزءاً من هندسة السلطة نفسها. إذ تُستخدم الامتيازات والصفقات والترضيات كوسائل للضبط الاجتماعي وشراء الولاءات. وهكذا، يتحول الفساد من مرضٍ إلى أداة حكمٍ غير معلنة، تضمن استقرار البنية القائمة على حساب العدالة الاجتماعية والتنمية. من المفيد هنا أن نستحضر البعد التاريخي الذي رسّخ هذه الثقافة، إذ لم يولد الفساد في المغرب فجأة، بل تراكم عبر عقود من التواطؤ بين منطق المخزن التقليدي ومنطق الدولة الحديثة، حيث ظل النفوذ يُمنح مقابل الولاء، لا مقابل الكفاءة. كما أن التعليم والإعلام لعبا دوراً أساسياً – ولو من حيث لا يقصدان – في إعادة إنتاج هذه الثقافة، فالتعليم الذي لا يزرع روح المسؤولية، والإعلام الذي يطبع مع الفساد ويُلمّع رموزه، يساهمان معاً في تبلّد الحسّ الأخلاقي العام. إن مكافحة الفساد في المغرب ليست مسألة قانونية فحسب، بل مشروع تحوّل ثقافي شامل، يتطلب إعادة بناء العلاقة بين المواطن والدولة على أسس جديدة: الشفافية، المحاسبة، والحق في المعلومة. ويتطلب أيضاً إصلاحاً جذرياً لمنظومة التعليم والإعلام -الالكتروني منه، والمطبوع، والمسموع، والمرئي- لأنهما الفضاءان الوحيدان القادران على إعادة تشكيل الوعي الجمعي، وكسر منطق التطبيع مع الفساد الذي أصبح جزءاً من السلوك اليومي. إن محاربة الفساد تبدأ من المدرسة، وتنضج في الإعلام، وتتجذر في وعي المواطن حين يرفض أن يكون شريكاً في الفساد اليومي، مهما كانت الذريعة أو المصلحة. ختاما، إن أول إصلاح حقيقي يبدأ من لحظة الاعتراف بأن الفساد ليس هو الآخر، بل نحن. ما لم يُواجه المجتمع ذاته، ويستعيد ضميره المدني، فإن كل حملات الإصلاح ستبقى مجرد خطابات تجميلية موسمية فوق جرحٍ عميق...