تتشكل الأوطان، كما يوضح ذلك بنديكت أندرسون، عبر سرديات متخيّلة تُبنى من خلال الخطابات والممارسات الدالة، والرموز الثقافية، لا عبر الجغرافيا الفيزيقية فحسب، فالإحساس بالانتماء، واللحمة الوطنية، وحدود "نحن" و"هم"، كلها تتضمن خطاطات مستمرة تعيد رسم الصور الذهنية للذات الوطنية، وتأويلها. لا ترث الدولة هوية جاهزة، بل تصنعها عبر الإعلام، والتعليم، والذاكرة الجماعية، والثقافة، وبناء التاريخ والزمن والفضاء المشترك، وصناعة العدو والصديق. لذلك، فإن الخطاب السياسي ليس مجرد أداة تواصل، بل هو بنية تأسيسية تُعيد تشكيل الوعي الوطني، وتحدد من يدخل في الجماعة ومن يُستبعد منها. وفي السياق الجزائري، تشكل سردية العداء للمغرب أحد أهم مكوّنات هذا "الوطن المتخيَّل"، حيث تصبح شيطنة الجار جزءًا من هندسة الهوية ومن آليات إنتاج التماسك الداخلي. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل يمكن للجزائر تفكيك هذه السردية وبناء وطن متخيّل جديد لا يقوم على العداء، بل على مشروع إيجابي تنموي جامع؟ يشكّل قرار مجلس الأمن 2797 (2025) لحظة سياسية مفصلية في مسار النزاع حول ملف الصحراء. فإلى جانب تأكيده، مرة أخرى، أن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الحل الواقعي القابل للتطبيق، يكشف القرار عن أزمة أعمق تعيشها الجزائر: كيف يمكن لدولة رسخت جزءًا كبيرًا من سرديتها الوطنية على شيطنة المغرب، أن تدخل اليوم في مسار تهدئة أو حوار؟ وهل تمتلك أصلًا القدرة على بناء مشروع وطني مستقل، لا يستمد تماسكه من وجود "عدو خارجي"؟ لقد اشتغلت الجزائر، طوال عقود، وفق ما يصفه علماء تحليل الخطاب ب المربّع الأيديولوجي ( Teun A. van Dijk's ideological squaring): تمجيد "نحن"—أهل الشرعية الثورية—وإخفاء عيوبها، وإبراز "هم" — أي المغرب — كخطر دائم، مع طمس أي فضائل محتملة له. هذه الآلية التي تنتج هوية سلبية تقوم على العدو أكثر مما تقوم على الذات، ليست حكرًا على الجزائر فقط؛ فقد تجلت في السردية الإيرانية تجاه الغرب، وفي خطاب كوريا الشمالية تجاه الولاياتالمتحدة، بل وفي تجارب عربية سابقة وظّفت فيها السلطة صورة "العدو الخارجي" لصناعة تماسك داخلي وتبرير الاستنفار السياسي. وتبدو ملامح المربّع الإيديولوجي واضحة في الخطاب السياسي والعسكري والإعلامي الجزائري خلال السنوات الأخيرة. فحين يصرّح رئيس أركان الجيش، السعيد شنقريحة، بأن " المغرب هو العدو الكلاسيكي للجزائر "، فإنه لا يقدّم توصيفًا عابرًا، بل يعيد إنتاج سردية مُؤسسِّة تجعل من المغرب عنصرًا ثابتًا في تحديد هوية الدولة. وفي الإعلام الرسمي، تتردّد عبارات من قبيل "الكيان الصهيوني الجديد"، و"النظام المخزني العدواني/ التوسعي"، و"المخزن الإرهابي"، في سياق يرمي إلى تضخيم تهديد الآخر وإخفاء أي صورة إيجابية له. وحتى على المستوى الدبلوماسي، تصرّ الجزائر في محافل متعددة على توصيف المغرب بأنه مصدر عدم الاستقرار في شمال إفريقيا، في حين تُهمل دور الرباط في مكافحة الإرهاب ودعم الأمن الإقليمي. إن هذا النمط الخطابي يؤكد جميع آليات المربّع الإيديولوجي: تمجيد الذات، وإخفاء تناقضاتها مع تضخيم مساوئ الآخر، ومحْو فضائله، مما يجعل أي تقارب مع المغرب يبدو وكأنه تهديدًا لثبات السردية الرسمية، أكثر مما يبدو خطوة نحو السلام. إذا كانت الوحدة الجزائرية — في جزء منها — مبنية على "استقطاب أيديولوجي"، يجعل من المغرب محورًا لتعريف الذات، فكيف يمكن تعديل هذا النموذج دون أن تتفكك بنيته الداخلية؟ وهل تستطيع السلطة في الجزائر الانتقال من خطاب العداء إلى خطاب التنمية والحداثة، أو أن هذا التحول يهدد توازنات داخلية حساسة، لا ترغب السلطة في الاقتراب منها، بل تعمل على تقديسها عبر تبني مقاربات تُغلِّفٌها بالشرعية الحقوقية والأخلاقية، والتاريخية والرمزية، فتُقحِمها في دائرة الهوية والعقيدة الوطنية؟ تواجه الجزائر معضلة أعمق تتعلق بقدرتها الفعلية على الدخول في مشروع تنموي حديث. فالبلاد تفتقر — بنيويًا — إلى البنية التحتية الملائمة، وإلى الكفاءات البشرية المؤهلة، وإلى نماذج الحوكمة التي تسمح بإطلاق مشاريع استراتيجية كبرى. وقد أدّى اعتماد النظام لعقود على منطق "العسكرة الشاملة" — حيث تُستعمل أدوات الدولة أساسًا للتعبئة والسيطرة لا للتخطيط والإنتاج — إلى تعطيل بناء مؤسسات قادرة على التفكير في المستقبل أو إدارة التحولات الاقتصادية. لهذا، يجد النظام نفسه أسير خطاب العداء، لأنه يعوض عجزه عن تقديم بدائل اقتصادية وتنموية، بخلق خصومة مزمنة مع الجار الغربي. إن ضعف جاهزية الدولة للانتقال نحو نموذج حداثي، يفسر أيضًا خوفها من أي تقارب مع المغرب، لأن مثل هذا التقارب سيفضح الفارق الهائل في القدرات والمؤسسات والخيارات الاستراتيجية بين البلدين. إن السياق الدولي اليوم، لم يعد يحتمل نزاعات مُفتعلة تستعملها الأنظمة كأدوات لإنتاج الشرعية، حيث تدفع القوى الكبرى، والمؤسسات الأممية، والمناخ الجيوسياسي الإقليمي، نحو حلول مستقرة، وترى أن استمرار الأزمة يُضعف شمال إفريقيا اقتصاديًا وأمنيًا. وهنا يفرض الواقع أسئلته: إلى أي مدى تستطيع الجزائر مقاومة هذا الضغط؟ وما التكلفة السياسية والاقتصادية التي ستتحملها للاستمرار في سياسة "المواجهة الرمزية" مع المغرب؟ يرسل المغرب من جهته إشارات هادئة ومتكررة نحو التهدئة، متمسكًا بالحكم الذاتي بوصفه خيارا استراتيجيا وحيدا، ومستعدًا — نظريًا — لإعادة بناء علاقات مغاربية جديدة. لكن هل تجد هذه الإشارات من يتلقاها في الجزائر؟ وهل يمكن لبلد بُني جزء من وعيه السياسي على وجود "عدو ضروري" أن يتنازل عن هذا البناء دون زلزال اجتماعي وسياسي داخلي؟ إن مستقبل القرار 2797 لا يرتبط بموقف المغرب — الذي يمتلك رؤية واضحة — بقدر ما يرتبط بقدرة الجزائر على تفكيك المربّع الأيديولوجي الذي شكّل خطابها ناحية المغرب لسنوات. فإذا ظلت الهوية السياسية الجزائرية سندًا لمنطق "شيطنة الآخر"، فسيكون من الصعب تصور أي مسار تفاوضي جاد. أما إذا استطاعت الجزائر إعادة تعريف ذاتها عبر مصلحة وطنية مستقلة، لا عبر العداء، فقد يكون القرار بداية لمرحلة جديدة تنتهي فيها آخر بؤر التوتر في شمال إفريقيا. ويظل السؤال الذي لا مفر منه مطروحا: هل تستطيع الجزائر تجاوز خطاب العداء الذي بنَت عليه تماسكها الداخلي؟ وأن القرار الأممي سيصطدم، مرة أخرى، بجدار نظام يحتاج إلى "عدو خارجي" أكثر مما يحتاج إلى السلام؟ هل تستطيع الجزائر تفكيك سردية العداء بعد قرار مجلس الأمن؟ . ذ. محمد معروف، جامعة شعيب الدكالي