تقديم هل يحتاج المغرب أما المطالب الاجتماعية لاستلهام العبر من ما وقع ويحصل في مجال كرة القدم؟ لم لا والمنتخب الوطني لهذا الصنف من الرياضات حقق المرتبة الرَّابعة عالمياً. فالمغرب بانتقاله للسرعة النهائية في مجال كرة القدم شباباً وكباراً، دون نسيان نتائج كرة القدم داخل القاعة والكرة النسوية، أصبح من بين الأمم العشر الأوائل في العالم، أداءً، ونتيجة، وبلغة الأرقام، وبعظيم الفرحة التي جعلت المغاربة يخرجون للاحتفال بعد مواجهات قوية مع أبطال العالم. ضخت النتائج سيولة مادية في خزينة الدولة، وأدخلت سعادة لا مادية لا تقدر بثمن؛ فرِحَ المغاربة في الدَّاخل والخارج، وسُرَّ المتعاطفون من سكان المعمور، أما العرب فالمغرب سكن في قلوبهم وأصبحوا يُطالبون بالكشف عن أسرار وصفته ومنهم من لجأ لخبرات أبنائه من أجل التأطير والتدريب بغاية الإقلاع سريعاً وعالمياً. فالتتويج الذي لم يتم إنجازه بقطر بآسيا 2022 تم إنجازه في قارة أمريكا جنوباً بدولة الشيلي حيث استطاع جيل الشباب أن يُثبت للجميع أنه هو البترول وهو الذهب. ذهب شبابنا لأمريكا اللاَّتينية لفتح جديد فنشرَ قِيمَ الكفاءة وجَلبَ العِزَّة وجلبَ الذهب. الزمن الكروي السَّريع يقول المُتخصصون بأن كرة القدم باتت تُلعب اليوم على إيقاع السُّرعة القُصوى، عند الهجوم أو عند العودة للانكماش بالدفاع. تُجرَّبُ أساليبها أمام الخصوم، ورغم ديناميتها فالسُّرعة في الملعب لا تعني التَّسرع؛ هذه العبارة كنا نسمعها من الواصفين الرياضيين وما زالت عصية على الفهم بعض الشيء. كما أن بعض المدربين، في خضم مواجهة الخصوم، صارت لهم مراتب الضُّباط؛ يُنعث المجتهد منهم ب "الجنرال" والفريق ب "الكتيبة" أو ب"الكومندو"، لأن كرة القدم بكل بساطة "حرب حامية" للتموقع بين الدول لكن بروح السِّلم. تجري رحى هذه "الحرب" على أرضية الميدان، بقواعد، وبمتابعة جماهيرية، ويتابع أطوارها في السنوات الأخيرة الشَّباب والنِّساء. و تتميز بالجمع بين السرعة مع الحذر من ردة الفعل المُباغثة للخصوم؛ الشيء الذي يتطلب من اللاَّعبين قُدرات استثنائية تجمع بين اللياقة البدنية، والمهارات التقنية، واستيعاب الخطط، وسرعة البديهة، والعمل من أجل الفريق، واحترام المنافس. يقول المتدخلون لتحفيز اللاعبين ما مضمونه: " كل هذه التضحيات تهون أمام إسعاد الجماهير". مع العلم أن الخرجات الإعلامية للمدربين واللاَّعبين تخضع لقواعد التكوين؛ أي لتأطير مُسبق مما يستدعي التَّحلي بالروح الرياضية داخل وخارج الملعب. لن يأتِ هذا الجهد بالنتائج السَّارة إلا بتوفير منظومة قيم تجعل الفعل على الأرض لا ينفصل عن التكوين المبكر. مع العلم بأن الاستثمار أولا وأخيراً هو في بناء الإنسان في مراحل مبكرة فهو سر من أسرارِ النَّجاح وتقدم الأفراد، الأسر، والمُؤسسات، والدُّول. لقد حقق المغرب في السَّنوات الأخيرة قفزة محمودة لا زال العالم لم يستوعبها بعد وآخرها التتويج بكأس العالم للشباب بالشيلي يومه 20 أكتوبر من 2025، ويبحث عدة خبراء عن سر الوصفة التي يمكن من خلالها تفسير ما يقع لتجريبها في بيئة أخرى. وأمست عدة دول تحسب ألف حساب قبل مواجهة المنتخب المغربي ولم تكتف المملكة المغربية بالفريق الأول بل دفعت حتى بفِرق الشَّباب بما في ذلك " فوت صال " والفريق المحلي والنسوي، بل ما أبهر كذلك الجميع – في الداخل والخارج – هي مواكبة هذه النتائج بجودة الملاعب والمنشآت، بطراز جمع بين الجمالية والجودة في أدق تفاصيلها مما جعل الأصوات داخلياً ترتفع لاستلهام مضامين هذه الاستراتيجية وتطبيقها في مجالات أخرى ومنها التعليم والصحة. واعتبر الفاعلون السياسيون هذا الربط فرصة ليمضي المغرب قُدماً في تحسين الجودة في مجالين أساسين (الصحة والتعليم) خدمة لبناء الجسم الاجتماعي، مِمَّا سيمكن الأفراد والجماعات من المشاركة بحماس في نهضة شاملة في شتى الميادين، وبالتالي تقدم للمغرب الوتبة المطلوبة للالتحاق بالدول الصَّاعدة. نعتبر احتلال المرتبة الرابعة عالميا في كأس العالم قطر 2022 والتتويج حاليا بكأس العالم للشباب بالشيلي نتيجة لوجود إرادة سياسية تجلت مضامينها في الرسالة التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى المشاركات والمشاركين في المناظرة الوطنية الثانية حول الرياضة بالصخيرات (أكتوبر 2008)، وترجمت على الأرض بإنشاء أكاديمية محمد السادس بمعايير دولية سنة 2009، وإطلاق جيل من المنشآت الرياضية بما فيها "مركب محمد السادس لكرة القدم"، الذي تم تدشينه في دجنبر 2019 في المعمورة (شرق سلا)، ومرافقة ذلك بقوانين التربية البدنية والرياضة، وإطلاق برامج تكوين الأطر الوطنية، وربط العلاقات المؤثرة والمتينة مع كافة الشركاء على المستويات الوطنية، الإفريقية، والدولية، بلغ صداها بأروقة الجامعة الدولية لكرة القدم الفيفا. كان من مداخيل هذه السياسة الواضحة المعالم اختيار مسيِّر مُناسب في المجال المناسب – وهو السَّيد فوزي لقجع – الذي دبر هذا الحقل بحنكة وبمتابعة ميدانية قل نظيرها. وتُوجت هذه المجهودات باختيار المغرب لتنظيم كأس العالم سنة 2030 مناصفة مع إسبانيا والبرتغال. إن هذا الإصرار يبين بأن الطموح المغربي مستمر وأزمنته متداخلة بحيث لا يمكن فك بعده الآني والمتوسطي عن زمنه الطويل الذي شهد تراكمات جعلت المغرب يكون على ما هو عليه اليوم. الخلفية الثقافية لشخصية البطل لسيت هذه الإنجازات بالأمر الهين، غير أن المركز الرابع عالميا للكبار والأول عالميا للشباب خلق حالة نفسية طبعها الافتخار، والانبهار، مما زاد من الضغط ورفع من سقف الانتظارات؛ فإنجاز المنشآت في زمن قياسي شكل حملاً ثقيلاً وعبئا؛ مما يدعو لمواصلة المسير والنهوض بالقطاعات الاجتماعية ولو اقتضى الأمر إعادة ترتيب الأولويات من الجبل للدير، للواحة وللساحل والعودة في حركية من الجنوب للشمال، ومن وجدة والناضور للرباط بسرعة واحدة دون تسرع. يمكن ان نستحضر نصًّا فريداً للأكاديمي إبراهيم بوطالب حيث يقول عن حركية الإنسان المغربي وهو يجول في مجاله الطبيعي والحيوي بالمملكة المغربية : " إن التفاوت بين من نشأ في مجال محصور ضيق ومن نشأ على العكس وهو يعلم أن الأرض الموكولة به واسعة، وأنه إن ضاق الأمر به في سوس، فما عليه إلا أن ينتقل إلى الهبط وإن ضاقت به عيون سيدي ملوك فما عليه إلا بعيون الساقية الحمراء في الصحراء الساحلية. ولعل هذه الظاهرة هي التي تجعل المغربي إنسانا متحركا بالسليقة. " وهذه الأبعاد التاريخية الدفينة " للشخصية المغربية" أصبحت تزكي الثقة في القدرات المحلية والتي ازدادت بتفنيد الأطروحات الاستعمارية التي انتصرت للمركزة الأوربية؛ كما أن اكتشاف بقايا إنسان إيغورد سنة 2017 ساعد على توسيع الزمن المغربي ليغطي 300 ألف سنة على أقل تقدير، وتهاوت بالتالي سرديات الأصول المشرقية أو الجرمانية بهذا الاكتشاف وباكتشافات سابقة منها إنسان سدي عبد الرحمان وطوما بالدار البيضاء، سرديات لم تعد تستند لآثار ملموسة. إن الذات المغربية في طور تشكيلها عبر العصور جنحت للاستقلال والحرية كما يقول المرحوم علال الفاسي، ودافعت عن حضورها دون قطع الصلة لا بالشرق ولا بالغرب، بما في ذلك مغاربة العالم. وظلت الرغبة في ركوب بحر الظلمات في اتجاه الضفة الأخرى قائمة بحثا عن آفاق جديدة سعيا لترك الأثر. إن رُبع القرن الأول من الألفية الثالثة قدم معطيات أركيلوجية جديدة ساهمت بدورها في تعزيز ثقة المغربي بنفسه وخلقت تجديداً في وسائل بناء قدراته وأعادت موضوع " الشخصية المغربية" للتداول في هذا التوقيت بالذَّات كما تُبين ذلك بعض الإصدارات ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، إصدار الباحث حسن رشيق (القريب والبعيد: قرن من الانثروبولوجيا بالمغرب، 2018)، العمل الأخير للأكاديمي حسن طارق (الوطنية المغربية، 2023)، كتاب للمؤرخ الطيب بياض (الشخصية الوطنية: تأصيل وتأويل، 2024)، فهذه الأعمال وغيرها جاءت كمحاولة لتفسير تشكلات الخصوصية المغربية والتي وقفت في وجه آل عثمال وصدَّت الأطماع الخارجية وبنت امبراطوريات على الملح مقابل الذهب، ما عبر عنه عبد الله العروي في مؤلفه (مجمل تاريخ المغرب، الطبعة الخامسة، 1996) ب"النفسانية المغربية". إن المعارك تُربح من زمن المرابطين لليوم بالاعتماد على عنصر المفاجأة وبالتقدم بالقوة الاحتياطية كورقة رابحة في تكتيك مبني على الدفاع والهجوم المباغت، أي الانكماش ثم الحملات المضادة (انظر مؤلفنا أب في الذاكرة،2021، ص. 22) وهذا ما كرسته مقابلات فريق الوطني المغربي لكرة القدم للكبار بقطر 2022، وللشباب بالشيلي 2025. وخلال ربع قرن تجند المغرب لكسب رهانات جديدة متجاوزا عدة أزمات؛ فتفاعل إيجابياً مع الربيع العربي 2011، وبادر لتطويق أزمة كورونا 2020، وجند إمكانياته الذاتية للتخفيف من تبعات زلزال الحوز 2023، ورد على المركزية الأوربية بديبلوماسية وحكمة مبرزاً قدرات سيادية في التآزر والتدبير بنبوغ في الفكر والأدب كما يقول المرحوم العلامة المختار السُّوسي، وفي الفعل الميداني لأن المغرب أرض الشجاعة والحرية، والجود والكرم بشهادة كبير المتصوفة المرحوم أبو العباس السبتي، وسيظل المغرب علامة ساطعة بين الأمم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. مجمل القول يمكن للمغرب أن يتوج قريباً بكأس العالم للكبار ما دامت عجلة الزمن الكروي المغربي تدور في حركية غير مسبوقة. كما يمكن للمغرب أن ينقل تجربته من مجال كرة القدم لقطاعات اقتصادية واجتماعية وثقافية من أجل نهضة شاملة غايتها إسعاد سكان المدن والقرى وذلك بشن هجوم كاسح على الفقر وعلى الجهل وعلى ثقافة الاتكال والكسل، والانتصار للقيم الأخلاقية وللكفاءة. لقد أكد خطاب صاحب الجلالة لعيد العرش الأخير الذي صادف الذكرى السادسة والعشرين لتربع جلالته على عرش أسلافه الميامين على فحوى هذه الانتظارات حيث يقول مخاطبا الشعب المغربي مساء يوم الثلاثاء 29 يوليوز 2025: "تعرفُ جيدا أنني لن أكون راضياً، مهما بلغ مستوى التنمية الاقتصادية والبنيات التَّحتية، إذا لم تساهم، بشكل ملموس، في تحسين ظروف عيش المُواطنين، من كل الفئات الاجتماعية، وفي جميع المناطق والجهات. لذا، ما فتئنا نُولي أهمية خاصة للنُّهوض بالتنمية البشرية، وتعميم الحماية الاجتماعية، وتقديم الدعم المباشر للأسر التي تستحقه".