"البيجيدي" يحسم الانتخابات الجماعية الجزئية في بنسليمان    نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي تجدد التأكيد على موقف بلادها الداعم لمبادرة الحكم الذاتي    صديقي : المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب فرصة للترويج للتجربة المغربية    جنيف .. تحسين مناخ الأعمال وتنويع الشركاء والشفافية محاور رئيسة في السياسة التجارية للمغرب    قضية برلمانية : أكثر من 8500 فرد تمكنوا من اقتناء سكنهم في إطار الدعم المباشر للسكن    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و262 شهيدا منذ بدء الحرب    إعلان فوز المنتخب المغربي لكرة اليد بعد انسحاب نظيره الجزائري        أفلام متوسطية جديدة تتنافس على جوائز مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط        تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    تفاقم "جحيم" المرور في شوارع طنجة يدفع السلطات للتخطيط لفتح مسالك طرقية جديدة    "الخدمة العسكرية"..الإحصاء يشارف على الانتهاء وآفاق "واعدة" تنتظر المرشحين    حيوان غريب يتجول في مدينة مغربية يثير الجدل    مبادرة مغربية تراسل سفراء دول غربية للمطالبة بوقف دعم الكيان الصهيوني وفرض وقف فوري للحرب على غزة    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    جماهري يكتب.. 7 مخاوف أمنية تقرب فرنسا من المغرب    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    المنتخب الوطني الأولمبي يخوض تجمعا إعداديا مغلقا استعدادا لأولمبياد باريس 2024    مفوض حقوق الإنسان يشعر "بالذعر" من تقارير المقابر الجماعية في مستشفيات غزة    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    بنسعيد يبحث حماية التراث الثقافي وفن العيش المغربي بجنيف    جلسة قرائية تحتفي ب"ثربانتس" باليوم العالمي للكتاب    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    اتجاه إلى تأجيل كأس الأمم الإفريقية المغرب 2025 إلى غاية يناير 2026    انتقادات تلاحق المدرب تين هاغ بسبب أمرابط    إساءات عنصرية ضد نجم المنتخب المغربي    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    هل تحول الاتحاد المغاربي إلى اتحاد جزائري؟    "إل إسبانيول": أجهزة الأمن البلجيكية غادي تعين ضابط اتصال استخباراتي ف المغرب وها علاش    إقليم فجيج/تنمية بشرية.. برمجة 49 مشروعا بأزيد من 32 مليون درهم برسم 2024    تفكيك عصابة فمراكش متخصصة فكريساج الموطورات    بنموسى…جميع الأقسام الدراسية سيتم تجهيزها مستقبلا بركن للمطالعة    للمرة الثانية فيومين.. الخارجية الروسية استقبلات سفير الدزاير وهدرو على نزاع الصحرا    شركة Foundever تفتتح منشأة جديدة في الرباط    نوفلار تطلق رسميا خطها الجديد الدار البيضاء – تونس    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الكونغرس يقر مساعدات لأوكرانيا وإسرائيل    رئيس الوزراء الأسترالي يصف إيلون ماسك ب "الملياردير المتغطرس"    توفيق الجوهري يدخل عالم الأستاذية في مجال تدريب الامن الخاص    نانسي بيلوسي وصفات نتنياهو بالعقبة للي واقفة قدام السلام.. وطلبات منو الاستقالة    الصين تدرس مراجعة قانون مكافحة غسيل الأموال    بطولة انجلترا: أرسنال ينفرد مؤقتا بالصدارة بعد فوز كبير على تشلسي 5-0    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل للمباراة النهائية على حساب لاتسيو    الولايات المتحدة.. مصرع شخصين إثر تحطم طائرة شحن في ألاسكا    الصين: أكثر من 1,12 مليار شخص يتوفرون على شهادات إلكترونية للتأمين الصحي    إيلا كذب عليك عرفي راكي خايبة.. دراسة: الدراري مكيكذبوش مللي كي كونو يهضرو مع بنت زوينة    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    حزب الله يشن أعمق هجوم في إسرائيل منذ 7 أكتوبر.. والاحتلال يستعد لاجتياح رفح    الأمثال العامية بتطوان... (580)    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    آيت طالب: أمراض القلب والسكري والسرطان والجهاز التنفسي مزال كتشكل خطر فالمغرب..85 في المائة من الوفيات بسبابها    العلاج بالحميات الغذائية الوسيلة الفعالة للشفاء من القولون العصبي    كيف أشرح اللاهوت لابني ؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شمس الحرية تقيد الخفافيش
نشر في هسبريس يوم 05 - 03 - 2015

نستنكر نحن المسلمين على الدول الغربية أي قانون تصدره بهدف تقييد حريات المسلمين في بلادها، ونحتج ضد أي إجراء تنتهجه لإقصاء إخواننا عن مراكز القرار، وأي تضييق على علمائنا ودعاتنا وعاداتنا... رغم أن كثيرا من معتقداتنا ومواقفنا مصادم للثقافة الغربية وقيمها.ونستند في استنكارنا واحتجاجنا إلى الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وربما يلجأ بعضنا للمنظمات الإنسانية والحقوقية الغربية للشكوى.
ثم تجدنا، علماء وسياسيين ومثقفين، نرفض الترخيص للأحزاب والمؤسسات لإخواننا في الوطن من العلمانيين واليساريين...، ونجرم أي صوت يخالف معتقداتنا الفرعية قبل الأصلية، بل ويفتي بعض فقهائنا بضرورة معاقبة كل مثقف أو مفكر تسول له نفسه التعبير سلميا عن موقفه المضاد لما نعتبره قيما إسلامية مسلمة.
ونغضب نحن أهل السنة لإخواننا المهمشين المقصيين المضطهدين في دولة إيران، فنتساءل: كيف تلجم الحكومة الإيرانية أصوات الأقلية السنية؟ ولماذا تمنع أهل طائفتنا من المناصب السياسية والعسكرية؟ وما السبب في عدم وجود مسجد سني في العاصمة طهران؟ ولم لا تسمح للسنة بتأسيس جمعية أو حزب سياسي؟...نستهجن ذلك ونستنكره خصوصا وأن إيران تدعي كذبا وزورا أنها "جمهورية إسلامية".
وتتعالى أصوات علمائنا ومثقفينا الغاضبة على إيران لسياساتها اللاإسلامية واللاإنسانية ضد أهل السنة، رغم أن موروثنا يكفر الشيعة أو يحكم عليهم بالضلال وفساد المعتقد، وأننا ننتهج المسلك نفسه ضد الشيعة والمتشيعين في غالب الأحوال.فلماذا التناقض في مواقفنا الفقهية والسياسية والاجتماعية؟ولماذا نعيب على غيرنا ما نحن غارقون فيه حتى النخاع؟
حرية الفكر والكفر شريعة ربانية:
دعونا من أقوال وآراء علمائنا المتقدمين، الداعية إلى إقصاء واضطهاد المفكرين المسلمين المخالفين لاختيارات الجمهور، تحت عنوان محاربة أهل البدع وحماية عقيدة العامة. فقد كانت تلك الأقوال والمواقف نابعة من أحد هذه الأسباب:
الأول: نشوة القوة والتمكين:
كان سلفنا أهل السنة أقوياء أيام الأمويين والعباسيين، وبفعل ذلك سكرت غالب عقول علمائنا، فصاروا يفتون بضرورة محاصرة كل فكرة تشذ عن المقرر عندهم، ويجرمون كل دعوى تخالف مذاهبهم في العقيدة والفروع، ويستحلون أي اضطهاد أو تشريد ينزله الحكام بمن يصفونهم بالمبتدعة كالشيعة والمعتزلة، متناسين أنهم يمقتون ويجرمون ما فعله مشركو مكة بالمسلمين قبل الهجرة.
ويتكرر المشهد اليوم، فيستنكر علماؤنا أي أذى يلحق المسلمين في بلاد غيرهم، ويطالبون بالحرية لإخوانهم، ثم يضطهدون بفتاواهم كل صوت حر، بل ويستمتعون إذا أنزلت حكوماتنا أي عقاب معنوي أو مادي بلبرالي أو يساري أو شيعي، على الرغم من أن حكوماتنا تفعل ذلك حفظا للأنظمة لا للدين والقيم.
الثاني: إرضاء هوى الحكام:
كان بعض المعارضين السياسيين للأمويين ثم العباسيين ينتحلون آراء غير السنة، فكان الحكام يركبون ذلك مطية للتخلص من الأصوات المشوشة عليهم، بل ويستغلون ذلك لإثبات حرصهم المزيف على دين الأمة، ويرسخون مشروعيتهم لدى الجماهير.وكان علماء القصور وديدان القراء يتزلفون إلى الحاكمين، فيفتون لهم بضلال المعارضين، ويحرضونهم على التنكيل بهم باسم الدين، وهم كاذبون خداعون.
إن الأمثلة على هذا كثيرة في تاريخنا، نحن معشر السنة، يعرفها المشتغلون بالحديث وتراجم الرجال وعلم الكلام، ولا ينكرها إلا من يقدس الهوى المذهبي.وما عليك، إن كنت شاكا أو مكذبا، إلا أن تنظر تراجم الأئمة سعيد بن جبير التابعي، والنسائي صاحب السنن، وابن جرير الطبري المفسر، وابن حزم الأندلسي وابن تيمية...
والحال نفسه يتكرر في عصرنا، فكم من مفكر مسلم حر تم تكفيره أو تضليله وتبديعه، ودعا بلهاء العلماء إلى تهميشه وزجره، وعارض "الأساتذة" الجامعيون حصوله على الدكتوراة، واكتفى "المعتدلون جدا" بالتحذير من كتبه ومحاضراته، لأنه أفتى بجواز الغناء والموسيقى الخالي من الفحش، أو أباح للمسلمين المهاجرين اقتناء السكن بواسطة القروض البنكية، أو صاح بين العاطفيين النائمين أن سيدنا آدم ليس أول بشر...
الثالث: ردود الأفعال الرعناء:
كان أهل الفرق والنحل التي وصفها جمهور علماء السنة بالضلال، واضطهادها من قبل حكامهم، إذا سنحت لها فرصة تاريخية، فأقامت دويلة لها، أو سيطرت على ناحية من بلاد المسلمين، تنتقم من أهل السنة علماء وعامة، فتشردهم وتبيدهم أو تكتفي بفرض نحلتها عليهم بكل قسوة، تفعل تماما كما فعل سلفنا المنحرف بسلفها.
ثم لا ينتبه عقلاء علمائنا إلى أن البادئ إلى الظلم والاضطهاد هو المسئول عن إصلاح مسار الأمة، وإيقاف نزيف دماء أبنائها مهما اختلفت معتقداتهم، بل يقومون بردود أفعال طائشة، فيكفرون أتباع الفرقة المنتقمة، ويقرون فساد أصولها ومنطلقاتها ولو كان بعضها حقا، ويحرضون الحاكمين على الانتقام، فتتسلسل الويلات في الأمة جيلا بعد جيل.وهذا ما تنتهجه الأمة المريضة التالفة اليوم، بسبب انحراف جمهور علمائها ومثقفيها فضلا عن سياسييها عن الإسلام الحق.فالشيعة ينتقمون في إيران وسوريا والعراق واليمن من إخوانهم السنة، حيث يحملونهم وزر ما لحق أسلافهم على أيدي الأمويين والعباسيين والعثمانيين.وشباب السنة يقومون بردود أفعال طائشة هنا أو هناك.
وعلماؤنا يمعنون في تقليد أقوال السلف الخاصة بزمانهم وأحوالهم، البعيدة عن روح القرآن والسنة، فيكفرون الشيعة وينعتونهم بأبناء الزنا، ويؤكدون بدون خوف أو حياء من الله أن الإيرانيين مجوس أنجاس، وهم يقولون كما نقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويستقبلون قبلتنا، ويحفظون ويقرؤون كتابنا...
إن الأمة في عمومها سنية، وإذا لم تعمل طائفتنا على وقف الحرب بيننا وبين الشيعة، ولم يعترف علماؤنا بحق الشيعة في التعبير والحياة بيننا، فإن رحمة الله بهذه الأمة تبقى معلقة بين السماء والأرض لا محالة.ولست أعني هنا أن يستسلم الشعب السوري لإجرام نظام بشار وحليفه إيران، فالشعب السوري مظلوم محتل، على الجميع أن يدعمه بما تسمح به القوانين والأعراف الكونية حتى يتحرر من النظام القاتل، ويفشل مخطط ساسة إيران في السيطرة على غير أرضها.وإنما أعني أن لا يكون إجرام ساسة إيران وحلفائها دافعا لتكفير الشيعة، ووسيلة لاضطهادهم في البلاد التي يحكمها السنة.
كما أعني أن الصلح مع إيران، بعد طردها من سوريا والعراق وغيرهما، أمر لا مفر منه، فشعبها مسلم جزء من أمة محمد، ومشكلتنا مع سياستها ونهجها العدواني.ونحن السنة إذا توحدنا فيما بيننا، وتجاوزنا خطايانا وأخطاءنا في كل المجالات، قادرون على تهذيب ساسة إيران وضبط غلوائهم، فنحن الأخ الأكبر الأقوى أحبت إيران أم كرهت.
عودة إلى الشريعة الربانية:
قلت: دعونا من الماضي وما سطره علماؤه علماؤنا، وتعالوا نتساءل: ما موقف كتاب ربنا وسنة نبينا من حرية الفكر والكفر ما لم يتحول إلى عنف ضد المسلمين، وما التزم أصحابه بقوانين الدولة المسلمة؟
إن المسلم المهاجر في ديار الغرب، يعبر عن معتقداته بحرية تامة، لكنه لا يتزوج امرأتين هناك، لأن القانون المنظم للمجتمع يمنع، فيجمع المسلم بين حرية التفكير واحترام قانون البلد.فهل يسمح القرآن الكريم والسنة الشريفة للشيعي في بلادنا السنية أن يصرح بمواقفه ومكنونات قلبه، ويمارس عبادته وفق مذهبه، دون أن يلعن رموزنا من الصحابة؟وهل يسمحان للعلماني واليساري والملحد أن يشعروا بالحرية الفكرية، مع التزام القانون المستمد من الشريعة، فلا يعلنون الزنا مثلا، ولا يؤذوننا في مقدساتنا لأن ذلك جريمة اجتماعية وليس حرية شخصية؟سيقول الفقه المتعصب المقلد للموروث التاريخي: لا يسمحان بشيء من ذلك.
أما نحن فنقول: إن حرية الفكر والكفر هي الأصل في كتاب ربنا وسنة نبينا:
قال الله تعالى في كتابه المحكم: (لا إكراه في الدين)، أي لا يجوز إكراه أحد على اعتناق الإسلام.وقال سبحانه معلما رسوله والمسلمين من بعدهم أن يقولوا لغيرهم، معلنين مسالمة الكافرين واحترام اختيارهم: (لكم دينكم ولي دين).أي استمروا على دينكم الكافر إذا لم تتقبل عقولكم ديننا، ولتكن العلاقة بيننا وبينكم مؤسسة على الاحترام المتبادل، والعيش المشترك في وطن واحد من غير ظلم ولا إقصاء.
وقال سبحانه في سورة "ق" مؤكدا المعنى نفسه:
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ، وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) أي أن الله يعلم ما يقوله المشركون من كفر وإلحاد، لكنك لست حقيقا بمنعهم والسيطرة على قلوبهم وعقولهم، إنما مهمتك أن تدعو وتنصح بالحكمة والموعظة الحسنة.
ثم أعلنها ربنا مدوية في سورة الكهف، لكن المسلمين اليوم لا يريدون السماع، فقال: ( وَقُلِ الْحَق مِن ربِّكُمْ، فَمَن شَاء فليومن، وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ، إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ...) إنه إعلان كوني معناه: أيها البشر، أنتم أحرار في اختيار العقائد والأفكار، ولو كفرتم بي فلن أعاقبكم في الدنيا، ولن أسمح لأحد أن يكرهكم على دينه ولو كان نبيا، واعلموا أنني أجلت حسابكم وعقابكم إلى الآخرة.
هذا بخصوص الكافرين من المشركين والملحدين، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى ونحوهم كالصابئة، فحريتهم في الكفر والفكر قضية مسلمة عند علمائنا قديما وحديثا، فلا نطيل بذكر الآيات المقررة لها. ولسنا بحاجة إلى من يعلمنا تفسير كلام ربنا الواضح فيما ذكرنا من آيات، ولا جاهلين بأقوال علمائنا في مثلها. فكل فهم يناقض ما قلناه، فيدعي أن المشركين والوثنيين والملحدين ليسوا أحرارا في بلاد الإسلام، هو فهم راجع إلى سكرة سلفنا بقوتهم، ثم تقليد من تأخر لمن تقدم.
إن هذا التصور الساذج لبعض الفقهاء والدعاة يرهب المحكومين قبل الحكام، ويفزع عامة المسلمين قبل العلمانيين، ويجعل الجميع يتخندق ضد الحكم الإسلامي.وهذا التصور كان سائدا في أدبيات غالب الإسلاميين إلى عهد قريب بفعل ردود الأفعال والصراع الأيديولوجي مع الطبقات المغربة تفكيرا وسلوكا. واليوم نضج الإسلاميون، وأصبحوا واقعيين إلى حد كبير، وصاروا يدلون بتصريحات مطمئنة، تسندها تجربتهم في تركيا. وإن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها زمن النبوة والخلافة الراشدة.
لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام بالمدينة بعد الهجرة إليها مباشرة، وظل يسوسها عشرة أعوام وسط أعداء كثر من العرب والعجم، ونجح في بسط مشروعه الرباني وتوحيد قبائل العرب، لأن نظام حكمه كان يتأسس على الحرية واحترام قناعات الناس. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمح لقبائل المشركين بالحج والعمرة في السنتين الثامنة والتاسعة وفق طقوسهم الشركية المصادمة للتوحيد المأمور به منذ بداية النبوة. وكان نساء بعض تلك القبائل تطفن عاريات، فسمح لهن بذلك رغم وجود المسلمين إلى جانبهن. ولم يمنع المشركون من الحج إلا في السنة العاشرة بعد أن أسلمت جل قبائل العرب.
وكان المواطنون في دولة الإسلام على عهد النبوة خليطا متنوعا كما يصور هذا الحديث الصحيح:
روى البخاري عن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا! فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ، إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا. ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا، ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ. قَالَ: كَذَا وَكَذَا. قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ عَنْهُ، فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ، لَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِك،َ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ! فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى.
فمكونات الدولة الإسلامية حسب هذه الوثيقة وغيرها كانت كالآتي:
المسلمون: وهم الصحابة من المهاجرين والأنصار.
المنافقون: بعضهم من أهل المدينة وغالبهم من الأعراب، وهم مسلمون في الظاهر كافرون في الباطن، لكنهم يلتزمون بالنظام العام للدولة الإسلامية، ولا يمارسون أي تهديد مسلح لها، لذلك كان النبي وصحابته يعاملونهم على أنهم مسلمون، فيشركونهم معهم في الجهاد والمهام الأخرى، ويعطونهم نصيبهم من الغنائم وإن صدر من بعضهم سوء أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأس المنافقين.
وقد أسلم من بقي منهم إلى زمن الصديق والفاروق، وحسن إسلامهم نتيجة رفق الإسلام وحكمة المسلمين.
المشركون: وهم قلة من أهل المدينة، لم يسلموا ولم ينافقوا، ومعهم بعض القبائل العربية المجاورة للمدينة، وهؤلاء لم يشكلوا أي تهديد للمسلمين، بل كانوا يحترمون النظام العام، ويدافعون مع المسلمين عن المدينة من باب العصبية، لذلك ظلوا يقيمون بها ويمارسون حياتهم ومعتقداتهم بحرية، وكان بينهم وبين المسلمين احترام وصلات اجتماعية قوية كما ترى في الحديث المتقدم.
وبعد فتح مكة والطائف وإسلام غالب أهلهما، سمح المسلمون للمشركين منهم بالإقامة في الدولة الإسلامية من غير إكراههم على الدخول في الإسلام، ومن غير منعهم من ممارسة عباداتهم الوثنية داخل بيوتهم.أهل الكتاب: وهم يهود المدينة ونصارى نجران وغيرهم، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة معاهدة تدل بنودها على أنهم جزء من الدولة الإسلامية، مع ضمان حريتهم الدينية، لكنهم نقضوا العهد فاستحقوا الجلاء.وأما النجرانيون فظلوا مواطنين أحرارا في ظل الحكم الإسلامي إلى أن دخل بعضهم الإسلام طواعية.
وانطلاقا مما ذكرنا، ندرك أن دولة الإسلام السني الحقيقي لا تقصي أصحاب التيار العلماني السلميين، بل ستعاملهم معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين، لأن العلمانيين لا يصرحون بالكفر بل يصرون على أنهم مسلمون.ولست أنعت هنا العلمانيين بالمنافقين، بل أشبه بينهم فقط في المعاملة.
وأما المصرحون بالإلحاد والكفر من غير أهل الكتاب، فدولة الإسلام السني الحق تنهج معهم أسلوب النبوة في التعامل مع مشركي المدينة الملتزمين بالنظام العام، فتكفل لهم حق التعبير عن أفكارهم ما لم يقترن بالتهجم على تعاليم الإسلام، ولن تكرههم على اعتناق تلك التعاليم، ولن تطبق عليهم حكم الردة لأنهم اختاروا الإلحاد في غياب الحكم الإسلامي وما صاحبه من جهل، ولن تمنعهم من طقوسهم ما لم يجهروا بها فيستفزوا الأغلبية المسلمة.
ومع الزمن سيضعف العلمانيون والملحدون بفعل انحسار شعبيتهم ويندثرون، وسيتراجع غالبهم ويرجعون إلى دين الأمة طواعية، ولن يتحقق ذلك إلا في ظل الحرية.وللحقيقة والتاريخ، يعتبر انحياز معظم الفقهاء إلى حكام العض والجبر، خلال القرن الماضي، من أهم العوامل التي شجعت كثيرا من المثقفين على بغض الدين ومعاداته، فهم معذورون بالشبهة على الأقل.
وبخصوص الشيعة وأمثالهم كالقرآنيين والمعتزلة الجدد، فدولة الإسلام السني ينبغي أن تضمن لهم حريتهم الفكرية والسياسية كما ضمنها سيدنا علي للخوارج قبل حمل السلاح ضده، ويجب التعامل معهم على أساس أنهم مواطنون مسلمون، فلهم ما للسنة من حقوق، وعليهم ما على السنة من واجبات، وليكن منهاج رسول الله في التعامل مع المسلمين الأعراب قدوة في معاملة الدولة السنية للأقليات المذهبية.
الحرية للجميع ضمان الاستقرار:
إننا ننادي بالحرية الفكرية لجميع مكونات الوطن، إسلاميين وعلمانيين، صوفية وسلفيين، سنة ومتشيعين...ونعتقد جازمين أن الحرية، المقرونة بالاحترام المتبادل، مدخل للعيش المشترك في أي بلد مسلم.وإذا كان ضوء الشمس يقيد حركة طيور الليل خفافيش الظلام فإن حرية الفكر والتعبير عن القناعات، هو النور الذي يجنب الأوطان إنتاج الحركات الفكرية السرية المنغلقة، والتي يمكن أن تتحول إلى منظمات متطرفة فكرا وسلوكا بفعل الضغط والإقصاء والكبت.وإذا كنا نؤمن أن معتقداتنا سليمة متينة، فليكن نورها الوهاج كفيلا بالتعمية الرفيقة على أشعة أفكار مخالفينا.
ولنتذكر أن الله كان ولا يزال قادرا على أن تكون البشرية أمة واحدة في المعتقد الصحيح، لكنه شاء أن لا يفرض عليها ذلك، وأوكل إليها أن تختار بين الوحدة والفرقة.كما أنه سبحانه لم يجبر المسلمين على أن يكونوا كلهم سنة.ولنتأمل هذا الطرح بقلوب حية وعقول صفية:
في المذهب السني حق كثير وباطل يسير، وفي المذاهب الأخرى، من تشيع واعتزال، ما يرفع ذلك الباطل ويدمغه، فهل نحن السنة مستعدون أن نسترجع ما ضاع عبر مسيرتنا التاريخية من حق، فتتجدد الآمال لبناء لحمة الأمة من جديد؟
- خريج دار الحديث الحسنية
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.