ضمن هذا المقال الذي هو الرابع في نفس الموضوع، نستكمل مناقشة بنود المسودة الجنائية، إذ تمّ التوقف في المقالات السابقة عند بعض ما تمّ اعتباره نواقصَ وسلبيات في المشروع، خاصة ما يتعلق بالحرّيات السياسية والمدنية. وطبقا لنفس المنهجية المعتمدة سابقا، فإنه سيتم عرض أفكار المناقشة وِفق نفس تسلسل المسودة، إذ سنعمد إلى طرح مضمون المادة وتسجيل الملاحظات عليها وتقديم بعض المقترحات، وذلك على النحو التالي: أولا: تُعاقِب المادة 2-231 على التعذيب بعقوبات مخفّفة مابين 5 إلى 15 سنوات وبغرامات متواضعة (20 آلآف إلى 200 ألفا)، وهذا العقاب لا يتناسب مع طبيعة الجريمة، المرتكبة، كما أنها لا تعاقب إلا على التعذيب المادي ولن يطال التعذيب التفسي، ولذلك نقترح أن يتم تدارك هذا النقص، مع تشديد العقوبة على الذين يلجؤون إلى التعذيب من أجل نيل الاعترافات أو ما شابه. ثانيا: تُعاقِب المادة 36231 كل طبيب أو جراح قام بعملية أو أي شخص قام بعملية أخذ أعضاء بشرية لأجل معالجة أشخاص غير أصول المتبرع أو فروعه أو إخوانه أو أعمامه أو أخواله أو خالاته أو أبنائهم أو زوجه شريطة مرور سنة على زواجهما. لاحظ أن النص يقصر عملية التبرع بالأعضاء على الأقارب القريبين ويمنع ذلك عن غيرهم حتى بتوفر الارادة الذاتية، والمثير في الأمر أن النص يربط مساعدة الزوج بأن يمر على عمر الزواج سنة، وكأن سنة هي المقياس لثبوت الزواج. ثالثا: تَحرُم المادة 236 الموظفين من حقهم في الاستقالة من وظيفتهم بدعوى التأثير على سير العدالة أو سير مصلحة عامة، وذلك بمبرر الاتفاق الجماعي بين الموظفين، أي أن المشرع يريد أن يمنع الاحتجاج عن طريق الاستقالات الجماعية، وهذا يتنافى مع حق المواطن في الاستقالة من عمله. رابعا: تَحصِر المادة 7-256 مسألة الإثراء من دون سبب بالموظفين العموميين، والحال أن الأمر ينبغي أن يشمل العديد من الفئات الأخرى، المنتخبين، المكلفين بمهمات، المستشارين المتعاقدين...إلخ. خامسا: تنص المادة 266 على الحبس والغرامة فيما يخصّ الأفعال والأقوال أو الكتابات أو المراسلات الموجهة بأي وسيلة كانت بغرض تحقير مقررات القضاة، ويكون من شأنها حتما المساس بسلطة القضاء أو استقلاله. لكن هذه المادة تشتمل على أحكام خطيرة إذا ما أدرج تحتها كل ما يتعلق بالمناقشة والتعليق على أحكام القضاء وتبيان تناقضاتها أو تهافت حجَجِها، من قبل الباحثين والكتاب والمهتمين بحقوق الانسان ونزاهة القضاء. وهنا يمكن تأويل بنود هذه المادة بما يمنع كليا أي تصرف حيال أحكام القضاء خارج الطعن أمام المحاكم. وهذا فيه تعدّي صريح على حرية التعبير. فإذا كان القضاء يحتاج إلى استقلالية عن الجميع، فإن المجتمع بدوره يحتاج أن يعبر عن أفكاره تجاه أحكام القضاء، مادام هناك فرق بين القضاء وبين أحكامه التي ليس لديها أية حصانة إزاء النقد والتصويب. سادسا: تمنعُ المادة 240 على القضاة الامتناع عن الفصل بين الخصوم، وتعاقب كل قاض قام بذلك تحت أي مبرر بغرامة من 2000 إلى 10 آلاف درهم ، حتى ولو كان ذلك بسبب سكوت القانون أو غموضه. وهذا يجعل القاضي عبارة عن آلة لإنتاج الأحكام بدون حضور ذهني أو معنوي، فالتشريعات المقارنة تضمن للقضاة الامتناع عن الفصل في بعض القضايا إذا ما استشعروا حرجا ما. كما أن هذا القضية مرتبطة بمسألة "الضمير" الذي ينبغي أن يحكّمه القاضي أثناء إصداره أحكامه، مما يطرح العديد من الأسئلة: هل على القاضي أن يُنفّذ جميع القوانين سواء كانت جيدة أم سيئة؟ أم عليه أن يُحَكّم ضميره ولا يَحْكُم إلا بالقوانين الجيدة؟ وماذا لو تَعرّض للأذى إن هو رفض تنفيذ القانون؟ هل عليه أن يستقيل من منصبه حتى لا يطبق قانونا يراه جائرا؟ ألا يوجد هنا تعارض بين الواجب القانوني والواجب الأخلاقي؟ وهل يصنع القضاة القانون؟ وما العلاقة بين القضاء والسياسة؟ في سياق إجابته عن هذه الأسئلة، يسوق صاحب الكتاب القيم "فكرة القانون" القاضي دينيس لويد العديد من التجارب والوقائع التاريخية، كما يستشهد برُزمة من الآراء الفقهية والفلسفية، كي يخلص إلى أن القانون وديعة في صدور القضاة، لكن هؤلاء ليسوا مستقبلين سلبيّين للقانون، بل يُثبِت التاريخ الحديث والمعاصر أنهم ساهموا بشكل كبير في صياغة قواعده. رغم أن سلطة القضاة على صنع القانون تختلف اختلافا أساسيا عن وظيفة التشريع، ويُسلّط الكِتاب الضوء على مجموعة من الطُّرق التي يُساهم بها القضاة في صنع القوانين من قبيل: السوابق القضائية، والتفسير الذي تقوم به المحاكم الدستورية العليا، والترجيحات بين النصوص...إلخ. سابعا: ينبغي دمج الفقرتين الأولى والثانية في المادة 3-286 لكي يتم التنصيص على أن السكر العلني المؤدي إلى الفوضى يجب إثباته بمحضر المعاينة المنجز من طرف ضباط الشرطة القضائية، و[بدل: كما يمكن] إجراء تحليل للدم بواسطة جهاز تحديد كمية الكحول في الدم. حتى لا يتمّ استغلال جنحة السكر العلني في تلفيق التهم لمواطنين أبرياء، من دون شهود ولا أدلة موثوق بها. ثامنا: ينبغي حذف المادة 304 التي تَعتبِر في حكم العصيان: من حرّض عليه، سواء بالخطب أو الاجتماعات العامة أو كتابات....فوجود هذه المادة من شأنه الحد من حرية التعبير، لأنه يمكن تأويل الأفكار والشعارات وإخراجها عن طابعها السلمي الذي لا يهدف إلى العصيان المسلح وإنما إلى الاحتجاج السلمي، لكن قد يحدث أن يتطوّر الاحتجاج السلمي إلى عصيان مسلح نظرا لتطور الأوضاع أو إلى إساءة التصرف من قِبَل القوات العمومية، وهنا لا يمكن لوم من يكتب أو يرفع شعار الاحتجاج بدعوى أنه يحرض، لأنه ليس مسؤولا عن تحريف أفكاره أو إساءة التصرف حيال الشعارات، وهذا ما هو معمول به في العديد من الدولة الديمقراطية التي لا تعاقب على التحريض على الاحتجاج. تاسعا: تُعاقب المادة 1-307 بالحبس من شهر إلى 6 أشهر والغرامة كل من قاوم تنفيذ أشغال أمرت بها السلطة العامة أو رخّصتها. وهذا الاجراء يتعارض مع الدستور الذي يتيح حرية التعبير، لأن المقاومة قد تحدث بالعنف وقد تحدث بطرق سلمية كأن يرفض المواطنون مغادرة مساكنهم المعرضة للهدم احتجاجا على حيف قرار السلطات، ومحاولة منهم تسليط الضوء على قضيتهم، وهذا أسلوب احتجاجي سلمي من شأنه أن ينصف أصحابه، سيما إذا كانت السلطات الأعلى على غير علم بقرار السلطات الأدنى. وبهذا يجب التمييز بين المقاومة المسلحة التي تتوسل بالعنف وبين المقاومة السلمية التي تسعى بكل السبل المشروعة عالميا إظهار معاناة أصحابها علّها تجد من ينصفها. عاشرا: تنص المادة 418 على توفير العذر المخفف للعقوبة، في جرائم القتل أو الجرح أو الضرب، إذا ارتكبها أحد الزوجين ضد الزوج الاخر وشريكه عند مفاجأتهما متلبّسين بجريمة الخيانة الزوجية. إن هذه المادة فيها تشجيع على ارتكاب جرائم لا تتساوى وحجم الضرر. فالقانون من شأنه أن يساعد المجتمع على تجاوز انفعالاته وحالاته الغضبية، لا أن يقدّم له الأعذار والمبررات، وكأن اللجوء إلى العنف والانتقام هو الحل بالنسبة للخيانة الزوجية. فعندما يعلم المواطن بأن المشرع سيتفهّم عنفه سيتمادى في جرمه، وهذا ليس في صالحه ولا في صالح الأمة. وما نقوله على هذه المادة ينطبق بشكل أوضح وأبرز على المادة 420 أيضا. حادي عاشر: يتحدث الباب الثامن عن الجنايات والجنح ضد نظام الأسرة والأخلاق العامة، مع العلم أن مسألة الأخلاق هي مسألة نسبية. فالمادة 483 تعاقب بشهر واحد إلى سنتين والغرامة كل من ارتكب إخلال علنيا بالحياء وذلك بالعري المتعمد أو بالبذاءة في الإشارة أو الأفعال. وحول هذا الموضوع يجب استحضار الدراسات السوسيولوجية والثقافية، لأنه ينبغي تحديد معنى العُري؛ هل هو التجرد التام من الملابس أم من بعضها فقط. كما أنه يصعب تحديد الأفعال التي يمكن أن تعتبر إخلالا بالحياء في عرف جميع الناس، مادام هذا التعبير مسألة نسبية تختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، وحسب الظروف النفسية للمواطنين ومستواهم الفكري والثقافي، فما يمكن أن يشكل إخلالا بالحياء العام في القرية قد لا يُنظر إليه في المدينة على أنه كذلك أو العكس، وما يمكن أن يكون في زمن ما، إخلالا بالحياء قد يصبح بعد مدة وجيزة أو طويلة ليس كذلك أو العكس، وما يراه الشخص غير المتعلم أو غير المنفتح أو غير المتسامح، أو غير المتزوج إخلالا بالحياء العام، قد لا يراه من هم عكس ذلك إخلالا أو العكس. وبالتالي وجب سحب هذا التعبير من التداول القانوني، والإشارة بالاسم لبعض الحالات التي يمكن أن تُعتبر إخلالا بالحياء العام. (يُتبع) -دكتوراه في القانون العام [email protected] https://www.facebook.com/pages/Abderrahim-Alam/399398136753078?fref=nf