قلت في المقال السابق الذي يحمل نفس العنوان، إن الولاياتالمتحدةالأمريكية، والغرب، هم بمثابة " فرنكشتاين"، الذي خلق المسخ المعروف بهدف استعماله في أغراض شريرة، وغايات تحكمية استبدادية بما هو الرجل الأقوى والأسمى، وبما الباقي من خلق الله، وكائناته الحية، هم مجرد موجود أدنى ومنحط أي مناط السخرة والعبودية والاسترقاق. وهي صورة تخييلية / واقعية تستند إلى بعض الحقائق، وتتكيء على المركزية الأورو أمريكية، وعلى الأهداف الإمبريالية، والاستعمارية المستترة والمعلنة. ثم هي صورة تجد كامل تطبيقها ومطابقتها لما يجري، الآن، في بقاع المعمورة، وبخاصة في البلاد العربية، وبعض الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا، وقبلها كانت الولاياتالمتحدة مسرحا للجنون والعَتَهِ، وتمرد المسخ المذكور على الخالق المشهور. إن القاعدة وداعش وهما تشكيلتان فسيفسائيتان مكونتان من أجناس مختلفة، وعناصر متعددة يجمعها الشر، وإقامة وهم الخلافة الإسلامية على الأرض ولو أغرقت الأرض قتلا وموتا ودما ودمارا. إنهما معاً، وما تفرع منهما في شتات الدنيا ك" بوكوحرام"، و" شباب الصومال"، و" المرابطون"، الخ، صنيع الغرب وأمريكا، خُلِقا وفق مخطط استراتيجي تَقَصَّد تفتيت الدول العربية المتاخمة، بالأساس، لصالح إسرائيل المزروعة في كبد العالم العربي، والمنغرسة كالنصل الحاد في خاصرته التي تنزف منذ أكثر من ستين سنة في مراهنة محسوبة لسقوط المنزوف بعد أن تسقط آخر قطرة من دمه. فهل نجحت دول الشمال المهيمنة على مقدرات باقي العالم المحشور في مربع الجنوب الفقير والمستعطي؟، وهل حققت أهدافها، أو بعض أهدافها ؟. الواقع أن الكثير من المراهنات الأمريكية والغربية بغاية بلقنة وتفتيت البلدان العربية، نجحت. فهاهو العراق الذي كان ضحية سيناريو أمريكي غربي وعربي متقن، يُدْمي القلب، ويشل التفكير، ويُذْهِل العقل. وللذكرى إن كانت الذكرى تنفع، ف" كسنغر"، وزير خارجية أمريكا الأسبق، وفيلسوف العنف، والضليع في بناء فلسفة التمزيق الاستشرافية، ألهم البنتاغون، ومجلس الأمن القومي الأمريكي، وغلاة الجمهوريين والديمقراطيين، كيفية نصب الشباك للعراق لإسقاطه في هوة لن يقوم منها. والمستهدف ، في الأول والأخير، لم يكن " صداما"، وإن كان ارتكب خطايا وحماقات إجرامية عجلت بنهايته، ونهاية العراق باللزوم والتبعية. إنما كانت مقدرات العراق العلمية التي بدأت تثير القلق والخوف في أوساط أمريكا والغرب، الخوف على حليفتها الاستراتيجية " إسرائيل" من " الغول " العراقي القادم المدجج بالفكر والعلم والاختراع والتاريخ والحضارة المتجذرة الضاربة. فتمزيق أوصال العراق، قاد بداهة إلى ولادة فكر معادٍ ثأري، وانتقامي ركب الإسلام مطية للدفاع عن تاريخ مقتول، وواقع مأكول. وقسْ على ذلك ماحدث قبلئذ، لأفغانستان، وما يحدث الآن لسوريا، واليمن، ومصر، وليبيا، وغيرها. إذ أن الحروب المعلنة والمُشَنَّة على هذه البلدان العربية من قِبَلِ الغرب، والتي يباركها العرب المسلمون في شخص الأنظمة الحاكمة الجاثمة، أو المخلوعة، وفي شخص بعض " التجمعات" المناضلة المعارضة لهذه الأنظمة، إنما تستهدف بَلْقَنَتها، وتمزيق أوصالها، وتحجيم رُقَعِها الجغرافية، وتقزيم تاريخها بعد ضرب مشخصاتها الحضارية من قلاع وحصون، وأسواق تقليدية، ومتاحف، ودور وقصور، ومزارات، وأضرحة، ومخطوطات، ومنحوتات. لقد سقط العرب في الفخ المنصوب، وهاهم يحاولون عبثا، تحرير أرجلهم وأنفسهم من القبضة الهالكة. وما فلسطين التي وُضِعَتْ على الرف ، كما قدَّرْتُ ووصفتُ، أو نُسِيَتْ بتعبير واضح، من لدن العرب المسلمين، إلا نتيجة هذا الذهول العربي الإسلامي العام والانكفاء على لعق الجراح الداخلية، وما خلفته يد الغدر والخيانة، والدمار هنا وهناك. ونتيجة محكمة، مفكر فيها ومخطط لها من أجل تحييد العرب المسلمين، وإخراس صوت الجامعة العربية التي ولدت، أصلا خرساء، وإسكات ما يسمى ب" منظمة المؤتمر الإسلامي"، حتى تستفرد الولاياتالمتحدةالأمريكيةبفلسطين، دعما لإسرائيل بهدف تحقيق بغيتها، وفرض ماتراه قمينا بضمان أمنها، وراحتها، ووجودها. ومن ثم، فإسرائيل هي المستفيد الأول والأخير مما يجري ، الآن ، في العالم العربي، بعد أن تم تحييد المنظمات المدنية والأحزاب الديمقراطية، و" الفكر القومي"، وبعد أن رمت عظما ضخما لذيذا للعرب يمشونه، ويشحذون على أطرافه أسنانهم المنخوبة النخرة، أو ماتبقى لهم من أسنان، لاهين و" غافلين"، عما يتعرض له الشعب الفلسطيني من قتل يومي، وتجريف ممنهج للحجر والشجر، وتهويد مبرمج للمعالم التاريخية، والأمكنة الدينية المقدسة. لا أحد ينازع في كون ولادة القاعدة، وداعش الإرهابيتين، إنما جاء مما بسطناه من رد فعل عنيف ومجنون، ومن أشياء أخرى يضيق المقال عن إيرادها وذكرها. لكن ماينبغي الاتفاق عليه، هو أن الإرهاب إياه، أيّاً كان لبوسه، لن يحقق المراد والمرام لأنه جنون ورعونة وهمجية، وجريمة ترتكب بدم بارد ضد الإنسان الذي كرمته الحضارات والثقافات والأديان. الأحرى، إذاً، أن نتصدى كعرب مسلمين للغرب والولاياتالمتحدة بالفكر والعلم والاختراع، وإرساء ونشر قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية في بلداننا. أن ندع المهمة الجليلة هذه، والمسئولية الجسيمة إياها للقادة من ذوي الفكر السياسي النبيل، والرأي الحصيف، والانهمام الحضاري، والواعي بدورنا الفارغ، ووضعنا التاريخي المخجل. أما كيف نصل إلى هذا، والأمور وصلت إلى ماوصلت إليه من خزي وعار، وتفاقمت أضرارها وأوضارها، فأصبحنا نخيف العالمين ؟، فبالنهوض التربوي التعليمي، وبالنهوض الحواري والسجالي العلمي والثقافي بين النخب السياسية، والثقافية، والحقوقية، والاقتصادية، وبالقطع مع التردد، والمواربة، والتواري خلف الثنائيات الميتافيزيقية، بإعلانها قراءة صريحة لتراثنا الفكري والأدبي قصد غربلته، والوقوف على إشراقته من عدمها، والانتصار للعقل أولا وأخيرا. مايعني أن نفصل، بالمرة، بين الدين والسياسة، حتى لانقول : بين الدين والدولة. ثم نبين للناشئة من تلاميذنا وطلبتنا، وهم رهان الغد، أن الكثير من الآيات التي يداولها ويفسرها " علماء" التلفزيون الموجَّهين، و" الدعاة" الأثرياء الذين تضع السعودية، ودول الخليج، القناطر المقنطرة من الذهب، عنيت: الدولار والأورو، في أرصدتهم، ليقولوا السياسة في الدين، ويضعوا الماضي المتحجر في الحاضر المتحرك، إنما هي آيات نزلت وفق شروط موضوعية ناجزة، وتبعا لظروف اجتماعية، وسياقات تاريخية طرأت أيامئذ، فكان التنزيل جوابا على أسئلتها. فكيف تجيب تلك الآيات البينات عن أسئلة اليوم؟ عن أسباب تخلفنا، وتراجعنا، وأزماتنا الاجتماعية والاقتصادية، من إفلاس تعليم، وتدهور صحة، وكبح حريات، واضطهاد حقوق، ومساواة، وتبخيس لشخص وقدر المرأة، وتشغيل، واستعباد للأطفال إناثا وذكورا، وسرقة أموال، ونهب ثروات..الخ الخ ؟. هي معركة حضارية ووجودية آنَ أنْ ينهض بها المفكرون والمثقفون، والسياسيون، والأدباء والفنانون، والحقوقيون، والأساتذة في المدارس والجامعات، والمعاهد العلمية المختلفة، وإلا فسنتعرض لانجراف أكبر، ودثور مع الأيام. بمثل هذا وغيره، يُمْكننا عربا ومسلمين، دكَّ الإرهاب في معاقله، واستئصال شره، باحترام الآخرين المغايرين، ومُسَاكنتهم ، ومعايشتهم، والتآلف معهم ، والتكامل وإياهم، لنفوز بتقديرهم واطمئنانهم، ونعطي المثال الساطع على أن ديننا لم يَدْعُ إلى القتل والقتال، و" أعدوا لهم مااستطعتم .."، إذ هي معطيات ميدانية وقعت لأسباب موضوعية، ضمن تاريخية معينة تَبَخَّرَتْ. ذلك أن جوهر الدين هو جوهر يدعو إلى المحبة، والرحمة، والتعارف. والأمر ينسحب على كل الديانات سواء أكانت سماوية، أم كانت وضعية أرضية ؟. وكل زَجّ بالدين في السياسة والمعاش اليومي، هو خدمة عارية مغرضة لأنانيات فردية مقيتة في قطف الملذات، واكتناز النساء والأموال بعد استغفال البسطاء من الناس.