ضمنهم حكيمي وبونو.. المرشحين للكرة الذهبية 2025    قاضي جرائم الأموال يأمر بسجن رئيس المجلس الإقليمي لشفشاون بتهم ثقيلة    باريس تُعلّق الإعفاءات الدبلوماسية.. والجزائر تردّ بالمثل في أزمة جديدة بين البلدين    نتنياهو: إسرائيل تريد السيطرة على غزة "لا حكمها"    حقوقيون: السقوط الدستوري للمسطرة الجنائية ليس معزولا عن منهجية التشريع المتسمة بانعدام الشفافية    المنتخب المغربي المحلي يستعد لمواجهة كينيا    الأرصاد تُحذر: موجة حر وزخات رعدية تضرب مناطق واسعة بالمملكة ابتداءً من اليوم    انتحار طفل في ال12 من عمره شنقًا.. وأصابع الاتهام تشير إلى لعبة "فري فاير"    تدخل أمني بمنطقة الروكسي بطنجة بعد بث فيديو يوثق التوقف العشوائي فوق الأرصفة        تدخل سريع يخمد حريقا اندلع بغابة "ازارن" بإقليم وزان والكنافي يكشف حيثياته    لجنة عربية تطلق حملة ضد ترشيح ترامب لجائزة نوبل للسلام    الارتفاع يسم تداولات بورصة البيضاء    فشل الجزائر في قضية الصحراء المغربية يفاقم التوتر الدبلوماسي مع فرنسا    وزارة الخارجية تحتفل باليوم الوطني للمغاربة المقيمين بالخارج    الوداد يعقد الجمع العام في شتنبر    بني بوعياش.. اطلاق الشطر الاول لمشروع التأهيل الحضري        أول نسخة من "الهوبيت" تجني 57 ألف دولار        لسنا في حاجة إلى المزيد من هدر الزمن السياسي    الماء أولا... لا تنمية تحت العطش    الملك كضامن للديمقراطية وتأمين نزاهة الانتخابات وتعزيز الثقة في المؤسسات    وزير الإعلام الفلسطيني : المساعدة الإنسانية والطبية العاجلة سيكون لها أثر إيجابي ملموس على حياة ساكنة غزة    تيمة الموت في قصص « الموتى لا يعودون » للبشير الأزمي    «دخان الملائكة».. تفكيك الهامش عبر سردية الطفولة    السرد و أنساقه السيميائية    المغرب.. من أرض فلاحية إلى قوة صناعية إقليمية خلال عقدين برؤية ملكية استشرافية    فرنسا تلغي إقامة مغربي أشعل سيجارة من "شعلة الجندي المجهول" في باريس (فيديو)    زيلينسكي يدعو بوتين مجددا إلى لقاء لإنهاء الحرب في أوكرانيا والرئيس الروسي يعتبر "الظروف غير متوفرة"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية كوت ديفوار بمناسبة العيد الوطني لبلاده        ارتفاع أسعار الذهب بفضل تراجع الدولار وسط آمال بخفض الفائدة الأمريكية    "صحة غزة": ارتفاع وفيات التجويع الإسرائيلي إلى 197 بينهم 96 طفلا    سون هيونغ مين ينضم للوس أنجليس الأمريكي    "أيميا باور" الإماراتية تستثمر 2.6 مليار درهم في محطة تحلية المياه بأكادير    يوليوز 2025 ثالث أكثر الشهور حرارة فى تاريخ كوكب الأرض    وكالة: وضعية مخزون الدم بالمغرب "مطمئنة"    صيف شفشاون 2025.. المدينة الزرقاء تحتفي بزوارها ببرنامج ثقافي وفني متنوع    المغرب يواجه ضغوطا لتعقيم الكلاب الضالة بدل قتلها    تسجيل 4 وفيات بداء السعار في المغرب خلال أشهر قليلة    "دراسة": تعرض الأطفال طويلا للشاشات يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب    من هم الأكثر عرضة للنقص في "فيتامين B"؟    الفتح الناظوري يضم أحمد جحوح إلى تشكيلته        رخص مزورة وتلاعب بنتائج المباريات.. عقوبات تأديبية تطال أندية ومسؤولين بسبب خروقات جسيمة    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    الداخلة.. ‬‮«‬جريمة ‬صيد‮»‬ ‬تكشف ‬ضغط ‬المراقبة ‬واختلال ‬الوعي ‬المهني ‬    الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة التي فرضها ترامب تدخل حيز التنفيذ    المغرب ‬يرسّخ ‬جاذبيته ‬السياحية ‬ويستقطب ‬‮«‬أونا‮»‬ ‬الإسبانية ‬في ‬توسع ‬يشمل ‬1561 ‬غرفة ‬فندقية ‬    قروض ‬المقاولات ‬غير ‬المالية ‬تسجل ‬ارتفاعا ‬بنسبة ‬3.‬1 ‬في ‬المائة ‬    جو عمار... الفنان اليهودي المغربي الذي سبق صوته الدبلوماسية وبنى جسورًا بين المغرب واليهود المغاربة بإسرائيل    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    حين يتحدث الانتماء.. رضا سليم يختار "الزعيم" ويرفض عروضا مغرية    نحن والحجاج الجزائريون: من الجوار الجغرافي …إلى الجوار الرباني    اتحاديون اشتراكيون على سنة الله ورسوله    من الزاويت إلى الطائف .. مسار علمي فريد للفقيه الراحل لحسن وكاك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن التعريب واللغات الأخرى
نشر في هسبريس يوم 14 - 01 - 2016

من المؤكد أن موضوع اللغات، وخاصة لغة أو لغات تدريس العلوم والمهن يعد موضوعا شائكا، ليس في المغرب وحده، بل في بلدان أخرى عديدة. ولا شك أن الخوض فيه يحتاج إلى وقت وجهد ومال وتخصص وتفرغ، ويحتاج إلى عمل جماعي، و إلى تسلح معرفي قوي لبناء الأطروحة والدفاع عنها ودحض المغالطات وتصحيح بعض الأخطاء واستشراف المستقبل بخطى أكثر توازنا. ونحن في هذا المقال، نود فقط التذكير ببعض الصعوبات التي تعتري المشهد اللغوي المغربي، خاصة في مجال تدريس العلوم؛ الإشكال الذي لم يحل لحد الآن فحسب، بل لا شيء في الأفق ينم عن التوجه لإيجاد حل له في المستقبل القريب.
و أمر هذا التقصي والبحث في مشكل اللغة لم يعوز المفكرين المغاربة يوما. فمن علال الفاسي إلى المهدي بنبركة ومحمد عابد الجابري ومحمد بلبشير الحسني وعبد العزيز بنعبد الله وأحمد الاخضر غزال والشيخ عبد السلام ياسين والمهدي المنجرة وعلي الكتاني ومحمد بن شريفة وعبد القادر الفاسي الفهري وفؤاد أبوعلي، واللائحة طويلة، كلهم استشعروا (مع رواد الحركة الوطنية) أهمية الحفاظ على اللغة العربية والعمل على تنميتها في كل مجالات الحياة العامة والخاصة. كما استشعروا خطورة الارتباط بالثقافة الفرنسية الأحادية الجانب، وواجب استيعاب الحضارات العالمية عن طريق اللغات الحية الأخرى. غير أن شأن التنظير شيء، وشأن واقع الممارسة بقي شيئا آخر من حيث كونه يحتاج إلى تضحية الباحثين في اللغة و الترجمة من جهة، وإلى المجهود الفعلي والتشجيع المادي للدولة من جهة أخرى.
وفي غياب ذلك الشرطين الأساسين، ظل مشكل التعريب الشامل متراوحا بين الأخذ والرد طيلة عقود، منذ الاستقلال إلى اليوم (بل منذ ما قبل الاستقلال)، إذ لم يكتب لمشروع التعريب أي نجاح رغم النداءات والتوصيات المتعددة. فبالنظر إلى أهمية التدريس باللغة الوطنية (والتي ينص عليها الدستور)، نادت بالتعريب كل من اللجنة العليا لإصلاح التعليم سنة 1957، ولجنة الدراسات والبحوث حول التعريب سنة 1960، ومكتب تنسيق التعريب 1961، والمناظرة الوطنية حول التعليم بالمعمورة سنة 1964، وبيان عن علماء ومثقفي المغرب الذي وقعته 493 شخصية سنة 1970، وتأكيد وزير التعليم عز الدين العراقي على خطورة الازدواجية اللغوية ودعوته إلى التعريب سنة 1977، ثم اللجنة الوطنية المختصة بقضايا التعليم التي أنشئت سنة 1994.
وعن اللجنة الوطنية المذكورة، والتي تكونت من برلمانيين وممثلي الإدارات التعليمية والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والنقابية، قدمت إثر انتهاء أشغالها تقريرا مفصلا في يونيو 1995 أوصت فيه بترسيخ القيم الروحية للإسلام وتعميم التعليم وإقرار إلزاميته للفئة العمرية من ست إلى ستة عشر سنة، وإقرار المجانية، واعتبار اللغة العربية محورا أساسيا للتعليم، وضرورة محو الأمية، وتوحيد التعليم وتعريب المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. لكن في غشت من نفس السنة، تم رفض نتائج اللجنة ولم يعرها الحسن الثاني أي اهتمام، وبالتالي تم إقبار المشروع.
وبعد هذا تأسست سنة 1999 لجنة مكونة من 34 عضوا برئاسة المستشار الملكي عبد العزيز مزيان بلفقيه وانتهت بإصدار "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" الذي لقيت مواده استحسانا من قبل كل الهيئات. ودعا هذا الميثاق إلى "تحسين تدريس اللغة العربية واستعمالها وإتقان اللغات الأجنبية والتفتح على الأمازيغية". كما نص على أنه "يستلزم الاستعداد لفتح شعب للبحث العلمي المتطور والتعليم العالي باللغة العربية..." ونص أيضا على إحداث أكاديمية للغة العربية. الشيء الذي أدى إلى الإعلان عن إحداث "أكاديمية محمد السادس للغة العربية" بموجب مرسوم ملكي صادر في 30/08/ 2002، وتناقلته وسائل الإعلام. لكن المرسوم ظل غير مفعل لحد الآن رغم مرور أزيد من عقد من الزمن عن صدوره. كما أن شعب تدريس العلوم بالعربية في الجامعات المغربية لم تر النور.
وعلى مستوى العالم العربي، نادت بالتعريب كل الندوات ومجمعات اللغة العربية والمؤتمرات العلمية التي عقدت في عدة عواصم: الرباط، الجزائر، طرابلس، الخرطوم، عمان، دمشق... منذ ستينات القرن الماضي إلى اليوم. وكلها انتهت إلى أن مشكلة تعريب العلوم والبحث العلمي في الوطن العربي تعاني من غياب القرار السياسي لدى الحكومات المعنية. وبقيت سوريا البلد الوحيد الذي يوفر تدريس العلوم في جامعاتها باللغة العربية. لكن هناك من حَكم على تلك التجربة بنوع من الفشل نظرا لتسارع وثيرة المستجدات العلمية في الدول المتقدمة وبطء حركة الترجمة والمواكبة، و يبدو أمر هذا الفشل طبيعيا مادامت دول عربية أخرى ذات كثافة سكانية أكبر لم تنخرط في التجربة لدعمها وتحقيق التراكم العلمي المنشود.
غير أن ما يدعو للأسف المذهل، هو حين تقرأ في بعض المقالات أو تسمع لبعض التعليقات لمن ينتقد التعريب معتبرا إياه "عملية مقصودة لمحاربة الطبقات الشعبية في التمكن من العلوم". ينتقدون التعريب ولو في غياب تفعيله ونجاحه. وحين يفهم بعض الأمازيغ مسألة التعريب على أنها محاولة طمس الهوية الشعبية المغربية من طرف القوميين "العروبيين"، بل منهم من ذهب إلى قراءة كل الوثائق المطالبة بالتعريب ضد الهيمنة الفرنسية على أنها وثائق هدفها استعداء الأمازيغية وتهميشها، وتلك في نظرنا هي أبشع القراءات إما الساذجة أو المغرضة. إذ كيف يعقل اتهام مفكرين من كل الشرائح الاجتماعية ومن كل الأطياف المغربية بمحاولة طمس هويتهم هم بأنفسهم ؟ فحتى إن لم يأخذوا بعض المعطيات بالحسبان فمن العدل أن نذكرهم بها، لا أن نتهجم عليهم ونجرمهم.
صحيح أن الأمازيغية تعرضت لإقصاء عنيف طيلة أجيال وقرون، وحدثت أحيانا تجاوزات مشينة من قبيل تغيير أسماء الأماكن والمدن وغيرها، لكن هذا كان يتم حتى من طرف الأمازيغ أنفسهم، ما دمنا نعرف أن 80% من المغاربة أمازيغ. فالأمازيغية ظلت تعوزها حروف الكتابة من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن لدى الأمازيغ أي حرج في تقبل الانتماء إلى الحضارة العربية التي انصهرت فيها قوميات مختلفة كالأكراد والترك والأرمن والشام والفرس ومصر واليمن والأفارقة ... فالعربي ليس بالضرورة هو من ينتمي إلى إحدى القبائل القادمة من الجزيرة العربية، وجل التعارف تؤكد على أن ما يجمع بين العرب هو اللغة والدين والثقافة وليس العرق. وكلنا نعلم أنه قبل الاستعمار كان المغاربة يتعلمون في الكُتّاب ما يتعلمونه على قلته وبساطته بالعربية، أكانوا في الأطلس أم سوس أم الريف. والأجدر القول إن الأمازيغ تعرضوا للتنكيل والتخريب المادي فيما بينهم (الصراعات القبلية)، وفيما بينهم والسلطات الحاكمة عبر عصور، أكثر من تعرضهم للطمس اللغوي والرمزي.
وحين يعتبر آخرون أن العربية غير صالحة للعلوم وأنها لغة "ميتة"، أو يعتبرها آخرون منتجة للتطرف، وفريق يرى بأنها لغة مقدسة يجب تركها كما هي ومن ثم الابتعاد عن استعمالها اليومي ، وآخرون يرون بضرورة الابتعاد عن كل ما أتى من "المشرق" مستحضرين "خصوصياتنا كمغاربة"... ناسين أن من بين الأهداف التي سطرتها جامعة الدول العربية (التي تأسست سنة 1945) هو تحرير البلاد العربية غير المستقلة والتي من ضمنها شمال أفريقيا، و ناسين أن أول مكتب لتحرير شمال أفريقيا تأسس بمصر سنة 1947...
إذن، من الواجب الوعي بأن كل من يدعو إلى إعادة النظر في السياسة اللغوية المتبعة بالمغرب، لا ينطلق في ذلك لا من شوفينية (غلو في الوطنية) ولا من عنصرية أو كراهية، بل يفعله بدافع الغيرة على الوطن والأجيال. فمن ناحية الأمازيغية، كلنا أمازيغ ( بفعل الميلاد والموطن). ومن ناحية الفرنسية، كلنا مفرنسين ( بفعل المدرسة). ولا ننسى أن جل رواد الحركة الوطنية كانوا فرنسيي التكوين، وأن كل المطالبين بإعادة النظر في التخطيط اللغوي كانت دائما بينهم شخصيات ذات تكوين فرنكفوني عالي كمفتشين وأساتذة جامعيين في الآداب الفرنسية. فمن بين الموقعين مثلا على بيان 23 ماي 1970 نجد محمد برادة مدير جريدة لوبنيون الفرنكفونية، ومفتشون في التعليم وجامعيون وأطباء ومهندسون وغيرهم. فهذا المطلب ليس من ورائه ابتغاء أي امتياز أو منفعة شخصية آنية.
ومن منتقدي التعريب ، نجد أيضا من يرى نوعا من "التناقض" و التحايل على أبناء الشعب في كون أن البعض ظل ينادي بالتعريب بينما استمر في تدريس أبنائه في مدارس البعثة الفرنسية أو خارج المغرب كي يحصلوا على تعليم جيد ويحرزوا على مناصب راقية داخل أجهزة الدولة أو في القطاع الخاص. بينما نرى أن الأمر في الواقع ليس فيه أي تناقض بالضرورة. إذ يبدو من الطبيعي جدا أن يبحث المنادون بالتعريب عن مصالح لهم طالما لم يجدوا من الجهات الرسمية من يعمل على تحقيق مطالبهم. فالقاعدة إما أن ندرس جميعا بالعربية وإما أن تشرع الأبواب لحرية التدافع. أما ذلك "التناقض" المزعوم فهو ناجم بالأساس عن سوء الفهم. حيث أن خطاب التعريب كان دائما ولا يزال موجها إلى الدولة، فهي المعنية بتأسيس أكاديميات لغوية، وتخصيص ميزانيات كافية للترجمة والبحث العلمي. وهي المعنية بإصدار قرار سياسي والعمل على احترامه وتنفيذه. بينما المطلعون عن تلك الخطابات راحوا يتهمون كل مدافع عن التعريب – الذين هم ليسوا في مراكز القرار ولا سلطة لهم - بالتحايل عليهم لما رأوا أن المطلب لم يتحقق...
إن كان هذا فيما يخص أهمية التعريب واللغة العربية باعتبارها لغة دستورية ولغة كل المغاربة ونشترك فيها مع بلدان الشرق الأوسط، إلى جانب الأمازيغية التي نشترك فيها مع جيراننا في شمال أفريقيا، فماذا عن اللغات الأجنبية ؟
بخصوص اللغات الأجنبية، نجد أن كل الباحثين متفقين على ضرورة تعلمها وأنه لا تفريط في وجوب إتقانها. فبدونها لن تكون هناك أية ترجمة أو أية نهضة حضارية أصلا، باعتبار أن أوربا والدول المتقدمة الأخرى قد تجاوزتنا بكثير، فلن نقوم بأية خطوة إلى الأمام ما لم نطلع على علومهم في لغاتهم الأصلية أو لم نعمل على ترجمتها إلى لغاتنا المحلية. لكن الغير المتفق عليه، هو توريط المغاربة قاطبة في لغة أجنبية واحدة وأحادية وهي الفرنسية، أي الذوبان في الثقافة الفرنكفونية والعمل على هيمنتها دون تعليل ودون وجه حق. ومن المغاربة من يضن أنه بصدد الظفر بصيد ثمين عندما يتعلم الفرنسية، بينما هي في الواقع لغة لا ترقى عن الإيطالية والألمانية والإسبانية والروسية والبرتغالية وغيرها، وكلها لغات أضحت اليوم متجاوزة بكثير من طرف الأنجليزية في مجال المعرفة والبحث العلمي. فلو ظفرنا بالأنجليزية لكان الأمر أفضل يالنظر إلى الزخم المعرفي والعلمي الذي يتم تبادله عبرها في كل دول العالم. وهذا بشهادة كل الباحثين الميدانيين، والمتتبعين المتخصصين.
إن الإبقاء على التشبث بالفرنسية في المغرب اليوم، يعد من سمات التخلف والبلادة. فكل الدول متفقة على التدريس باللغة الوطنية، والتواصل اليومي والإعلام باللغة أو اللغات الوطنية، أما البحث العلمي والتبادل العلمي والمعرفي فيتمان باللغة الأنجليزية. وهذا الأمر أصبح اليوم مسلما به حتى أنه لم يعد يحتاج لأي استدلال أونقاش.
وكما قال الصحافي عبد الله الدامون في إحدى مقالاته بجريدة "المساء" : "المغرب بلد سيء الحظ حتى في سوء حظه، لذلك عوض الخضوع للاستعمار الفرنسي، كان الأقل سوءا هو الخضوع للاستعمار الألماني أو البريطاني، لأنه اليوم، وبعد كل هذه السنوات على خروج الاستعمار المباشر، لا يزال المغرب غارقا في التبعية اللغوية والفكرية لفرنسا، هذه البلاد التي لم نأخذ منها شيئا، لا تكنلوجيا ولا علوما ولا منهجا، بل أخذنا منها لغة تحتضر، ونحن نكافح، أكثر من الفرنسيين أنفسهم، حتى نمنع لغتهم من الموت، ونفعل المستحيل لكي ندفع بلغتنا الرسمية نحو الانتحار.. شنقا." أو كما قال المهدي المنجرة : "أنا لست ضد الفرنسية، ولكن عندما تصبح اللغة تباع وتشترى، وعندما تصبح مؤتمرات الفرنكفونية وصية على عمليات من هذا النوع، فالأمر يستدعي وقفة تأمل...". ومن الملاحظ أن أغلب اللقاءات "الثقافية" أو حتى التي تسمى "علمية" بين الفرنسيين والأفارقة، هي لقاءات تتم بالأساس من أجل هدف واحد : بيع المنتوج اللغوي الفرنكفوني، والعمل على إبقاء جذوة الفرنسية متقدة، لا غير.
وبالنسبة للكاتب الجزائري كاتب ياسين فقد رأى بأن اللغة الفرنسية "غنيمة حرب بالنسبة للجزائريين"، وأنهم أبقوا عليها عن محض إرادتهم ولا تشكل أي تبعية للأجنبي، (والجزائر غير منتمية لمنظمة الدول الفرنكفونية). لكن نلاحظ أن هذه "الغنيمة" راحت تستقوي في شمال أفريقيا ولا يستقوى عليها، وبالتالي تحولت إلى لغم وإلى كابوس لا ينتهي، وبدون أي وجه حق.
صحيح أن أول لقاء للمغاربة بعلوم العصر يعود فيه الفضل إلى فرنسا وإلى اللغة الفرنسية وشيئا ما إلى اسبانيا. فكل مطلع على تاريخ المغرب يكتشف مدى الجهل والتخلف اللذان ظل يقبع تحتهما المغاربة حتى متم القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فكل العلوم المتداولة اليوم لم تكن موجودة البتة، باستثناء بعض العلوم الدينية التي ظلت القرويين تباشرها بطريقة أقل من تقليدية. وحتى على مستوى خط الكتابة، يتساءل المرء هل أولائك الفقهاء كانوا يكتبون لنفسهم أم لغيرهم لاستعصاء قراءة تلك الخربشة، مما جعل بعض المستشرقين (علي باي العباسي) يقول بأن بعض ما يكتبه الطالب المغربي لايستطيع إعادة قراءته حتى ذلك الطالب نفسه. وحتى البعثات الطلابية التي أرسلت إلى أوربا إبان حكم محمد الرابع والحسن الأول لم نجد لها أثر (يقدر المؤرخون عدد تلك البعثات مجتمعة ب 350 شخصا). وبقي المغاربة لا يحسنون أي شيء عدا الهجوم بعضهم على بعض، حيث القوي يأكل الضعيف وكأننا بإحدى السفانا المدارية.
إذن ، بالإضافة إلى نوع من الانفتاح العلمي، أتت الدولتان الاستعماريتان بالبنية التحتية الطرقية ووسائل المواصلات والسلم الاجتماعي والمهن الجديدة و التنظيم الإداري والتمهيد لدولة المؤسسات.... وتلك كلها أمور لا ينكرها أحد. لكن الاستعمار يبقى استعمارا طبعا. والآن قد مر عليه دهر من الزمن. وفتح المغاربة أعينهم على العالم من حولهم. وكان الأجدر للمغاربة التخلص من هذه اللغة الأجنبية التي لم تعد تجدي نفعا، رغم تورطهم فيها بالجملة.
يجد المغاربة (ومعهم دول شمال أفريقيا) صعوبة جمة في الإقلاع عن جائحة الفرنسية بحكم تغلغلها في جل الميادين الفنية والثقافية والاقتصادية ، لكن حين ترى أن الفرنسيين أنفسهم يتعلمون اللغة الأنجليزية بنسبة مائة في المائة كلغة أجنبية أولى في مدارسهم، وحين ترى علماءهم يقومون بأبحاثهم المتخصصة بالانجليزية، وأن حاصليهم على جوائز عالمية يُدرسون مواد تخصصهم أيضا بلغة شكسبير ك:سدريك فيلاني Cédric Villani الحاصل على ميدالية "فييلدس" للرياضيات، فإن ذلك يدعو حتما بالنسبة لنا إلى أكثر من تساؤل. الشيء الذي جعل وزير التعليم العالي لحسن الداودي يؤكد في أكثر من مناسبة بالإسراع في تبني الأنجليزية، إن أردنا فعلا أن نتموقع في عالم اليوم.
و في حوار مع اللسانية الفرنسية المرموقة كولط جرنفالد Colette Grinvald حول مستقبل اللغات، قالت: عند نهاية القرن الواحد والعشرين سيندثر نصف عدد اللغات المستعملة حاليا (حوالي 6000 لغة عبر العالم). إذ أن عولمة الاقتصاد يؤدي إلى الهجرة القروية للأهالي. يندمجون في المدن ولا يستطيعون مواصلة تقاليدهم ولغاتهم. ففي أمريكا مثلا، يعرف الآباء أن استعمال اللغات الأصلية للهنود الحمر يعتبر بمثابة عائق لإيجاد عمل. وأشارت إلى أن اللغات المهيمنة في المستقبل تأتي الأنجليزية في المرتبة الأولى والإسبانية والعربية ثم لغات آسيا مثل الصينية والهندية. وفي أفريقيا فإن السواحيلية والولوف تلتهمان اللغات الجهوية الأخرى. ولدى سؤال هل ستكون ثمة لغة عالمية، أجابت من المحتمل ستبقى الأنجليزية.
أبعد كل هذا ألا يمكن التأكيد بأن مستقبل العلم والتعليم في المغرب هو للعربية والانجليزية ؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.