ولي العهد يستقبل الأطفال المقدسيين المشاركين في المخيم الصيفي بتطوان    السكتيوي: عازمون على الفوز أمام السنغال وبلوغ نهائي الشان    استئناف حركة السير بين سيدي قاسم وباب تيسرا يوم 28 غشت    زنا محارم عبر ثلاثة أجيال.. تفاصيل مأساة أسرية وحفيدة تكشف المستور    الافراج عن الزفزافي مرة أخرى لزيارة والده بقسم الانعاش    مندوبية السجون: هناك سوء فهم ومعطيات مغلوطة بخصوص تنفيذ مقتضيات القانون المتعلق بالعقوبات البديلة    استشهاد 5 صحفيين في قصف استهدف مستشفى ناصر بخان يونس والجيش الإسرائيلي يعلن "فتح تحقيق"    بعد العودة من العطلة.. انعقاد مجلس الحكومة الخميس المقبل        الملك محمد السادس يرسم معالم دبلوماسية ناجعة تعزز مكانة المغرب في العالم    المغرب في عهد محمد السادس.. قافلة تسير بينما لوموند تعوي    "أكديطال" تدشن ثلاثة مستشفيات جديدة في وجدة والناظور            رأي : الحسيمة الثقافة والهوية    جلالة الملك يهنئ رئيس جمهورية الأوروغواي الشرقية بمناسبة العيد الوطني لبلاده        كأول دولة في العالم اعترفت باستقلال الولايات المتحدة.. واشنطن تحتفي بريادة المغرب وتؤكد على الصداقة التاريخية الاستثنائية        الإعلامي محمد الوالي (علي حسن) في ذمة الله.. مسار حافل في خدمة التلفزيون والسينما    البيجيدي يتجه لاقتراح عودة العمل بلائحة وطنية للشباب    محمد أمين إحتارن يرفض المنتخب الهولندي نهائيا ويختار المغرب    سرقة 18 دراجة من شاحنة فريق أثناء سباق إسبانيا        اتهامات السفير الأميركي لماكرون تشعل توتراً دبلوماسياً بين باريس وواشنطن    زلزال بقوة 6.3 يضرب قبالة جزر الكوريل الروسية    مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى    انخفاض طفيف في أسعار المواد الغذائية وارتفاع متواصل في أسعار المحروقات خلال شهر يوليوز 2025    بمناسبة الأعياد الوطنية الخالدة.. مؤسسة تاوريرت بهولندا تنظم ندوة علمية    فيديو يقود لتوقيف مختل بالدار البيضاء    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الإثنين    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض    ‬كيف ‬ينوب ‬المغرب ‬عن ‬العالم ‬الإسلامي ‬في ‬تقديم ‬المساعدات ‬الإنسانية ‬العاجلة ‬لغزة ‬؟    مدرب رينجرز: إيغامان رفض المشاركة كبديل بداعي الإصابة    أمر فرنسي بترحيل ثلاثيني مغربي لقيامه بفعل خطير    دراسة: النظام الغذائي النباتي يقلل خطر الإصابة بالسرطان                الذهب يهبط من أعلى مستوى خلال أسبوعين في ظل ارتفاع الدولار    مبابي يسجل هدفين ويهدي ريال مدريد فوزه الثاني في الدوري الإسباني    أموريم يكشف أسباب تعثر مانشستر يونايتد بالتعادل أمام فولهام بالدوري الإنجليزي    إسبانيا تسجل أشد موجة حر في تاريخها.. أكثر من ألف وفاة وحرائق تأتي على مئات آلاف الهكتارات    توقيف تركي مبحوث عنه دولياً في قضايا الكوكايين    "رحلتي إلى كوريا الشمالية: زيارة محاطة بالحرس ومليئة بالقواعد"    تجارب علمية تبعث الأمل في علاج نهائي لمرض السكري من النوع الأول    إختتام مهرجان نجوم كناوة على إيقاع عروض فنية ساحرة    عادل الميلودي يدافع عن الريف ويرد بقوة على منتقدي العرس الباذخ    القناة الأمازيغية تواكب مهرجان الشاطئ السينمائي وتبرز إشعاع نادي سينما الريف بالناظور    حكمة العمران وفلسفة النجاح    سابقة علمية.. الدكتور المغربي يوسف العزوزي يخترع أول جهاز لتوجيه الخلايا داخل الدم    طفل بلجيكي من أصول مغربية يُشخص بمرض جيني نادر ليس له علاج    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حميش يسبر أغوار "الهيجمونيا" الجديدة وإستراتيجية الدمار
نشر في هسبريس يوم 12 - 03 - 2016

يعود الروائي ووزير الثقافة السابق، بنسالم حميش، ليكمل غوصه الماتع في عدد من القضايا الراهنة، من خلال مقال خص به هسبريس تحت عنوان "الهيجمونيا" الجديدة، والتي تتجلى بحسبه في نظرية "الفوضى الخلاقة" و"إستراتيجية الدمار" التي صاغها المحافظون الجدد في ظل حكم آل بوش.
ويورد حميش بأن مبدأ "الهيجمونيا" السياسية والعسكرية يتمثل في "ما لم تستطع تملُّكَه دمِّره"، وترتكز على ترسانة من المفاهيم، منها الاحتواء، ومحور الشر، والدول المارقة، والحرب الاستباقية، وصدام الحضارات"، مبرزا أن الهيجمونيا الثقافية تسعى إلى تهجين شخصيات الناس بتأجيج الشعور لديهم بالدونية والفجاجة".
**
إن الهيجمونيا (hegemonia) تعني لغةً عند الإغريق الإكتساح والغزو بدافع إرادة القوة والسيطرة، وسميت كذلك من طرف سولون وهيرودوت وتوسيديد، ومن مرادفاتها عندهم القِدمية (arkhi) والإستبدادية (despotismus)؛ أما القديس أغسطينوس فيحللها تحت مقولة libido dominandi (أي شهوة السيطرة التي كانت في تقديره من أهم أسباب سقوط الأمبراطورية الرومانية)؛ وأما ابن خلدون فيسميها "الاستبداد" و"الغلبة".
وفي زماننا هذا تتمظهر الهيجمونيا في نظرية "الفوضى الخلاقة" و"إستراتيجية الدمار" التي صاغها المحافظون الجدد في ظل حكم آل بوش مع الأب والابن، ومبدؤها «ما لم تستطع تملُّكَه دمِّره».
ومن ترسانتها المفاهيمية: الاحتواء، محور الشر، الدول المارقة (أو المتصعلكة)، هاجم، الحرب الاستباقية، صدام الحضارات وسواها. ولتلك النظرية سابقاتها عند كبار الغزاة عبر التاريخ، أقربهم إلينا نابوليون («إني، كما أكد، أنجز سياسة جغرافيتي»)، وهتلر (مفهوم المجال الحيوي lebensraum وعقيدة تفوق الجنس الآري)، ومهندسو حركات الاستعمار (مفهوم التوسع والاستغلال باسم نشر المدنية)، وقد نلخص متن النظرية الأساس في شعار سيسل رودس رجل السياسة والأعمال البريطاني (ت 1902)، إذ يقول: «التوسع، كل شيء في التوسع [...] لو استطعت لضممت الكواكب».
بالأمس القريب كان الاستعمار بصنفيه الاستيطاني والحمائي يشتغل بآليات العنف الصادم، ويوطد لها بشتى ضروب التغطيات والذرائع، نذكّر ببعض أهم تواريخها إيجازا: 1860: فرنسا تتدخل في لبنان بدعوى حماية المارونيين من الدروز... 1881-1882: قَنبلة الإسكندرية وسحق الثورة العرابية في التل الكبير، احتلال الإنجليز لمصر في عهد الخديوي توفيق، وكل هذا بعد ما عرفه هذا القطر العربي من تغلغل أوروبي بادعاء مراقبة فرنسية-أنجليزية للميزانية المصرية المنهكة بالقروض في عهد الخديوي إسماعيل... 1888: التسرب الإنجليزي إلى الحجاز بدعوى مساعدة العرب بزعامة شرفاء مكة على محاربة الدولة العثمانية... 1912: فرض نظام الحماية الفرنسية على المغرب في عهد السلطان حفيظ، وذلك بحجة عجز سلفه عبد العزيز (السلطان الطائش) عن تسديد ديون اقترضها من بنك Paribas الفرنسي (تقدر ب 206 مليون فرنك)، إلخ.
أما بعيد الاستقلالات فإن ما أُدرك كاستعمار جديد وسُميَ كذلك، وهنا يكمن تحوله الرئيس، قد عمل كهيجمونيا متلبِّسة بإرادة إدامة القوة وتصريفها بوسائل هيمنية مبتدعة، تروم تفعيل ما سمّاه إيتيان لابوييسي منذ أربعة قرون ونيف: "العبودية الإرادية"، التي هي من أهم شروط إمكان كل أنواع التسلط والاستبداد، إذِ المصابون بها يمدون طواعيةً "أعناقهم للقطع"، فيمسخون بالتالي طبيعة الإنسان الحرة المسؤولة.
من باب رصد بعض طبائع الهيجمونيا إجمالا ووظائفها الجديدة، يحق إدوارد سعيد إذ يعيد في كتابه المميّز الإمبريالية والثقافة قراءة أعمال كل من أميكار كابرال وسي. ال. جميس ووالتر رودوني وبالأخص معذبو الأرض للمارتنيكي فرانز فانون، فيعترف مسجلاّ: «إن كنت قد أسهبت في ذكر فانون فلأنه، كما أعتقد، يعبر مأساويا وبقوة أكثر من غيره عن الإنتقال الثقافي الهائل من حقل الاستقلال الوطني إلى المجال النظري للتحرر».
إن إ. سعيد محق في تسليط الضوء على ذلك الكتاب المنشور سنة 1961، والذي يعتبر من أمهات مرجعيات العالم الثالث، إذ يقيم نظرية معتبرة وذات راهنية في فصول تصفية الاستعمار، وتظل على أي حال جديرة بالتمثل والتأمل في عهد تحولِ الهيجمونيا من ميدان الاستعمار الاحتلالي العسكري المباشر إلى الحقل الذهني والمعرفي أو ما سماه دارسون، يتقدمهم جوزيف ناي J. Nye "القوة اللينة" (soft power) في مقابل القوة الصلبة (hard power)، وربما يحسن أن نترجم المفهوم الأول بعبارة "القوة المتخفية أو المتغلغلة" عوضا عن كلمة القوة الناعمة الخاطئة الذائعة.
إن نقَّاد فانون من الغربيين وحتى بعض العالمثالثيين الذين اتهموه بالمغالاة في بعض أطروحاته، وخصوصاً في دعوته إلى الإعراض عن منطق ثقافة الغرب الهيمنية، إنما أقدموا على ذلك بسبب بقاء وعيهم دون وعي فانون بقدرات إيديولوجيا الاستعمار الفائقة على التحولات المتنوعةِ الماكرة، وهو الذي سجل منذ أكثر من خمسة عقود خلت هذا الرصد الثاقب قائلا: «لعل الباحثين لم يوضحوا توضيحا كافياً حتى الآن كيف أن الاستعمار لا يكتفي بفرض قانونه على حاضر البلاد المتسعمَرة وعلى مستقبلها، بإفراغ عقل المستعمَر من كل شكل وكل مضمون، بل إنه يتجه أيضاً إلى ماضي الشعب المضطهَد، فيحاول بنوع من فجور المنطق أن يهدمه ويشوهه ويبيده».
أما إ. سعيد في مؤلفه المذكور، فإنه بكثير من الخبرة وسعة النظر سعى إلى إظهار العلائق الفعلية المتسترة بين الرق والعنصرية والاستعمار والقهر الإمبريالي من جهة، وبين أنواع الإنتاج الأدبي والفكري التي تنشأ في المجتمع الحاضن لتلك الممارسات من جهة أخرى. إن القراءة التي يقترحها للموضوع ذاته هي ما يسميه بالقراءة الطباقية أو التعارضية contrapuntal reading، المعتنية وظيفيا باستنطاق النصوص وسبر أغوار خلفياتها وخفاياها بقصد إدراك واستعادة ما تعمل على تسريبه وتقنيعه في إواليات السيطرة والتحكم؛ فهي إذن توجد في موقف طباقي بين حركتين اثنتين لا بد من اعتبار جدلية تلازمهما وإبرازها، وهما حركة الامبريالية وحركة مقاومتها. ومن ثم فإن ممارس هذه القراءة يعطي للجنس الروائي مكاناً مهما في برهنته، إذ أنه يرى أن «الأوطان هي نفسها عبارة عن سرديات. فسلطة الحكي أو منع سرود أخرى من التشكل والظهور هي ذات أهمية فائقة بالنسبة للثقافة وكذلك للإمبريالية، إنها تكوّن إحدى أكبر العلاقات بينهما». وكمثال واحد على ما تكشفه تلكم القراءة هو المتعلق بالكاتب ألبير كامي A. Camusالذي أعلن في غمرة الحرب الفرنسية-الجزائرية أنه يؤثر أمّه على جبهة التحرير الوطني، وسجل بصريح العبارة: «إن فرنسيي الجزائر هم أيضا وبالمعنى القوي سكان أصليون. ويلزم أن نضيف أن الجزائر عربية خالصة لا يمكنها أن ترقى إلى الاستقلال الاقتصادي الذي بدونه لا يكون الاستقلال السياسي سوى وهم».
ومما ترومه الهيجمونيا ثقافيا وتسعى إلى تكريسه إجمالا هو: تعويض ذاكرة المستتبَعين بذاكرة الأقوى؛ تهجين شخصيتهم بتأجيج الشعور لديهم بالدونية والفجاجة؛ تعويدهم على الإيحاء الذاتي بأن هوياتهم ولغاتهم عُملات بخسة أو قاصرة.
وبهذه الإجراءات الحجْرية الضاغطة وأخرى عملت الإيديولوجيا الاستعمارية المكشوفة بالأمس، وما زالت اليوم تعمل وإن بأساليب ذهنية متخفية (لا مادية) ومتطورة أو إنها، إن شئنا استعمال صورة مجازية، تدير سياسةً هيمنية بيد من حديد في قفاز من حرير.
وفي هذا السياق يكتب سارتر في تقديمه الشيق لكتاب فرانز فانون الموسوم أعلاه «إن العنف الاستعماري لا يريد إخضاع هؤلاء البشر المستعبَدين فحسب، وإنما يحاول أيضاً تجريدهم من إنسانيتهم. إنه لن يذخر جهداً من أجل أن يقضي على تقاليدهم، وأن يحلَّ لغتنا محل لغتهم، ومن أجل أن يهدم ثقافتهم دون أن يعطيهم ثقافتنا، وبالتالي فإننا نرهقهم تعباً».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.