المستشرق الاسباني المعروف " بيدرو مارتنيث مونطافيث " - الذي شغل منصب رئيس قسم الدراسات العربية، وأستاذ كرسي للأدب العربي، و نائباً لعميد الجامعة المستقلة في مدريد ثم رئيساً لها ، وصاحب الأعمال العديدة ،والترجمات الرّصينة حول الأدب العربي الحديث، والمعاصر- كان قد نشر فى الصحافة الإسبانية مقالاً رصيناً بعنوان " في مزاد الموت" وهو مستوحىً من إِستعَاداتٍ لبعض فصول الحرب الأهلية ،وأحداث لبنان ، وعلى وجه التحديد من الهجوم الذي كان قد تعرّض له منزل أحد سفراء إسبانيا السّابق في لبنان الذي كان قد لقي مصرعَه في هذا الحادث المُؤسف ،الذي ذهب ضحيته كذلك الأديب اللبناني توفيق يوسف عوّاد (حمى السّفير الاسباني الهالك) ، فضلاً عن وفاة إحدى بنات عوّاد، بينماعانت إبنته الأخرى (زوجة السفير)، من جروح خطيرة جرّاء هذا الهجوم الهمجي . هذا الحادث كان قد وقع منذ سنواتٍ خلت، ولكنّ لابدّ أنّه على ما يبدو- لفظاعته - ما يزال ماثلاً يجثم بكلكله، وثقله على عائلتيْ كلٍّ من السّفير الاسباني ، والأديب اللبناني المعروف، وكذا على المُستعرب الإسباني بيدرو مارتينيث مونطافيث نفسِه إلى اليوم. همجيّة الحُروب يشير بيدرو مارتينيث مونطافيث في مستهلّ مقاله القيّم إلى أنه لم يكن على علم بأنّ الأديب اللبناني توفيق يوسف عوّاد كان حمى السفير الاسباني الأسبق في لبنان، ولم يعرف بهذه القرابة إلاّ بواسطة الأخبار التي كانت قد تناقلتها آنذاك وسائل الإعلام والصّحف الإسبانية حول الحادث. يقول الكاتب إنّه تعرّف منذ زمن بعيد بواسطة القراءة على توفيق يوسف عوّاد الأديب الرّقيق الذي يكتب القصص منذ حوالى نصف قرن، والذي يحتلّ مكانة مرموقة في بانوراما الأدب اللبناني والعربي المعاصر، على الرّغم من صمته، وإنقطاعه عن الكتابة منذ مدّة، قبل وفاته. يقول الكاتب الإسباني عن توفيق عوّاد كذلك إنه كان يمثّل جمالية أسلوب الأدب العربي الحديث وفتنته، هذا الأسلوب الذي يجري على يراعه منساباً،متواتراً ،جميلاً مهذّباً، صقيلاً، مُوحيّاً، ومُركّزاً، تغلفه مسحة من الغموض والحزن، وتطبعه غلالة من الكآبة والقلق، وبعد أن يثني الباحث على طريقة الكتابة عند الأديب اللبناني، يقول وهذه هي السّمات التي كانت تميّز أكثرَ من كاتب لبناني ينتمي إلى جيله، أويُصنّفُ نمطه . يقول مونطافيث إنه عندما قام بمراجعة أوراقه وجذاذاته التي جمعها منذ سنوات مضت حول حياة هذا الأديب لقى في بعضها تصريحاً من تصريحاته الذي كان قد أدلى به إلى صحيفة لبنانية مرموقة ،حيث يثير في هذا التصريح موضوعاً مأساوياً ذا مغزىً عميق ما فتئنا نعيشه إلى اليوم، بل إنّه إزداد تفاقماً، وتصاعداً، وتواتراً، وتوتّراً في إتّجاه غير معقول على مرّ السنين وتعاقبها إلى درجة التناوش، والاحتدام اللذين عاشتهما، وما فتئت تعيشهما لبنان، وكذا العديد من البلدان العربية والاسلامية إلى وقتنا الحاضر، وعن هذه الأحداث الدامية يتفتّق، أو ينبثق سؤال صعب وهو: كيف تتحوّل همجيّة الحروب وفظاعاتها الى مادّة أدبيّة وقصصيّة ..؟ إنّ الحروب الأهلية التي عرفتها لبنان، والتي تعاقبت على هذا البلد ترجع جذورها ودواعيها لأسباب داخلية وخارجية فى آنٍ واحد نظراً لعوامل متعدّدة منها طبيعة تنوّع فسيفساء المجتمع اللبناني الذي يتألف من أجناس، وأعراق، وإثنيات، وديانات، وطوائف، ومعتقدات، ومذاهب متباينة، ولهذا يُعتبر هذا المجتمع من أكثر المجتمعات العربية تركيباً وتعقيداً، ومع ذلك فهو من أكثرها تميّزاً، وإبداعاً في مختلف الميادين ،وهذه التركيبة المجتمعية الغريبة في هذا البلد تعود لسنين بعيدة، نظراً للحضارات، والثقافات المتعدّدة، والمتباينة التي تعاقبت عليه، والتي إنصهرت في بوتقة المجتمع اللبناني المتعدّد الألوان والأطياف كما نعرفه اليوم. "طواحين بيروت" كان توفيق عوّاد قد نشر قصّة له بعنوان "طواحين بيروت"، والتي نقلت إلى الإنجليزية تحت عنوان "موت في بيروت" وهذه القصّة كانت وكأنهّا تترصّد التطاحن الأهلي الفظيع الذي كان وشيك الحدوث، فى ذلك الإبّان ،كانت هذه القصّة تبدو في الحقيقة كنوعٍ من رجع الصّدى، أو إرهاصاً لما سيحدث، كما أنّها كانت نتيجة صراع مسلّح آخر حدث قبل ذلك بكثير مباشرة بشكل متواتر ومتشابك مرتجّ، وصادم وهو حرب الستة أيام 1967. كان عوّاد مثل الآخرين يدين بشدّة تلك "الحروب البليدة" التي كان الجميع مجرميها وضحاياها في آنٍ واحد. كما كانوا موضعَ لهوٍ فيها كما لو كانوا بمثابة أطفال صغار يعبثون. كان توفيق عوّاد ممّن يفكرون أنّ الوضع المتردّي كان نتيجة تدهور النظام ،وبسبب الخلافات العقائدية والتخلف،إنّه كان يقول : " تلك الحروب تخلو من أيّ معنى، وليس لها أيّ نتيجة يمكنها أن تنتهي إليها، إلاّ أنّ الثورة لم تكن قد بدأت بعد". كلمات مثل هذه صادرة عن مواطن لبناني مثله كان لها وقعُها الخاص، ومدلولها العميق . أهوالُ الحرب وفظاعتها يذكّرنا الصّديق أمجد ناصر فى كتابه :" بيروت بحجم راحة اليد"حتماً، ويعيد إلى أذهاننا فيه مقال الدكتور "بيدرو مارتنيث مونطافيث" و مجريات أحداث لبنان وأهوالها، إنّه نقلة الى ماضٍ بعيدٍ قريب في بيروت المكلومة التي ما فتئت تَسكنُ وجداننا ،وتذكّرنا بالجروح القديمة، والقروح الدفينة،والكِلام الغائرة التي لم تلتئم بعد، فالخطب كبير،والمُصاب جلل ،والمعاناة أعتى من أن يصف لنا هول الحدث، كان الرّاوي لمّا يزل في عنفوان الشباب، وريعان العُمر، غضّ الإهاب، طريّ العود، روحه وطموحه لا يسعان جسمَه النحيل،وإنّ ما وصفه لنا الكاتب عن هول، وروع، وفظاعة ماعاشه وقاساه هو وأهله، وأقرباؤه، وخلاّنه من حصار قاتل، ما زالت تعانيه بيروت إلى اليوم. يقول الكاتب إلياس فركوح فى هذا السياق : " ثلاثون سنةً مَرَّت على حِصار بيروت، وهذا الكتابُ يسجِّلَ ما جرى كما هي اليوميات بوقائعها الحَقَّة، طازجة، بلا تزويق أو تزوير. لا يسجّل كلّ ما جرى فهو لا يَدّعي هذا أبداً، كما أنه لا يَدّعي بُطولةً من أيّ نَوعٍ يتباهى بها، أو يبتزُّ بحكاياتها سِواه، أو يعملُ بموجبها على إضفاء "شرعيّةٍ" مّا على مسلكيّاته اللاّحقة،أو يُسَخِّرُها أداةَ تشهيرٍ بآخرين. ولعلَّ هذا، من وجهة نَظَري، يشكّلُ بطولةً في ذاتها، بطولةً أخلاقيّةً في المقام الاوّل". ومثلما كان عليه الشأن إبّانئذ، فإنّ الآلة الحربية الإسرائيلية المتوحّشة - في الأرض الفلسطينية - ما انفكّت تقتّل وتنكّل بهذا الشعب بدون رحمة، ولكنّهم مهما تمادوا في غيّهم، وأسرفوا في ظلمهم، فإنّ الأيّام تلخّص لتا مآلهم ومصيرَهم المحتومين لا محالة..حيث أقسم النّصرُ حقا ألاَّ يُحالفهم.. حتى يحالفَ بطنَ الرّاحة الشّعرُ...! غبارُ الأيّام يشير الباحث الاسباني بيدرو مارتينيث مونطافيث من جهة أخرى أنّ العمل الأدبي المتألق عند عوّاد قوامه القصّة. ويورد عناوين لبعض أعماله منها ديوان شعر بعنوان "قوافل الزّمان"، و"غبار الايّام"، و"فرسان الكلام"، و"الصبيّ الأعرج"، و"مطارالصّقيع" ،و"قميص الصّوف"، و"العذارى"، وروايته "الرغيف" وسيرة ذاتية بأسلوب روائي بعنوان : "حصاد العمر". ، وقد جعلت منه هذه الأعمال خيرَ من يمثل القصّة اللبنانية في ذلك الوقت، ويعترف له بهذه المكانة المرموقة ناقد جيّد معاصر له وهو مواطنه سهيل إدريس. ويضيف " مونطافيث" إنّ القصّة في لبنان، بل وتقريباً في باقي البلدان العربية بشكل عام كانت توجد في ذلك الوقت في مرحلة النهوض، أوعلى الأقل في بداية الظهور بمظهرها المتماسك، الناضج، والمتين. ويشير إلى أنّ أعمال توفيق عوّاد هي ذات " لون محليّ"، إلاّ أنهّا أعمال إبداعية رفيعة الشأن، نستجلي فيها ومن خلالها بوضوح الحسّ الاجتماعي والانساني، وجوانب مضيئة من التحليل النفسي . ويعتبر الباحث الاسباني قصّة "الرغيف" من الإسهامات الأساسيّة للرّواية العربية وقتئذ، على الرّغم من إفتقارها الجزئي إلى تقنية وبنية القصّة، بيد أنّ ذلك لا ينتقص من قيمتها إذا ما قورنت بقصص أخرى محلية في كلّ من سورية،والعراق، وفلسطين، ومصر وسواها من البلدان العربية الأخرى، إذ كانت معظم هذه الأعمال تضاهي بعضها الآخر. ويشير الكاتب إلى أنّ موضوع هذه القصّة في العمق هو الحرب العالمية الأولى حيث عاشت البلاد مأساة، وفظائع، وأهوال هذه الحرب الضروس(كان الناس يموتون جوعاً في الطرقات)، كما أنّ هذه القصّة تطفح بعاطفة متأجّجة، وطيبة جيّاشة، وهي ليست ذات بُعد لبناني صرف، بل إنّها تتخطّى الحدود اللبنانية. أطلال بعلبك ويشير المستعرب الإسباني إلى أنه مِمَّا يثير الدّهشة،والشدوه هو أنّ صاحب عمل روائي في هذا المستوى يدخل في صمت مطبق طويل إمتدّ زهاء عشرين سنة بإستثناء بعض الإسهامات الأدبية الدّورية التي كان يطلّ بها علينا بين الفينة والأخرى. ويلاحظ البروفسور مونطافيث في هذا الصّدد أننا لا نتوفّر على أيّة معلومات لتبرير هذا "الجفاء" أو " الجفاف" أو "الكفاف" في الابداع، بل إنّ الكاتب اللبناني نفسَه لم يقدّم هو الآخر أيَّ معلومات تلقي الضّوء على هذا التواري، والغياب، ويستبعد مونطافيث أن يكون سبب ذلك هو عمله في السّلك الدبلوماسي والسياسي، حيث إشتغل في مصر، والمكسيك، واليابان، وايطاليا، والبرازيل ،والأرجنتين، وإيران. بل إنّه كان أوّل سفير لبلده في إسبانيا . عاد عوّاد إلى الظهورعلى السّاحة الأدبية والإبداعية مرّة أخرى بعملٍ غريب وغير مُتوقّع، وهي مسرحيته التي تحمل عنوان: "السائح والترجمان" يصفها المستشرق " ميشيل باربّو" الذي نقلها إلى اللغة الفرنسية، بأنّها " الطريق الهمجي للإنسان والكون" . وكان هذا العمل الأدبي قد أثار ضجّة ونقاشاً رائجين، ممّا جعل من آثار وأطلال بعلبك مسرحاً لهما، حيث تمتزج الأزمان فيها بالشخصيّات، في تداخلٍ، وتناوشٍ بديعيْن، متسائلاً إلى أيّ حدّ كلُّ واحدٍ من هذه الشخصيات هو حقيقي أو خيالي..؟ كما يمتزج فيها كلّ ما هو مادي، وروحي، وتهكّمي، وشعري، ومأساوي، إنها طريقة تجريبية يلجأ فيها الكاتب إلى تهجين المسرح بالرّواية والشّعر، ويحرص بشكل خاص على إنتقاء المادّة اللغوية المُستعملة، ولا ريبَ أنّ المؤلف في هذا العمل الأدبي يجعل الشاعر الكامن فيه يطلّ علينا فيه بهامته . الصّديق ينمُو كشجرة الأَرز يقول الباحث والمُستشرق الاسباني " بيدرو مارتينيث مونطافيث" إنّ صديقاً له من أصل لبناني كان قد أهداه مرّة تذكاراً علّقه على أحد جدران منزله، وهو عبارة عن قطعة خشبية جميلة مُستديرة مكتوب عليها ما يلي: " الصّديق ينمو كنخلة، كشجر الأَرز في لبنان" … هذه الشّجرة الأسطورية،السّحرية، الأوروكية، والجلجاميشيّة يمكن أن تكون كذلك ضاربة جذورها في عمق الثرىَ، ناشرة أغصانها المائسة اليانعة، وأوراقها الباسقة الخضراء، في عنان غابات أرزالمغرب الشامخ سواء في جبال الاطلس الشّاهقة، أو في مُرتفعات وآكام كتامة الشمّاء بالرّيف الوريف… أو في أيّ بلد عربيّ أو أجنبيّ آخر، وكلّها تجسّد أو ترمز إلى معنى الصّداقة الحقّة، التي نحن أحوج ما نكون إليها اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، ولكن.. ما أكثرَ الأصدقاء حين تعدّهم /ولكنّهم في النّائبات قليلُ..!. ! توفيق عوّاد حياته وأعماله تعلّم توفيق يوسف عوّاد ( 1911 - 1989 ) مبادىء القراءة والكتابة في قريته (بحرصا ف - المتن - جبل لبنان) ثم إنتقل الى كلية القدّيس يوسف في بيروت لمتابعة دروسه الثانوية التي أنهاها عام 1928 - ثمّ إلتحق بمعهد الحقوق في دمشق ونال إجازته منه عام 1934.عمل في الصحافة التي شكّلت له منبراً للدفاع عن الحقوق التي درسها وتمرّس بها، وفتحت له المجال للتعبيرعن موهبته الأدبية التي تفتقت منذ صباه،. أسهم بقسط وافر فى العديد من الجرائد اللبنانية منها "العرائس"، "البرق"، "البيرق"، "النداء" و"القبس" - وأصبح رئيساً لتحرير صحيفة "النّهار" البيروتية منذ تأسيسها عام 1933 حتى عام 1941 ،وفى نفس هذه السنة أسّس مجلة "الجديد" الأسبوعية التي إستقطب فيها المواهب الشابة، والتي ما لبثت أن تحوّلت إلى جريدة يومية. يتميّز أدب توفيق يوسف عوّاد بإغتراف إبداعاته ،ونهلها من واقع الإنسان اللبناني، ومن بيئته المحلية ليبلغ بعد ذلك عمق التجربة الانسانية فى شموليتها،وأبعادها، وكان لثقافته الواسعة،وتكوينه المتين أثرهما البالغان في صقل موهبته الأدبية ،وتفرّد إبداعاته، و كانت منظمة الأونيسكوالعالمية قد أوصت بترجمة نماذج من أعماله الأدبية التي إعتبرتها عن جدارة من "آثار الكتّاب الأكثرتمثيلاً لعصرهم" مثل روايته المعروفة " طواحين بيروت" ،كتب القصة القصيرة الناجحة التي تعتمد على منهج التحليل النفسي والاجتماعي، وقال له الأديب اللبناني الكبيرمخائيل نعيمة إعترافاً منه بذلك في رسالةٍ على أثر صدورقصّته "الصبيّ الأعرج": "كأنّكَ ما خُلقتَ إلاّ لتكتبَ القصّة" . *عضوالأكاديميّة الإسبانيّة - الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا.