من الثابت في منطق علم السياسة أن المساس بالقضايا الإستراتيجية للشعوب يشكل عملا أخرق، شديد الخطورة، إلى حد اعتباره بمثاب لعب بالنار . ومن المحقق في وجدان الشعب المغربي أن الأمازيغية تعتبر قضية إستراتيجية حيوية لارتباطها العضوي بهويته وبكرامته وبمصير وجوده ككل، وأنه إن كان هذا البعد الإستراتيجي لهذه القضية يبدو واضحا وبديهيا، يستشف عقليا من الاستفتاء الشعبي العام على دستور 2011 الذي أفصح فيه المغاربة عن إرادتهم في جعل الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب العربية، لثبوت التصاقها الفطري بكيانهم وبصلب أرض وطنهم، فإن جلالة الملك محمد السادس وعيا منه بأهمية هذا البعد الجوهري ذكر به نواب الأمة في خطابه السامي بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان سنة 2012، داعيا إياهم إلى إدراج الأمازيغية ضمن الأوراش التشريعية ذات الأولوية، نظرا لبعدها الإستراتيجي العميق . والحق أن المرء لا يملك إلى أن يضع يده على قلبه خوفا ورعبا، لأن الحكومة المغربية المسؤولة تلعب بالنار لمساسها بالقضية الأمازيغية الحساسة جدا، على اعتبار أن هذا اللعب بالنار لا يتمثل فحسب في صم الحكومة آذانها عن الاستجابة للنداء الملكي الداعي إلى التعجيل بإصدار التشريعيين الأمازيغيين الضامنين لحقوق الأمازيغية، الوارد في الخطاب السامي الآنف الذكر، بل الأدهى من ذلك أنه يتمثل في رفضها المطلق لإصدار هذين القانونين، ضدا كذلك على أحكام الفصل 86 من الدستور، الآمرة بضرورة إخراجها داخل ولايتها التشريعية . ومن المحتمل في الغالب أن يكون السبب الذي دفع الحكومة إلى القيام بهذا الفعل المخيف هو أحد هذين الأمرين : إما أنها تجهل منطق علم السياسة الذي يحذر من العبث بالقضايا الإستراتيجية للشعوب. وإما أنها تجهل البعد الإستراتيجي الحساس للأمازيغية. غير أن الراجح على ما يبدو هو أنها ربما تجهل الأمرين معا، لأنها لو كانت تعلم بهما لما أقدمت على فعلها ذاك، العابث والخطير . فهو عابث فعلا لأن تلاعب الحكومة بالأمازيغية واضح وثابت، من خلال سلوكيات هوجاء نذكر من بينها ما يلي : -التلاعب الأول يتجلى في تعهدها الكاذب الوارد في تصريحها الحكومي الأول، حيث وعدت في بداية عملها بإنجاز برنامج طموح لتنزيل المقتضيات الدستورية بشأن الأمازيغية، يحظى فيه القانونان التنظيميان للأمازيغية بالأولوية في الإصدار، غير أنه تبين في ما بعد أن هذا الوعد كان مجرد حبر على ورق . وأذكر هنا أنني –خلافا للعديد من إخواني في الحركة الأمازيغية – كنت قد صدقت هذا الوعد الزائف، حتى إنني كتبت عنه حينذاك مقالة نشرت على جريدة الصباح تحت عنوان "قراءة نقدية للبرنامج الحكومي حول الأمازيغية"، نوهت فيها ببرنامج الحكومة متفائلا بتحقيقه. -أما التلاعب الثاني فكان وعدها بإحالة ملف الأمازيغية على الجهات العليا، أي على المؤسسة الملكية، لعلة اكتشافها أن الأمازيغية أكبر منها، فتبين لاحقا أن هذا الوعد كان مجرد كذبة أخرى لتبرير فضيحة انكشاف زيف التعهد الأول، بعد تحقق الجميع من قيامها بتغييب إصدار قانوني الأمازيغية في الحصيلة الأولى من الإنجازات الحكومية المقدمة أمام البرلمان بمجلسيه. وأقول إنه انطلت علي مرة أخرى هذه الكذبة الثانية، فصدقتها لاعتقادي آنذاك أن الحكومة تبنت أطروحة بعض مكونات المجتمع المدني والسياسي التي كانت ترى في التحكيم الملكي الطريق الأمثل لحل القضية الأمازيغية وللابتعاد بها عن المزايدات الحزبية الضيقة. وهكذا دفعني هذا الاعتقاد الخاطئ إلى نشر مقالة أخرى، دافعت فيها عن قرار الحكومة بإحالة ملف الأمازيغية على أنظار جلالة الملك، معتبرا هذا القرار في محله وعلى صواب . -غير أنه ثبت من جديد عدم صدق الحكومة في هذه الإحالة، فكان ذلك هو التلاعب الثالث الذي استعملت في الحكومة –مع كل أسف- المشجب الملكي لتعلق فيه تماطلها وتسويفها في تدبير ملف الأمازيغية، الذي ظهر أنه يدخل بالفعل في الاختصاص النوعي للحكومة، بدليل إقرار رئيسها بذلك من خلال تصريحه الأخير بانكباب حكومته في إعداد القانون التنظيمي المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، معلنا فتح بريد إلكتروني لتلقي اقتراحات في هذا الموضوع . -وبخصوص التلاعب الرابع فإنه يتجلى في انتظار الحكومة إلى حين حلول الوقت الميت الذي انتهت فيه أشغال البرلمان، بانتهاء دوراته العادية، لتقوم فيه بوضع قانوني الأمازيغية في تسرع ولخبطة، ثم بإيداعهما في هذه الظروف الشاردة بكتابة ضبط البرلمان. غير أن المدهش حقا في ألاعيب الحكومة هذه هو عدم قيامها بتقديم طلب عقد دورة اسثتنائية للبرلمان طبقا للفصل 66 من الدستور، لتمنع بذلك المؤسسة التشريعية من مناقشتهما والمصادقة عليهما، ولتحرم الأمازيغية من حقوقها الثابتة، فكانت والحالة هذه كمن يعطي شيئا بيد، ثم يسحبه باليد الأخرى. وبعد: فإن ثبوت هذا الوجه العابث في عمل الحكومة هو ما يثبت أيضا ثبوت الوجه الخطير والمرعب في عملها، لأنها بتصرفاتها الرعناء تلك لم تكن فقط قد جرحت كرامة الشعب المغربي باعتدائها الظالم على لغته الأمازيغية التي تكمن فيها روحه وحياته، بل إنها فوق ذلك انتهكت شرف سيادته لمخالفتها الصريحة أمره المطاع الوارد في الفصل 86 من الدستور، الذي يدعوها إلى إصدار جميع القوانين التنظيمية الدستورية قبل انتهاء ولايتها التشريعية، والأدهى من هذا أنها بضربها حقوق الأمازيغية تكون بذلك قد ضربت في الصميم الخيار الديمقراطي الذي تستند إليه دولتنا في حياتها العامة، والذي يقوم على المفهوم الجديد للديمقراطية القائل إن: "الديمقراطية ليست مجرد تجسيد للمساواة في ظل الحق والقانون وإنما لا بد لها من عمق ثقافي"، الوارد في خطاب العرش لسنة 2001 الذي قرر فيه جلالة الملك محمد السادس إعادة الاعتبار للأمازيغية، في إطار ترسيخ المشروع المجتمعي الديمقراطي الذي عاهد فيه عاهلنا شعبه بعد اعتلائه عرش أسلافه المنعمين، بتركيز بناء الدولة العصرية على ديمقراطية حقيقية تعمل مؤسساتها بشكل معقلن ومنظم لغاية تحقيق تنمية شاملة بروح التكافل الاجتماعي والوفاء للتقاليد العريقة. إذن، أكيد أن حكومة السيد عبد الإله بنكيران بمساسها بثوابت الأمة هذه كانت تلعب بالنار التي من شأنها إن اشتعلت –لا قدر الله- أن تحرق الرطب واليابس في بلادنا، على اعتبار أن تنبؤات المفكرين السياسيين تؤكد أن قيام سلطة ما برفضها طلب عادل، أو تجرؤها على الاعتداء على حق طبيعي لفرد أو لجماعة، يجعل الشعوب تشعر بالغيظ والغضب، الذي يؤدي عاجلا أو آجلا إلى عواقب وخيمة على استقرار أمنه الاجتماعي . وفي هذا السياق فإن بعض مكونات المجتمع قد عبرت بالفعل عن هذا لقلق العميق من مساس الحكومة بالأمازيغية، ذهبت فيه إلى حد إحراق صورة عبد الإله بنكيران، وإلى وضع رمز نعش الأمازيغية أمام مقر البرلمان، ثم إلى احتجاجات متفرقة أخرى هنا وهناك، غير أن المؤشر القوي الذي يتبين منه بلوغ هذا القلق مستوى الزبى، فهو إحساس مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية به، ما أدى بعميدها السيد أحمد بوكوس إلى التعبير عنه في تصريح ناري اعتبرته مجلة هسبريس التي نشرته يوم 14 يناير 2017 بمثابة دق لناقوس الخطر . والغريب في الأمر أن الحكومة تبدو مع كل هذا مستخفة بهذا القلق الأمازيغي، ولا تبالي بخطورته؛ حتى إنها لم تبادر إلى تقديم اعتذارها للشعب المغربي، رغم ثبوت ارتكابها، وفي حالة تلبس، لجريمة دستورية، تمثلت في تعطيلها النهائي لأحكام الفصل الخامس من الدستور، برفضها المطلق الخضوع لمقتضيات الفصلين 66 و86 منه. ومما لا شك فيه أن المؤرخ السياسي سيتساءل هنا عما إذا كانت حكومة بنكيران، باستخفافها بمشاعر المكون الأمازيغي للمغاربة، تسعى في خط مستقيم إلى خلق مشكلة أمازيغية كبرى في بلادنا، كما سبق لبعض الحكومات الوطنية بعد الاستقلال أن خلقت باستخفافها بمطالب الشباب الصحراوي والموريتاني المشكلة الموريتانية آنذاك، ومشكلة الصحراء المغربية الجنوبية حاليا؟ التاريخ السياسي لبلادنا يقول حقا إن المغرب فقد موريتانيا بسبب خطأ حكومي عابث، وإن المشكلة الصحراوية التي يعاني منها مجتمعنا حاليا خلقت كذلك بسبب خطأ حكومي آخر عابث. فهل يا ترى سيظل المغرب يتفرج على حكومة بنكيران وهي تعبث خاطئة بالأمازيغية، إلى أن ينفجر فتيلها في وجهه، بمشكل أعم وأكبر؟ إذن، الحكمة كل الحكمة تقتضي نزول المغرب بكل ثقله القوي لإصلاح أخطاء الحكومة وتلاعباتها، التي انعكست سلبياتها بلا شك على مشروعي القانونين التنظيميين الأمازيغيين المعدين من طرفها، ما أدى إلى خروج القانون التنظيمي المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية بالخصوص، مشوها، به عدة عيوب شكلية وجوهرية . لكن التساؤل المطروح هنا هو كيف سيتم هذا الإصلاح؟ هل بتزكية مشروعي هذين القانونين، ثم السعي إلى طرق أبواب البرلمان للمطالبة بتعديلهما وبتصحيح تشوهاتهما؟..أم هل ينبغي اعتبار المشروعين المذكورين كأنهما لم يكونا، وبالتالي المطالبة بإعادة إعدادهما من طرف لجنة خاصة تحظى بالثقة وبالمقاربة التشاركية للأطراف المعنية؟ بكل اختصار أجيب على هذين السؤالين بالقول إن حل السؤال الأول غير صائب، لأن ما يولد مشوها أو ميتا يصعب علاجه أو إحيائه. والحال أنه ثبتت ولادة مشروعي القانونين الأمازيغيين في الوقت الميت، وفي ظروفه الضاغطة المتسرعة والعشوائية، فذاك ما جعلهما مشوهين غير قابلين لأي علاج أو إصلاح. ولذلك أفضل حل السؤال الثاني لأنه وإن كان فيه نوع من التأخير فهو يضمن ولادة مشاريع قوانين سليمة وجيدة.