هذه ثالث مقالة ضمن سلسة "أخلاق الإسلام وسلوكيات المسلم". في نهاية المقالة الماضية، طرحت على نفسي وعلى القراء الكرام بعض الأسئلة، من بينها: كيف هي أخلاقنا؟ كيف هو خلقي؟ وكيف هو خلقك...؟ بعد طرح تلك الأسئلة، ختمت المقالة بهذه الفقرة: "لو قيمنا أخلاقنا ونظرنا إليها بالشكل الذي ننظر به إلى أخلاق الآخرين وانتقدنا أنفسنا كما ننتقد الآخرين وحاسبناها كما نحاسبهم، فسنكتشف الكثير من العيوب والأخطاء في أنفسنا التي تحتاج إلى تصحيح وتقويم قد يستغرق حياتنا كلها". كان الغرض من طرح تلك الأسئلة ومن إيراد تلك الفقرة الأخيرة أن يقوم كل واحد منا بتقييم خلقه وسلوكياته. بدون هذا التقييم وبدون هذه المحاسبة الدقيقة لأخلاقنا، التي يجب أن يقوم بها كل واحد منا بنفسه عن نفسه ولنفسه، فإن هذه المقالات لن تجدي نفعا وسيكون أثرها ضعيفا جدا أو ربما منعدما تماما. إن الذي يريد أن يصلح أخطاءه، لا بد أن يعترف بها أولا. إذ كيف يمكن للإنسان أن يصلح نفسه وهو يجهلها؟ أو ربما يعرفها ولكن ليست لديه الجرأة والقوة ليعترف بأخطائه التي يجب تصحيحها وبنقائصه التي يجب تكميلها. ونحن نقيم أنفسنا، يجب أن لا نغتر بثناء الناس علينا وبشهادتهم بالخير في حقنا إن حدث ذلك. فإذا شهد لك الناس بالخير فاحمد الله واشكره على تلك السمعة الطيبة. لكن إياك أن تغتر، فأنت تعرف نفسك أكثر من أولئك الذين يمدحونك. وأنت تعرف من أخطائك ونقائصك ما قد يخفى عن غيرك. يقول ابن عطاء الله في حكمه: "الناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذاما لنفسك لما تعلمه منها". كن صادقا إذاً مع الله ومع نفسك. اسمع ماذا يقول الله تعالى في حق من يزكي نفسه ويرضى عنها: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ)، النجم:32. لنكن كما كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، فعن الأصمعي قال: كان أبو بكر إذا مدح قال: "اللهم أنت أعلم مني بنفسي وأنا أعلم بنفسي منهم. اللهم اجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون". من أجل إصلاح سلوكياتنا وتحسين أخلاقنا، نحتاج أول ما نحتاج إلى معونة الله ومعيته وهدايته. فبدون معونة الله وتوفيقه وهدايته، لن نستطيع إلى ذلك سبيلا. إننا نردد في كل ركعة من صلواتنا قول الله تعالى في سورة الفاتحة: (إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم...). كما علمنا القرآن الكريم على لسان نبي الله شعيب أن نلوذ بالله ونستعين به ونسأله التوفيق والسداد في ما نبتغي من أمور وما نقصد من حوائج. قال تعالى: (وَمَا تَوفِيقِيۤ اِلَّا بِالله عَلَيِه تَوَکَّلتُ وَ اِلَيه اُنِيبُ) هود:88. وإن إصلاح النفس وتهذيب السلوك من أهم ما يجب اللجوء فيه إلى الله عز وجل. فالإنسان ضعيف أمام شهواته وأمام نفسه وأمام الشيطان. "فاللهم أعنا على إصلاح أخلاقنا وتزكية أنفسنا على الطريقة التي ترضيك عنا ولا تكلنا لأنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، وما توفيقنا إلا بك يا رب العلمين". ما نحتاج إليه أيضا من أجل تحسين أخلاقنا وتزكية أنفسنا، أن نعرف قلوبنا وأحوالها وتقلباتها وما يطرأ عليها من خير أو شر حق المعرفة. ففي الحديث المتفق عليه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". فصلاح الإنسان بصلاح قلبه وفساده بفساد قلبه. وإن الطبيب الذي يريد أن يعالج جسم الإنسان، لا بد أن يكون على قدر عال من الدراية بخصائص هذا الجسم وأحواله وأن يعرف كذلك الأمراض التي قد تهدده والأدوية التي تعالجه. وبدون هذه المعرفة الضرورية لا يمكن للطبيب أن يعالج جسم الإنسان. ونحن الآن نريد أن نكون أطباء قلوبنا. نريد أن نعالج هذه القلوب من الأمراض والصفات السيئة التي لا بد أن نتخلص منها. ولا يمكن أن ننجح في ذلك إلا إذا عرفنا قلوبنا وأحوالها ووقفنا بشكل جيد على أسباب مرضها وطرق علاجها. إن اعتناء الإنسان بجسده أمر ضروري من منظور إسلامي، فجسد الإنسان نعمة وأمانة من الله، مطلوب من المسلم الحفاظ عليها ومطلوب منه كذلك تجنب كل ما من شأنه أن يضر بصحته الجسدية. لكن إلى جانب عناية الإنسان بجسده، عليه كذلك أن يعتني بقلبه وبداخله، أي: بنفسه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم"، (رواه مسلم). وفي هذا المعنى قيل أيضا: أقبل على النفس واستكمل فضائلها ** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان إن عواقب إهمال القلب وعدم تزكيته أخطر بكثير من عواقب إهمال الجسد. وإن كان المسلم مطالبا بالاعتناء بجسده كما ذكرت، إلا أن عواقب هذا الإهمال وأثره لا تتجاوز الدار الدنيا. أما عواقب من لم يزكّ نفسه ولم يطهر قلبه فإنها تستمر إلى يوم القيامة. يقول الله تعالى على لسان نبيه إبراهيم: (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، الشعراء: 87-89. فانظر كيف جعل الله سلامة القلب هي السبيل الوحيد إلى النجاة والفوز يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون. فأيهما أولى بالاهتمام والرعاية: قلوبنا أم أجسادنا؟ إنها القلوب طبعا. أرجو أن يفهم هذا كل من ينفق الساعات الطوال في الرياضة ليبني عضلات جسمه، لكنه لا ينفق ولا لحظة من أجل بناء قلبه وتهذيب نفسه! إن الذي يريد إصلاح قلبه وتزكية نفسه، لا بد أن يكون على علم بالمخاطر التي تهدد هذا القلب وتفسده. وإن أخطر عدو يهدد قلبي وقلبك وقلوبنا جميعا هو الشيطان الرجيم. يقول الله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)، يوسف:5. ومن رحمة الله تعالى بنا أن علمنا كيف نقي أنفسنا ونحميها من كيد الشيطان. ولا يكون ذلك إلا باللجوء إلى الله والاحتماء بجاهه وكثرة ذكره سبحانه وتعالى. يقول جل شأنه: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ). إلى جانب الاستعاذة بالله من كيد الشيطان والإكثار من ذكر الله تعالى، لا بد كذلك لمن يريد أن يحمي قلبه من هجمات وهمزات الشياطين أن يجتنب الصفات والأخلاق السيئة؛ لأن هذه الصفات السيئة كالحسد والغضب والعجب والكبر وغيرها، هي مداخل الشيطان إلى القلب. وكلما كثرت الأخلاق السيئة في قلب، استحوذ عليه الشيطان. وقد لا ينفع في طرده ذكر ولا استعاذة ما دامت تلك الصفات جاثمة فيه. ولا سبيل إلى طرد الشيطان إذاً إلا بتطهير القلب من تلك الصفات وتحليته بالصفات الحسنة والأخلاق الحميدة. هذه الأخلاق التي لا بد لمن يريد أن يزكي نفسه التحلي بها والأخلاق كذلك التي عليه أن يطهر قلبه منها، هي التي ستكون مواضيع المقالات القادمة إن شاء الله. لكن، هل معرفة هذه الصفات كافية؟ يجب أن نعلم أن المعرفة وحدها ليست كافية، مع أهميتها. فبعد محاسبة النفس وتقييمها والاعتراف بجوانب النقص فيها، ثم اللجوء إلى الله ورجائه والاستعانة به من أجل إصلاحها، ثم معرفة أحوال القلب والنفس وأسباب فسادها وطرق إصلاحها، لا بد كذلك من التحرك والعمل والجهد. إن الذي يعرف أن جسمه مريض لن يتحسن حاله فقط بمجرد هذه المعرفة. بل لا بد أن يقوم بالمبادرات كزيارة الطبيب وتناول الدواء والوقاية وغيرها من الأسباب. والذي يرى أن وزنه زائد، مثلا، لن يخفّ وزنه فقط بمجرد هذه المعرفة، بل لا بد من أجل تخفيف الوزن من الرياضة والتمارين الشاقة وربما اعتماد حمية غذائية قاسية للوصول إلى الوزن المطلوب. كذلك الشأن لمن يريد أن يحسن أخلاقه ويزكي نفسه. قد يكون البعض منا جبل على الكثير من الأخلاق الحميدة، كحال ذلك الصحابي الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل ورسوله: الحلم والأناة"، فقال يا رسول الله، أنا تخلقتهما أو جبلني الله عليهما؟ فقال: "بل الله جبلك عليهما"، قال الصحابي: الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله عز وجل ورسوله، (رواه مسلم). فمن جبله الله على خلق حميد فليحمد الله وليشكره على هذه النعمة، وذلك فضل الله يوتيه من يشاء. لكن، هناك أخلاق وصفات أخرى لم تخلق معنا، وعلى المؤمن أن يكتسبها ويمرّن نفسه عليها. وقد يكون الإنسان جُبل على بعض الأخلاق السيئة أو نشأ عليها مدة طويلة، ولأنها سيئة، لا بد أن يتخلص منها. وهذا كله يحتاج إلى جهد وجهاد وصبر ومثابرة. وكل ما يبذله المؤمن من أجل إصلاح قلبه وتزكية نفسه فأجره ثابت عند الله. وعلينا في الأخير أن نثق في الله ثم في أنفسنا بأننا قادرون على تحسين أخلاقنا وتزكية أنفسنا إذا سلكنا الطريق الصحيح واتبعنا الخطوات اللازمة كما بينت سابقا. إن الواقع يثبت أن الإنسان بالتدريب والتمرين يستطيع أن يغير حتى سلوك الحيوان! وكم رأينا من حيوانات مفترسة روضها الإنسان وغيّر سلوكها العدواني المتوحش إلى سلوك أليف! فكيف يعجز الواحد منا عن تغيير نفسه وتهذيب سلوكه؟ [email protected]