3 / 3 كنت قد تكلمت عبر هذا المنبر (جريدة هسبريس) عن استحالة تحريف الكتاب المقدس وصدقيته في خمسة مقالات محكمة، فأثارت هاته المقالات ردود فعل عند بعض القراء وبعض المستطلعين لكل ما أكتبه في هذا الشأن، وهنا أحاول من خلال هذه المقالات المسترسلة أن أبين أن ما قلناه سابقاً له ما يؤيده ويرسخه؛ لذلك ارتأينا أن نتحدث عما كنا قد بدأناه، وللحقيقة فادعاء تحريف الكتاب المقدس من طرف المدعين هو ادعاء إيديولوجي أوجدته المنشة الدينية الإسلامية، وليس له أساس علمي أو منطقي مقبول، فيستحيل أن ينال أحدهم من الكتاب المقدس؛ لأنه يكون كمن يمسك خنجرا ويطعن جبلا قائم الذات بالأطلس المتوسط أو الكبير عندنا بالمغرب، فيعود مخزيا ويكسر خنجره بسبب تباث الجبل وقوته الصلدة؛ إذ سيظل الكتاب مثل الشمس نورا ساطعة، ومن وضع يده فيها تحرقه. لقد كان الإمبراطور الروماني نيرون (37/68) في وقت من الأوقات قد منع التبشير بالإنجيل، وبالمسيح كمخلص، لكنه لم ينجح في ذلك رغم تقتيله للمسيحيين وإحراقه لروما. أيضاً، الإمبراطور الروماني دقلديانوس (diocletian 284/305) الذي أصدر أربعة مراسيم ضد المسيحيين، حرض على إحراق الكتاب المقدس والقضاء عليه ومحوه من قلوب المؤمنين به، لكنه لم ينجح في ذلك. الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير (1694 -1778) صاحب الرسائل الفلسفية الذي تحدى الكتاب المقدس وتكلم عنه بالسوء، وقال بأنه بعد مئة سنة سيزول وتمحى المسيحية، وكأنه تنبأ بما سيحدث لمنزله بعد رحيله؛ إذ بعد مئة سنة ستأخذ دار الكتاب المقدس السويسرية منزله وتجعل جزء منه مخزنا للكتاب المقدس، والجزء الآخر مطبعة لطباعة الكتاب المقدس، فقد مات الفيلسوف فولتير voltair ولكن لم ينته الكتاب المقدس من بعده كما تنبأ. ما أكثر ما قيل عن الكتاب المقدس، فإسحاق نيوتن الذي اكتشف الجاذبية، قال إن الكتاب المقدس هو أعظم وأنبل فلسفة على وجه الأرض، إبراهام لنكولن ibraham lincoln (1809-1865) ،الرئيس الأمريكي السادس عشر الشهير محرر العبيد، قال عن الكتاب المقدس: "أعتقد أن الكتاب المقدس هو أعظم هدية قدمها الله للإنسان"، أيضاً ميشال فراواي michael faraday (1791- 1867) ،الذي اكتشف مغناطيسه الكهرباء، قال: "لماذا يضل الناس وعندهم الكتاب المقدس..."، صن ياد، وهو مفكر وفيلسوف صيني، قال: "نهضت الصين حينما ترجم إليها الكتاب المقدس". من المعلوم بأن أول رائد للفضاء أمريكي نزل على سطح القمر اسمه "جيمس أرون" (1930-1991)، لما عاد إلى الأرض تفرغ لخدمة الكنيسة والإنجيل، وقال: "إن الكتاب المقدس يحل المشاكل ويعطي الإرشاد..."، وعندما سألت الملكة فيكتوريا victoria (1837-1901)، ملكة إنجلترا في الوقت التي كانت فيه إنجلترا تحكم العالم كله، ما سر عظمة إنجلترا؟ وضعت يدها على الكتاب المقدس، وقالت "هذا هو سر عظمة إنجلترا"، جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدةالأمريكية، قال: "مستحيل حكم العالم حكما صالحا بدون الكتاب المقدس". فكل ما قلته هنا يؤكد وحي الكتاب المقدس وإلهامه؛ إذ يشهد الكتاب المقدس لنفسه بوحيه من الله، فكلمات الأنبياء-هي كلمة الله الآتية من خلالهم "وكانت كلمة الرب إلى النبي" (سفر يؤيل 1: 1)، وبطرس الرسول أحد تلاميذ يسوع المسيح يؤكد ذلك بقوله: "لم تأت نبؤة قط من رغبة بشر بل إنما تكلم رجال الله القديسون محمولين (مسوقين) بإلهام الروح القدس" (رسالة بطرس الثانية 1: 21)، ولا عجب في قوله أيضاً، إن الأنبياء ما كانوا قادرين على فهم كل مضامين ما نطقوا به من تعليم، فمصدر كلامهم يتجاوز أنفسهم؛ إذ المتكلم في الواقع "روح المسيح (الله) الذي فيهم إذ سبق فشهد بالأم المسيح وبما يتلوها من المجد". فمن الطبيعي أن تستدعي كلمة الله تجاوباً متمايزاً من الذين يسمعونها، فعندما يتكلم النبي بكلام الله لا من بنات أفكاره، تكون كلمة الله للسامعين، على حد قول النبي إرميا: "حنطة تغديً نفوسهم أو مطرقة يتحطمون تحت تأثيرها" (سفر إرميا 23: 28-29)، من هنا استنتج بعض الدارسين أن وحي الكتاب المقدس يكمن في تأثيره في الناس (قارئيه)، أي إنه يلهمهم، غير أنهم على خطأ؛ إذ يجب الإقرار بأن التأثير بكلام الكتاب المقدس يدل على وحيه، ويمكن لهذا التأثير أن يقود المرء إلى درس الكتاب المقدس بتعمق ليرى ماذا يقول عن ذاته وعن تأثيره، بيد أن وحي الكتاب المقدس مرة أخرى لا يعتمد على مدى قبول الناس له كوحي، هنا نحن مُلزمُون أن نعتبر ما ينسبه الكتاب المقدس لنفسه-نقطة البداية. إن استعمال الكتاب المقدس لكلمة "الوحي" تُظهر أن الوحي مؤسس لا على تجاوب الناس، ولا على الخبرة الذاتية للذين دوًنوه، لكن حقيقة أن "كل الكتاب المقدس موحى به من الله" (رسالة ثيموتاوس الثانية 3: 16) تعني أن "موحى" حرفياً "متنفس به"، أي إن الله زفره أو نفخه، والمقصود أن كل الكتاب موحى به لا بعضه، وكله نافع لا أجزاء منه، هذه العبارة الصريحة تصف الكتاب المقدس عموما ولا تفيد بأن الكتاب يلهم الناس بمعنى من المعاني، ولا حتى إنه كتب بواسطة أناس مُلهمين بالمعنى الذي توحي به الآية السابقة (رسالة بطرس الثانية 1: 21)، بل إن الكتاب المقدس ذاته هو "نفخة" الله في الذين دوًنوه. وأجرد مثالاً خارقاً عن هذه الميزة "الإلهام"، فمن المعروف أننا نصف الكتاب والروائيين والفنانين التشكيليين ب"المُلهمين"، أي يملكون قوى خلاقة تسمح لهم بالإبداع، ونقف أمامهم بذهول كبير، ونعتبرهم قلة نادرة بمواهبهم ونصفهم في بعض الأحيان بالنبوغ ونطلق على أعمالهم "أعمال ملهَمَة"؛ وذلك لأنها تلهمنا، ولأن الفنان النابغة ذاته يشعر وكأن أعماله آتية من خارج نفسه (ذاته). لذلك فإن الأعمال الإبداعية هي أكثر من مُجرد نتيجة لنشاط الإنسان ووعيه الخاصً، فعندما نقول عن الكتاب المقدس بأنه "مُلهم" يفهم الكثير الكلمة على النحو الذي أشرنا إليه، لكن إذا تأملنا في ما ينسبه الكتاب المقدس لنفسه نجد أن كلمة "مُلهَمَ" تعني أعمق من ذلك، إنها تحمل معنى يختلف عن معنى الإلهام الذي نصف به الأعمال الفنية والأدبية. يعلم الكتاب المقدس بوضوح أنه مُوحى به، لا ريب في ذلك، فكلمات الكتاب المقدس التي دوًنها بعض الكتاب والأنبياء، كانت كلمات الله، وهذا مختلف تماما عًما نعنيه بالإلهام "الفنًي" عموما كما رأيناً، من المُؤكد أن الله الخالق هو الذي يعطي بواسطة الروح القدس البشر الذين خلقهم على صورته (سفر التكوين 1: 26) الإمكانية لأن يدعوا للجمال والكمال الروحي، وبالطريقة ذاتها يمنحهم الحنان ليعتنوا بأطفالهم أو ليديروا شؤون بلدانهم بحكمة، لكن هذه النعمة الممنوحة من الله لكل البشر، يجب ألاً يُختلط بينها وبين القوة المخلصًة التي نراها تعمل عندما يؤكد الله أن البشر يمكن أن يروا ويسمعوا كلامه، واستطرادا، صحيح أن صورة الله يمكن أن ترى في كل إنسان، لكن المثال الإلهي يظهر من دون تشويه من إنسان واحد فقط، هو يسوع المسيح بالكتاب المقدس. إننا نعطي كلمة الله المكتوبة حقها الكامل إن تمسكنا بحقيقتين متلازمتين، كما نفعل حيال المسيح الكلمة المتجسد، وهما أن الكتاب المقدس إلهي وإنساني في أن واحد، مُوحى به من الله وفي الوقت نفسه بشريً إلى أقصى حد، أن يتكلم الله مباشرة من خلال الكتاب المقدس وبشكل فريد لا يجعل من الذين كتبوا الأسفار المقدسة مجرد آلات كاتبة، فكل سفر يحمل في طيًاته البرهان على أن كاتبه إنسان، وما كان الذين كتبوا الأسفار وحرًروها آلات كاتبة ذاتية، لقد جاهد لوقا ليجمع موادً صحيحة للسفرين اللذين كتبهما واعتنى قدر استطاعته ليكونا سجلًين دقيقين (إنجيل لوقا-أعمال الرسل). كذلك كتاب العهد القديم استعملوا قواهم الفكرية لتقييم المصادر تاركين الروايات غير المناسبة لعنايتهم، مستعملين المناسب لحاجتهم، وثمة اختلافات جمًة في الأسلوب الكتابي بين كتاب الوحي؛ فأسلوب لوقا هو غير أسلوب متى-وإرميا هو غير إشعياء مثلاً. من جهة أخرى، أن يكون الكتاب المقدس كتابًاً بشريًاً لا يجعله ذاتياً يحتوي على أخطاء، فالله سيد الخليقة كلها وهو الذي شكلً شخصيات المسؤولية عن تدوين إعلانه وظروفهم، مُؤهلا إياهم لإنجاز قصده، فلا ننكر على الله القدرة في قصده الخلاصي وحكمته غير المحدودة على ضمان الحق في سجلات الوحي وصدقيتًها. خلاصة: في الحقيقة كون الكتاب المقدس كتاباً مُلهما لا تعفينا من بدل الجهد الضروري روحياً وعقلياً لفهمه وتفسيره بصحة واستقامة، ولا تعني ضمنا أن جميع أجزاء الكتاب المقدس تعلن الله بالمقدار نفسه، فهناك ما هو تاريخي، ويدخل في إطار الحدث التاريخي التوراتي والإنجيلي! * باحث في مقارنة الأديان عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية mada