سيُدون المؤرخون بمداد الفخر وبخطوط عريضة كل ما جاء في خطاب ليلة السادس من نوفمبر 2018 تخليدا للذكرى 43 للمسيرة الخضراء السلمية، من حيث سلاسة قراءته للواقع والوقائع، معتمدا في ذلك على ثنائيات الثابت والمتحرك وكذا الوضوح والطموح. فالثابت وبالواضح هو ما يجمع شعوبنا من أواصر الأخوة ورابطة الدم والقرابة ووحدة الدين واللغة والتاريخ والمصير المشترك، بشهادة التاريخ في محاربة الاستعمار ومساندة المقاومة من أجل التحرير والاستقلال. والثابت وبالواضح أيضا هو أن الواقع لا يتماشى مع الطموح الذي كان يحفز جيل التحرير والاستقلال على تحقيق الوحدة المغاربية... وهي حقائق تُعفينا من الحاجة إلى طرف ثالث للتدخل أو الوساطة بيننا. كما أن الواقع يحكي لغة أخرى هي أن طبيعة العلاقات بين البلدين الشقيقيْن غير طبيعية وغير مقبولة، وبمعنى آخر أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وهو العنصر المتحرك في الموضوع. لذلك، كان الأمر يتطلب نُبْلا سياسيا وجُرأة مسؤولة باقتراح آلية للخروج من عنق الزجاجة عمادها الحوار والتشاور، وروحها حسن النية والصدق. وهكذا، فاقتراح جلالة الملك محمد السادس على أشقائنا في الجزائر بإحداث آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور، يتم الاتفاق على تحديد مستوى التمثيلية بها، وشكلها وطبيعتها، يدخل في صميم المقاربة الواقعية والقراءة السياسية لمستقبل العلاقات بين البلدين الشقيقين ولمصالح شعوبهما الاستراتيجية. وبرؤية الوضوح والطموح والجُرأة السياسية نفسها أيضا سيُبسط الخطاب بعض أهم مجالات التعاون، وخاصة في مجالات الاستثمار وفرص الإمكانات التنموية، من خلق فرص الشغل والتنمية البشرية، إلى التنسيق في مجالات أمنية تتعلق بمحاربة الإرهاب ومجالات إنسانية تتعلق بإشكالية الهجرة. وستُعزز اليد الممدودة من المغرب إلى الشقيقة الجزائر بتأكيد المغرب على استعداده للحوار المباشر والصريح من أجل تجاوز كل الخلافات التي تُعيق تطور العلاقات بين البلديْن، كما أكد على معايير هذا الحوار بأنه بدون سقف أو شروط أو استثناءات وليس رهينا لأي أجندة، مع الالتزام بالاحترام الكامل للمؤسسات الوطنية الجزائرية، مما يجعلنا نخلص إلى أن الكرة الآن في ملعب الأشقاء في الجزائر. من جهة أخرى، فثنائية الوضوح والطموح شملت أيضا طريقة الاشتغال على ملف الوحدة الترابية والوطنية، أي ملف الصحراء المغربية؛ فالوضوح يتجلى في الثبات على المرجعيات والتوجهات السيادية المؤسسة للتوجه المغربي، وخاصة السيادة الكاملة للمغرب على صحرائه ومبادرة الحكم الذاتي وأنه على جميع الأطراف التي بادرت إلى اختلاق النزاع أن تتحمل المسؤولية الكاملة من أجل إيجاد حل بشأنها والالتزام التام بالمرجعيات التي اعتمدها مجلس الأمن الدولي، باعتباره الهيئة الدولية الوحيدة المكلفة برعاية مسار التسوية، وأخيرا الرفض القاطع لأي تجاوز أو محاولة للمس بالحقوق المشروعة للمغرب وبمصالحه العليا ولأي مقترحات متجاوزة، وهي مرجعيات جاء بها خطاب المسيرة في ذكراها ال 42. أما شق الطموح، فهو التعاون الصادق مع الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الشخصي في ملف الصحراء المغربية قصد إرساء مسار سياسي جاد وذي مصداقية من جهة، وفي تجاوب المغرب بإيجاد حل سياسي دائم على أساس الواقعية والتوافق في إطار مبادرة الحكم الذاتي من جهة ثانية. وعلى نهج أسلوب ورؤية الوضوح والطموح نبه الخطاب الملكي الأممالمتحدة إلى ضرورة تفادي نواقص جولات مانهاست بأمريكا، ورفع شعار الرفض لكل أشكال الابتزاز والاتجار بالقضية الوطنية ولكل أشكال سياسة الريع والامتيازات على المستوى الداخلي. في مقابل هذا، نوه بالنموذج التنموي لأقاليمنا الصحراوية من خلال الجهوية الموسعة كفضاء ديمقراطي في التدبير الذاتي ومساحة كبيرة لتحقيق التنمية المندمجة في مناخ الحرية والاستقرار. لقد تبنى المغرب ثنائية الوضوح والطموح كمبادئ لسياسته الخارجية لمعالجة القضايا الكبرى للبلاد، وفي مقدمتها ملف الصحراء المغربية، وهنا استغل الخطاب لحظات الاسترسال ليشرح فكرة شاردة حاول البعض بسوء نية تسويقها بخصوص عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، وهي أن هذه العودة لم تكن فقط بهدف الدفاع عن قضيته المصيرية، مشيرا في الآن نفسه إلى تقاسم غالبية الدول الإفريقية للطرح المغربي، منوها أيضا بمخرجات قمة نواكشوط المنسجمة مع المواقف الدولية التي تمثل انتصارا للحكمة وبُعْد النظر، بل الهدف من العودة هو أيضا الاعتزاز بالانتماء القاري والمساهمة في الدينامية التنموية الجديدة، لكن دون تفريط في حقوقنا المشروعة ومصالحنا العليا، ليؤكد في إطار عنصر الوضوح دائما أن المغرب لن يقبل بشراكات تمس بوحدته الترابية والوطنية، وأنه حريص على أن تؤثر فوائد هذه الشراكات إيجابا في تحسين ظروف العيش داخل الوطن الواحد المغرب. خطاب الوضوح والطموح ينسجم ويتماهى مع السياق التاريخي والسياسي والاقتصادي والمجتمعي المتغير، وفي أفق انتصار صوت الحكمة والعقل، ها نحن ندق بكل شجاعة ونُبل باب الإخوة الجيران والبلد الشقيق الجزائر.