المقدمة بداية ليس هدفنا من هذا المقال تأجيج الجدل القائم حول إصلاح المنظومة التربوية؛ ولا الانتصار لفريق ضد آخر؛ ولا مقاربة قانون الإصلاح من نفس منظور الفرقاء السياسيين. لكن الهدف من هذه المساهمة هو تقديم قراءة شاملة تستحضر المعطيات الدولية في مناقشة الاستراتيجيات الوطنية؛ خصوصا التحولات المتسارعة التي تمس كل الأنظمة السياسية والاقتصادية، والمعرفية. ثم إن القراءة الصحيحة للمشهد السياسي الراهن تطلبت منا مقاربتين متكاملتين: • الأولى مقاربة وطنية: تشرح بأكبر قدر من الموضوعية حيثيات الصراع السياسي والمجتمعي، المتأجج حول بعض مواد مشروع القانون 51.17. • والثانية عالمية: تربط استراتيجيات الدولة بالمستجدات السياسية والقانونية والمعرفية الدولية. فأما المقاربة الوطنية فلا ينبغي لها الاكتفاء بنقل الواقع أو التفكير في أسبابه، وإنما تفكيك الخطابات من أجل فهم عميق لبنيات الأحزاب والدولة والعقل الجمعي. وأما التحولات العالمية، فيجب قراءتها بعين الحاضر لا بعين الماضي؛ والدعوة هنا موجة إلى كل الأطراف، ذلك أننا لا نجد إحداها يسمو على الآخر في السبق إلى تجديد المعنى، وبالتالي العمل السياسي. إن متابعة ما يجري على الساحة الدولية يتطلب تغيير النظارات القديمة بأخرى جديدة، تنقل صورة آنية وواقعية وتمحي أوهام الماضي. I. المقاربة الوطنية تفرض هذه المقاربة أسئلة يفرضها توضح المشهد الداخلي لعل من بينها: • ماذا تريد الحكومة من قانون إصلاح المنظومة التعليمية؟ • ما هي دوافعها وآليات اشتغالها؟ • وما هي ظروف طرح القانون الجديد للتصويت؟ جاء مشروع 51.17 كجواب لفشل الخطط الإصلاحية السابقة؛ هذا الأخير الذي لا تتحمله جهة بعينها، بقدر ما هو مسؤولية مشتركة بين جميع الفرقاء والفاعلين. إلا أن هذا الفشل يحقق نوعا من الإجماع على ضرورة الإصلاح، وإن اختلفت الطرق وتفرقت السبل. هذا الإجماع الجزئي والهش، قد يكون لبنة لبناء توافق سياسي يتجاوز المصلحة النقابية والحزبية الضيقة؛ وما يدعم ذلك أنه صيغ بمشاركة عدد من مؤسسات الدولة؛ والخطابات الملكية، ورئاسة الحكومة، والهيئات الدستورية، والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي. وقد جاءت أهدافه لتشدد على متابعة الإصلاح بما يخدم مصالح الفرد واستراتيجيات الدولة معا، وذلك بالاحتكام إلى إطار قانوني جديد يحدد ويلزم كل الأطراف بمسؤولياتها؛ إلا أن الظرفية السياسية والاجتماعية التي أُخرج فيها القانون قد تفسر مدى الخلاف الحاد بين المجتمع والدولة من جهة، وبين الفرقاء السياسيين من جهة أخرى. 1. الفرنسية وبنية الدولة إن حدة الجدل القائم اليوم حول الفرنسية يفرض علينا الحديث عن وضعيتها السوسيولوجية والقانونية قبل التطرق إلى باقي جوانب الموضوع. أشارت المنظمة العالمية للفرانكفونية في تقريرها السنوي الصادر سنة 2018 إلى تنامي دور الفرنسية في الدول المغاربية على كل الأصعدة الثقافية، والتعليمية، والإعلامية. وحسب التقرير أن ما يقرب 12.7 مليون مغربي يتكلمون الفرنسية أي ما يعادل 35.7٪ من مجموع الساكنة. فيما احتل المغرب المرتبة 5 بعد الجزائر ب 13.8 مليون أي ما يعادل 33.5٪ من ساكنتها. نفس التقرير أشار إلى تنامي دور الفرنسية في كل مستويات التعليمية وفي الولوج إلى سوق العمل الداخلية والخارجية. هذا بالإضافة إلى ارتفاع الطلب الذي تسجله المعاهد الفرنسية بالمملكة المغربية على شهادات DELF وDALF، وما يقابله من نمو لمعدل الطلبة المسجلين بالمدارس العليا والجامعات الفرنسية. كما يشير تقرير اليونسكو لسنة (2015) أن 60٪ من الطلبة الذين يدرسون خارج المملكة المغربية مسجلين بفرنسا. بينما يطلعنا تقرير،Campus France الصادر سنة 2018 أن المغرب يحتل المرتبة الأولى ب 380002 طالب مسجل في المدارس العليا والجامعات الفرنسية ويتقدم على الصين صاحبة المرتبة الثانية ب 28760 طالب. هذه الأرقام والواقع السوسيولوجي لا يدع مجالا للشك بأن دور الفرنسية في المجتمعات المغاربية في تنامي، وأن الاعتبارات الإيديولوجية أضعف من أن تغيره أو تحصره. إلا أن الوضع القانوني والدستوري للفرنسية يقسم المغاربة بين مؤيد ومعارض لفكرة تبنيها لغة لتدريس العلوم. والمعلوم أن الدولة ومنذ الاستقلال إلى اليوم لم تحسم في شأن الوضع الدستوري للفرنسية. ذلك أن الدساتير المغربية كلها منذ 1962 إلى غاية دستور 2011 كانت تشير إلى اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية الوحيدة للمملكة المغربية. ثم جاء الاعتراف بالأمازيغية مكونا ثقافيا ولغويا في الدستور الأخير. بينما بقي إلى حدود الساعة الوضع القانوني للغة الفرنسة دون أن نغفل الدارجة المغربية - التي أثارت جدلا مجتمعيا واسعا لإدخال بعض المصطلحات منها في المقررات الدراسية مؤخرا-مغيبا أو غائبا. إن إدماج الفرنسية في الشأن العام المغربي، وتغيبها في القانون، يبرز سكيزوفرينية متأصلة في بنية الدولة المغربية. فهي من جانب، تسرع من وتيرة تحديث وتقوية المؤسسات الاقتصادية والسياسية للدولة. وساندها في ذلك أمرين متصلين؛ أولهما، سياسات دولية وقارية منفتحة مع شركائها الاقتصاديين. وثانيهما؛ تبني شعار دولة المؤسسات الديمقراطية والحق والقانون؛ ومن جانب آخر، تحافظ الدولة على الأنساق الثقافية والدينية التقليدية باعتبارها أصل السلطة ودعامتها. هذا التبني لخطابين متناقضين أصبح اليوم أحد معوقات التنمية؛ على الأقل لإعطائه التبرير القانوني للمحافظين الاعتراض على أي مشروع إصلاحي يضم شركاء المغرب الاستراتيجيون سواء فرنسا، أو البنك الدولي، أو غيرهما. وقد رأينا الحملة "العشواء" التي تشنها بعض الشخصيات الدينية والسياسية على اللغة الفرنسية، وسط تعاطف كبير مع "العامة"، الذي لا يرى في رفضهم للغة الفرنسية تعارضا مع الدستور والقانون. في هذا السياق، قد يكون قرار تدريس العلوم بالفرنسية صادر عن وعي من بعض أطراف في الدولة؛ إيمانا منهم أن خطاب المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة لم يعد يواكب التطورات الإقليمية والدولية. وأن مسلسل الانخراط السريع في التحديث الفعلي لمؤسسات البلاد أصبح أمرا حتميا. أو قد يكون، كما يرى البعض، قرار اعتباطيا شأنه شأن باقي القرارات الأخرى، ودليلهم في ذلك الميثاق الوطني والمخطط الاستعجالي. 2. بنية الأحزاب والعقل الجمعي وتحديات الراهنة مهما يكن، فإن مثل هذه القوانين سواء صدرت عن رؤية إستراتيجية أولا، من الطبيعي أن تواجه معارضة عنيفة من شرائح مجتمعية واسعة؛ والتي بدورها ترتكز على عامل اللغة والدين والدستور والاستبسال في الدفاع عن مواقفها المحافظة. وسلاحها الجديد في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي والتقنية الرقمية. إن التقنية الرقمية أصبحت تنذر أو تبشر بعالم جديد تفقد فيه المؤسسات التقليدية سواء الإعلامية أو السياسية أو النقابية كل سلطاتها كل سلطاتها الخطابية. أي تفقد فيها السياسة الكلاسيكية كل سلطها ومعانيها؛ ذلك أنه وإلى غاية 2006، لم يكن للسياسي حرج في توظيف وسائل التواصل الكلاسيكية (ورشات، كتيبات، خطب، عروض أفلام أو محاضرات)، بل والتوسل بمفاهيم علم النفس السياسي، وعلم الاجتماع في عملية الاستقطاب. أما اليوم، فإن هذه الآليات تعرف تراجعا سريعا أمام سطوة عمالقة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعية. لقد أصبح توظيف تقنيات مثل "ذكاء السرب"( Chee Peng Lim 2009) في تحريك مجموعة معينة ضد أخرى، أو إبراز حدة مشكلة دون أخرى يجعل من الصعب التنبؤ بمن يقف وراء بعض السجالات الغير مجدية وبعض الظواهر الإعلامية التافهة. بالإضافة مشكل ضعف التقنية الذي تعاني منه الأحزاب، فهي مازلت لم تستكمل بناء تجربتها الديمقراطية الداخلية ولم تستطع تجديد خطابها السياسي ولا أدواتها التواصلية. وبالتالي فهي أحد الأسباب الرئيسية لعزوف الشباب عن السياسة. في ظل هذه الظروف، تعمد بعض الأطراف في الدولة إلى الاستئثار بجزء من القرار السياسي كآلية لضمان استمرارية الإصلاح والتنمية؛ ذلك أن "الزمن السياسي" (Pierre Lenain 1987) للدولة لا يمهلها الوقت لانتظار توافق مجتمعي واعي وشمولي يوافق إصلاحاتها واستراتيجياتها. بينما تبقى الأمية والفقر وسوء فهم الدين والخرافة سيمات شريحة عريضة من المجتمع هذه الشريحة ليست مؤهلة بعد للممارسة الديمقراطية. وهي وان طالبت بها تمنيا، منعت نفسها أو منعت وسائلها، وحاربت خلفياتها الفكرية ولم تعود نفسها على ممارستها في المنزل والعمل. والديمقراطية ثقافة قبل أن تكون ممارسة سياسية. ولقد تعلمنا من دروس الربيع العربي، أن الخروج واحتلال الشوارع والساحات ليس بالضرورة مؤشر على تطور الوعي سياسي أو تطور العقليات. وبالتالي تبقى هذه شريحة الحلقة الأضعف في الصراعات السياسية. فهي فريسة سهلة للخطابات الشعبوية الحزبية والنقابية. وفي انتظار خطاب عقلاني بخصوص قانون إصلاح التعليم، يبقى الجدل الراهن لا يتعدى كونه خطابا شعبويا يعرقل المسيرة التنموية ويعمق الهوة المعرفية بيننا وبين باقي العالم. II. المقاربة العالمية يعتبر المغرب جزء من منظومات عالمية وأخرى إقليمية؛ لذلك فالبعد المتوسطي والأوروبي والإفريقي حاضر في كل سياساته الخارجية والداخلية، وخصوصا سياساته التعليمية والتنمية المستدامة. إن العالم اليوم، يعرف تغيرات جذرية توشك أن تغير الخارطة السياسية للعالم؛ فالمعروف أن وصول ترامب إلى السلطة بأمريكا قلب التوازنات السياسية والعسكرية العالمية. عسكريا، إدارة ترامب تتخلى تدريجيا عن حلفائها في حلف الشمال الأطلسي، بينما تتقرب أكثر من أعدائها التقليديين خصوصا كوريا الشمالية وروسيا. أما أوروبا فتعرف تراجعا في مكانتها كقوة عالمية مؤثرة، هذا التقهقر راجع لعدة أسباب نذكر منها: • خروج بريطانيا وأزمة أوكرانيا وكتالونيا والأزمة الاقتصادية. • تبعات الربيع العربي، خصوصا النزوح الجماعي والهجرة غير القانونية والإرهاب. - • بالإضافة إلى أسباب هيكلية وبنيوية في الاتحاد نفسه. كل هذه الأسباب جعلت الأوروبيين غير قادرين على مواكبة المنافسة المعرفية، والاقتصادية والعسكرية المشتعلة بين الصين وأمريكا. إن لهذه التغيرات السريعة انعكاسات سلبية على المؤسسات الدولية التي أسست بعد 1945. والظاهر أن الأممالمتحدة والبنك الدولي وحلف شمال الأطلسي لم تعد حسب مراكز بحث أمريكية تؤدي الغرض من إنشائها. وبالتالي نجد أن الدول الكبرى تسارع لإيجاد تكتلات أمنية واقتصادية بديلة، ومنظمة شانغهاي للتعاون الاقتصادي والأمني التي أسست سنة 2001 تعد إحدى أقوى هذه التكتلات. أما بالنسبة للإطار القانوني في العلاقات الدولية، فتخبرنا Foreign Policy الصادرة 12 سبتمبر 2018 أن العالم يتجه نحو صياغة معاهدة جنيف جديدة، تأخذ بعين الاعتبار "نهاية الجغرافيا" (Richard O'Brien 1992 ) والتهديدات السيبرانية المتكررة على سيادة الدول. خصوصا التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، وتعرض الوكالة القطرية للأنباء للقرصنة أبان عن فراغ قانوني أصبح يهدد الأمن العالمي. والسؤال اليوم، ما موقع الأحزاب السياسية والمجتمع المدني في المملكة المغربية من كل هذه التحولات العالمية؟ هل ثمة وعي بها؟ وهل تحاول الأحزاب السياسة إدماجها في خطاباتها؟ إن خطابات من قبيل "إملاءات البنك الدولي" و"لغة المستعمر"، و"التعريب من أجل التنمية"، و"الاستقلال الاقتصادي" يظهر الغيبوبة الفكرية لهذه الأحزاب. إن هذه الخطابات أبانت عن تخلف الأحزاب السياسية والمجتمع المدني عن أسئلة الحاضر ورهانات المستقبل، فهي للأسف مازالت منشغلة بأسئلة الماضي. بالمقابل، يبدو أن بعض الأطراف الفاعلة في الدولة في الدولة تتابع عن كثب هذه التطورات وتحاول قدر الإمكان، جلب انتباه العالم إلى المغرب، باعتباره حليفا استراتيجيا منفتحا على كل الخيارات والتطورات. فالمغرب من جانب، لا يتنكر لحلفائه التقليديين (أوروبا وخاصة فرنسا) وتتجسد مظاهر ذلك مثلا في تنظيم الملتقيات الدولية على شاكلة مؤتمر المناخ ومؤتمر الهجرة؛ وذلك دليل على انخراطه واحترامه لمعاهداته الدولية. ومن جانب آخر، يحاول المغرب البحث عن بدائل سياسية واقتصادية، قد تكون سندا له في حالة تغير الخارطة العالمية. وخير مثال على ذلك، النمو السريع للعلاقات الصينية المغربية إلى جانب ذلك انفتاحه على إفريقيا. ومنه فقضية تدريس العلوم بالفرنسية تلزمنا أيضا الحديث عن التسارع المعرفي العالمي وتحديد موقعنا منه؛ والمعروف إن الذكاء الاصطناعي قد اقتحم كل المجالات المعرفية، وأصبح من المتعذر اليوم الاستغناء عن الخوارزميات والذكاء الصناعي وروبوتات في مجالات الخدمات، والصناعة والاقتصاد والبحث العلمي. والمعلوم أيضا أن تقادم التقنيات والمعلومات أصبح يحسب بالساعات. إلا أن هذا الصراع على الإنتاج المعرفي أصبح بشكل أساسي محصورا بين الصين وأمريكا؛ في حين تشير كل التقارير إلى تخلف أوروبا ب 15 سنة على أقل تقدير. وأما العالم العربي الإسلامي فلا وجود له بتاتا على الخارطة المعرفية العالمية. وفي مفارقة عجيبة نقرأ فيه لبعض الفقهاء والمثقفين المغاربة دفاعهم عن تخلف اللغة العربية عن العلوم، فيما تتعالى فيه أصوات المثقفين الفرنسيين من خطر تأخر الفرنسية وعلومها في مقابل الصينية والإنجليزية. وفي هذا الصدد نقرأ: "إن على فرنسا الاستثمار فورا في التقنية والذكاء الصناعي إذا هي أرادت أن تبقى داخل التاريخ" (Laurent Alexandre 2017) ... إذا كان هذا حال اللغة الفرنسية المصنفة 25 عالميا حسب البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA)، و5 من حيث المنشورات العلمية، و14 من حيث براءات الاختراع، فما هو حال اللغة العربية؟ إن التقنيات الحديثة مثل Blockchain ، Bitcoin ، Digital marketing ، Artificial intelligence Deep learning machine learning ومفاهيم ومصطلحات كثيرة في مجال الطب والهندسة والفيزياء والبيولوجيا والمعلوميات في تطور سريع ومستمر؛ وكبريات القواميس الغربية تضيف ما معدله 1000 كلمة ومفهوم كل سنة. فكم من الوقت قد تجده المملكة المغربية كافيا لنحت مصطلحات ومفاهيم توازي ما هو موجود في اللغات الحية؟ وكم يتطلب ذلك من الجهد والوقت لإنعاش القاموس العلمي العربي؟ وإذا أخذنا على سبيل المثال مساهمة اللغات العالمية في الموسوعة الشهيرة ويكيبيديا، فإننا نجد أن اللغة العربية صاحبت 232 مليون متحدث لا يرقى عدد مقالاتها إلى المليون حوالي 750000. بينما اللغة الهولندية التي لا يتعدى الناطقون بها 22 مليون، لديها أكثر من 1300000 مقال( بويكيبيديا). فأين يكمن الخلل؟ وقد تعمدت ذكر مشروع ويكيبيديا لعدة أسباب؛ • أولا: لكونه الموقع السادس أكثر شهرة في العالم. • ثانيا: لأن المساهمة فيه مفتوحة للجميع ولا تتطلب مجهودات علمية جبارة. • ثالثا: باعتباره أصبح مرجعا عالميا للطلاب بالصف الإعدادي والثانوي ومصدرا مهما للمعلومات الأساسية. فماذا بقي للمتشبثين باللغة العربية لغة للعلوم من أعذار؟ إن تطورات العالم الرقمي أثرت أيضاً في المدرسة والتعليم بصفة عامة؛ فقد غيرت التطورات المعرفية في مجال الحاسوب وتقنيات التواصل مفهوم المدرسة والتعلم. فلم تعد المدرسة، على سبيل المثال، المصدر الوحيد للمعلومة ولا حتى الفاعل الوحيد في العملية التعليمية؛ حيث إن ما يقدمه اليوم غوغل Google ويوتيوب YouTube من دروس مجانية في تقنيات المعلوميات، والاقتصاد المعلوماتي، وكل المجالات الأخرى، يضاهي أو يتفوق على مقررات كليات التجارة بجامعة بروكسيل الحرة. وشهادات Google وMicrosoft أصبحت تفتح أفاق للشغل أكثر من الدراسات الجامعية الطويلة المدى. إن هذه التكوينات المجانية يجب اعتبارها تكوينات مكملة للتكوينات الكلاسيكية. وهي أقدر على خلق فرص عمل جديدة للشباب، تكون بديلا عن الوظيفة العمومية. وعليه فإن أي خطاب سياسي يربط حصرا التنمية الاقتصادية بالمدرسة العمومية أصبح خطابا متجاوزا؛ ونظرتنا التقليدية للتعليم الخاص والتكوين المهني والتكوين المستمر والتكوين عن بعد يجب أن تتغير؛ فقد أصبحت تلعب هذه القطاعات دورا هاما في إعادة التأهيل وخلق فرص عمل. إن التطورات المعرفية تفرض علينا إصلاح منظومتنا التعليمية بما يوافق التحولات العالمية وليس بما يوافق خطابات الأحزاب السياسية. ذلك أن تسارع الزمن المعرفي لم يعد يسمح لنا بالسير على خطى الأحزاب المتثاقلة إيديولوجيا. فما هي الخيارات المتبقية ؟. III. إصلاح التعليم والخيارات اللغوية 1. من أجل إصلاح شمولي مما لا شك فيه أن إصلاح المنظومة التعليمية لا يتحقق دون إصلاح باقي مؤسسات الدولة. وبدون عقلنه الخطاب السياسي، ونضج المجتمع المدني، وتطوير آليات الديمقراطية داخل النقابات والأحزاب السياسية بالإضافة إلى الدولة والقطاع الخاص المزيد من الجهد في توفير البنية التحتية والموارد البشرية مؤهلة، التي تواكب الاستراتيجيات وتتماشى والتطورات المعرفية. وبعد استحضار المشهدين الوطني والدولي في كل أبعادهما السياسية والاقتصادية والعلمية، نستطيع أن نناقش فيما سيأتي وباختصار الاختيارات اللغوية وعلاقتها بتدريس العلوم في المملكة المغربية. 2. اللغة الإنجليزية إن اللغة الإنجليزية تعتبر اليوم لغة العلوم، تتفوق في هذا على اللغة الفرنسية بشهادة الفرنسيين أنفسهم. وهي بعد أكثر قبولا عند بعض المغاربة من الفرنسية باعتبار الأخيرة لغة مستعمر. ويبدو أن تدريس العلوم بالإنجليزية مستحيل في الوقت الراهن بالنسبة للملكة المغربية؛ وذلك لعدم توفر الأطر والمناهج التعليمية الكافية والمناسبة. ف توفيرها قد يأخذ من الدولة والمجتمع جهد العشرات من السنين؛ إلا أنها قد تصبح حلا إذا ما تم إدراجها استراتيجيا كهدف بعيد المدى في مشروع قانون الإصلاح والعمل منذ اليوم على تهيئ الظروف الثقافية والسوسيولغوية لتبنيها لغة لتدريس العلوم في المستقبل؛ مع مراعاة للعلاقات الدولية وتطوراتها؛ فإن "أمركة" جنوب المتوسط ليس بالأمر السهل، خصوصا وأنها كانت ولا تزال منطقة إستراتيجية لأوروبا. والحديث عن الضعف الأوروبي لم يصل لدرجة تخليها عن مجالها الحيوي. 3. اللغة العربية إن طلب تدريس العلوم ب اللغة العربية ليس أكثر من مزايدات سياسية، يهدف أصحابها إلى تحقيق مصالح حزبية ضيقة في تجاهل صريح لصالح العام. وإلا فكيف يدعي من يدعي أن مواصلة تدريس العلوم باللغة العربية مازال ممكنا؟ أين دراساته وأبحاثه؟ وأين خططه البيداغوجية؟ وأين مناهجه ومقرراته؟ بداية سنحاول مناقشة التدريس باللغة العربية بشكل رصين وعقلاني يضعنا في سياقنا التاريخي العلمي العالمي؛ وذلك في نقطتين أساسيتين؛ أولاهما إن إبقاء تدريس العلوم في المملكة المغربية باللغة العربية حلم جميل، لكنه يتطلب أمرين اثنين؛ إما إنتاج معرفة علمية باللغة العربية أو ترجمة ما يكتب باللغات الأخرى. وقد تعذر على المملكة المغربية الحلين معا، فماذا تصنع؟ أمام هذا الواقع الذي لم تقدم فيه الأطراف الداعمة للعربية دراسات علمية وواقعية تقوي بها موقفها الأيديولوجي. ذلك أنها تعي جيدا أن واقع اللغة العربية في علاقتها بالعلوم الطبيعية والإنسانية لا يسعفها. فمقرراتنا العلمية غير قادرة على تخريج طلاب في المستوى العصر؛ وهذا بدوره راجع إلى عدة أسباب نذكر منها: ● غياب مساهمة علمية العلوم الطبيعية والإنسانية. ● تراجع القاموس العلمي العربي وضعف المصطلح العلمي. ● ضعف أو موت حركة الترجمة في البلاد العربية. لقد كانت الترجمة إلى حدود التسعينات من القرن الماضي مصدرا أساسيا ينهل منه مطورو المناهج الدراسية في الوطن العربي. إلى أن تراجعت لأسباب جيوسياسية ومعرفية معروفة. مما جعل الكثير من الدول العربية والإسلامية تتجه إلى تدريس العلوم باللغات الأجنبية. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر مصر التي قررت مؤخرا تدريس العلوم والرياضيات بالإنجليزية. وكذلك التجربة الماليزية الناجحة التي اعتمدت الإنجليزية لغة لتدريس العلوم والرياضيات منذ 2003. أما بخصوص الترجمة العربية الشبه ميتة،-لم ترقى عملية الترجمة لمواكبة التطورات العلمية منذ بدايتها حتى عصرنا الحالي؛ فقد حاولت كل من الكويت عبر مجلة عالم المعرفة، وأبو ظبي من خلال مشروع كلمة مواصلة عمل المراكز الترجمة التقليدية ( بيروت وبغداد والقاهرة)، إلا أن وفْرت المال والاستقرار السياسي لم يكن كافيا لإحياء الترجمة بالشكل الكافي والمطلوب. ومن ثم فإن غياب مشروع عربي موحد جعل حركة الترجمة ضعيفة كما ونوعا؛ هذه الترجمة التي كانت منذ بدايتها انتقائية فالجهات المعنية بها لم تركز على ترجمة كل الكتب والأبحاث والتقارير المتخصصة في العلوم الطبيعية والإنسانية والمعلوماتية، متجهة إلى ترجمة الكتب الأكثر مبيعا في الغرب في مجالات دون أخرى نحو كتب السياسة والعلاقات الدولية والكتب الأدبية . ثانيا، إن حصر الهوية الإسلامية في اللغة العربية أمرا تجاوزه المجال البحر الأبيض المتوسط تاريخيا بل والعالم كله فقد عرته وسائل التكنولوجية المتطورة بشكل واضح. فالعرب اليوم لا يتجاوزون 350 مليون من بين مليار وثلاثمائة مسلم. فلا يمكن ننزع صفة الهوية الإسلامية لمجالات مثل إندونيسيا وماليزيا وباكستان وأفغانستان وإيران صفة الهوية الإسلامية! أم أن لغتهم غير كفيلة بحفظ الموروث الثقافي الإسلامي؟ أم أن هذا نوع المركزية اللغوية والهيمنة؟ Linguistic supremacy and hegemony كما نجد العقل الجمعي في المملكة المغربية - ونؤكد بعضه وليس كله- يحصر الهوية المغربية في اللغة العربية الفصحى والتي لا يتعدى استعمالها 25٪ على أكثر تقدير. مع العلم أن مجال استعمالها محصور في بعض المجالات دون أخرى مثل المدرسة، وخطبة الجمعة، وبعض الإدارات. بالمقابل، نتناسى أن 75٪ من المغاربة يتكلمون اللغة الدارجة المغربية واللغة الأمازيغية على تعدد لهجاتها. فهل هي ديمقراطية الأغلبية أم الأقلية؟ وعليه إن من حق كل المغاربة الافتخار بلغاتهم الوطنية، سواء العربية الفصحى أو الأمازيغية أو الدارجة، وذلك دون إغفال دور اللغات الأجنبية في الدفع بالمسيرة التنموية وتحديث مؤسسات الدولة. 4. اللغة الفرنسية هذه اللغة التي قد لا تبدو للبعض الحل الأمثل مقارنة باللغات الوطنية أو لغات أجنبية أكثر إنتاجا للمعرفة؛ إلا أنها تبقى الحل الأكثر براغماتية في الظروف الراهنة. والمعلوم أن اللغة الفرنسية تأخرت في مقابل اللغتين الصينية والإنجليزية، لكنها مع ذلك، تتفوق على كل الدول العربية والإسلامية مجتمعة في إنتاج المعرفة وتدريسها. ومازالت المدارس وجامعات الفرنسية محجا يستقطب الآلاف من طلاب العالم. ولذلك فاختيار تدريس العلوم بها، بناء على ما سبق، قد يتيح للملكة المغربية التقدم خطوة إلى الأمام، وقد يسمح بالاطلاع على آخر المستجدات المعرفية في مجالات تقنية المعلوماتية، والطب والهندسة، وعلوم الفيزياء، وعلوم الأحياء والعلوم الإنسانية. الخاتمة مجمل القول إن اختزال كل الأسئلة الراهنة في صراع الهوية والدين يتشبث بالتخلف التاريخي. وإن توظيف "العقل الجمعي" من أجل الاستقطاب السياسوي، دليل على ضعف بنيوي لبعض لأحزاب والنقابات والمجتمع المدني؛ هذه العراقيل البنيوية تمنعها من مواكبة التطورات الحاصلة وطنيا ودوليا. إن جدل اللغة في المغرب أصبح الشجرة التي لم تعد تخفي الغابة. ذلك أن للغات والمنظومات التعليمية علاقة عضوية بالدول والمجتمعات. ونجاحها أو فشلها يعكس لحالة كل منهما. فإذا كانت قوة اللغة والتعليم في الصين والولايات الأمريكية واليابان يعكسان قوتهم الاقتصادية والسياسية والعسكرية، فإن ضعف تعليمنا ولغتنا ما هم إلا مرآة تعكس ضعف كل منظوماتنا. إلا أنني أميل إلى الاعتقاد أن رؤية الدولة الإصلاحية للمدرسة أبانت على تقدمها بخطوات كبيرة على الأحزاب السياسية وعلى الشعب في فهمها لتحديات الراهنة وفي تخطيطها للمستقبل؛ ولكل تطور أو تقدم قوى مضادة. *باحث مغربي مقيم في بروكسيل