توقعات الأرصاد الجوية لطقس اليوم الإثنين    فيفا يعلن إجراءات جديدة لحماية صحة اللاعبين وتنظيم فترات الراحة    صاروخ يقتل أطفالا يجلبون الماء في غزة وإسرائيل تعزو السبب لعطل    طنجة.. مكبرات صوت وDJ في الهواء الطلق تثيران استياء المصلين وسكان كورنيش مالاباطا    "السيبة" في أصيلة.. فوضى في الشوارع وغياب للسلطات    تشلسي يصعق باريس سان جيرمان ويتوج بلقب مونديال الأندية الموسع بثلاثية تاريخية    الفنانة الهولندية من أصول ناظورية "نوميديا" تتوَّج بلقب Stars on Stage    من عاصمة سوس.. حزب "الحمامة" يطلق دينامية شبابية جديدة للتواصل مع الشباب وتقريبهم من العمل السياسي    "كان" السيدات .. تأهل نيجيريا والجزائر    رفاق حكيمي يسقطون بثلاثية أمام تشيلسي في نهائي كأس العالم للأندية    كرة القدم.. "فيفا" يكشف عن قرارات جديدة بخصوص صحة وفترات راحة اللاعبين واللاعبات    اليمين المتطرف في بلدة إسبانية يستغل حادثة للعنف لربط الهجرة بالجريمة    بناني والحاجي والمرنيسي يحسمون لقب "بطل المغرب" في الفروسية    وفاة رئيس نيجيريا السابق محمد بخاري    أطروحة دكتوراه تكشف محدودية تفاعل المواطنين مع الخدمات الرقمية بالمغرب: فقط 40% راضون    الوزيرة بنعلي تعلن الشروع رسميا في إنجاز مشروع أنبوب الغاز المغرب- نيجيريا        منظمة الصحة العالمية تحذر: تلوث الهواء يهدد أدمغة الأطفال ويعيق نموهم    نشرة إنذارية: موجة حر من الثلاثاء إلى الجمعة بعدد من مناطق المغرب    توقعات أحوال الطقس غدا الاثنين    عودة العيطة إلى مسرح محمد الخامس.. حجيب نجم النسخة الثالثة    لطيفة تطرح الدفعة الأولى من ألبوم "قلبي ارتاح".. أول ألبوم عربي بتقنية "Dolby Atmos"    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يتفاعل مع فاجعة 'خزان أولاد يوسف'    الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية مونتينيغرو بمناسبة احتفال بلاده بعيدها الوطني    تيزنيت: للسنة الثانية على التوالي..نسبة النجاح بالبكالوريا تُلامس 80%    إصابة أربعة أشخاص في سقوط أرجوحة بمرتيل    « البسطيلة بالدجاج» تحصد المركز الثالث في مسابقة «تحدي طهاة السفارات» بواشنطن    الكوكب يراهن على خبرة الطاوسي في رحلة التحدي الكبير    "فيفا" يُنصف حكيمي: أفضل مدافع في مونديال الأندية بأرقام دفاعية وهجومية مذهلة    متحدية الحصار الإسرائيلي.. سفينة "حنظلة" تنطلق من إيطاليا باتجاه غزة    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يأسف لتطورات اعتصام قصبة تادلة ويحذر من نشر مشاهد صادمة دون ضوابط    الشاعرة نبيلة بيادي تجمع بتطوان الأدباء بالقراء في برنامج "ضوء على القصيدة"    "نوستالجيا 2025": مسرح يحفر في الذاكرة... ويستشرف الغد    بملتقى فكري مفتوح حول «السؤال الثقافي: التحديات والرهانات»، بالمقر المركزي للحزب بالرباط .. الاتحاد الاشتراكي يفتح نقاشاً ثقافياً استعداداً لمؤتمره الثاني عشر    دلالات خفقان القلب بعد تناول المشروبات المثلجة        الاتحاد الأوروبي يؤجل "رسوم أمريكا"    "عدالة" تنبه إلى التدهور المقلق للوضع الحقوقي بالمغرب وتدعو لإصلاح يضمن الحقوق والحريات    انتهاك صارخ لقدسية الأقصى.. مستوطنون يقتحمون قبة الصخرة ويؤدون طقوسًا تلمودية في ذكرى خراب الهيكل    مراكش تنادي إفريقيا: إصلاح التقاعد لضمان كرامة الأجيال المقبلة    الرابطة المغربية للشباب والطلبة تختتم مخيم "الحق في الماء" بمركب ليكسوس بالعرائش    "بوحمرون" يسلب حياة طفل في مدينة ليفربول    يديعوت أحرونوت: موجة هجرة إسرائيلية غير رسمية نحو المغرب في خضم الحرب    أقدم مكتبة في دولة المجر تكافح "غزو الخنافس"    صحافي أمريكي: الملياردير جيفري إبستين صاحب فضيحة شبكة الدعارة بالقاصرات كان يعمل لصالح إسرائيل    صدور كتاب عن قبيلة "إبقوين" الريفية يفكك الأساطير المؤسسة لقضية "القرصنة" عند الريفيين    تقرير: المغرب ضمن 3 دول أطلقت سياسات جديدة لدعم الزراعة الشمسية خلال 2024    أسعار الذهب تتجاوز 3350 دولارا للأوقية في ظل التوترات التجارية العالمية    تقرير دولي يضع المغرب في مرتبة متأخرة من حيث جودة الحياة        بورصة البيضاء .. أداء أسبوعي إيجابي    نحو طب دقيق للتوحد .. اكتشاف أنماط جينية مختلفة يغيّر مسار العلاج    علماء ينجحون في تطوير دواء يؤخر ظهور السكري من النوع الأول لعدة سنوات    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"المستشفى".. رواية تبعث أحمد البوعناني حيّا
نشر في هسبريس يوم 11 - 04 - 2013

قديما ‬قال ‬أحد ‬الفنانين: ‬ليس ‬بإبداع ‬ذاك الذي ‬يصدر ‬بمعزل ‬عن ‬المعاناة، ‬المرض ‬ليس عامل ‬ضعف ‬دائما، ‬بل ‬عامل ‬قوة ‬لدى ‬المبدعين.. وهذه ‬قصة ‬رجل ‬عليل ‬يحول ‬على ‬سرير ‬أبيضا ‬ملونا ‬ببقع ‬الدم، ‬وسيرة ‬ألمه، ‬إلى ‬ملحمة ‬في ‬رواية" ‬المستشفى.."‬
في ‬ليلة ‬دافئة ‬من ‬صيف 2006، ‬وتحديدا ‬في ‬شهر ‬يوليوز، ‬شبت ‬النيران ‬في ‬منزل ‬بحي ‬حسان ‬بالرباط، ‬تبدو ‬هذه ‬المعلومة ‬إلى ‬حد ‬الآن ‬حدثا ‬غير ‬ملفت، ‬لكن ‬الأمر ‬لم ‬يكن ‬يتعلق ‬بدار ‬عادية ‬على ‬الإطلاق، ‬بل ‬هو ‬منزل ‬مثقف ‬ومخرج ‬وروائي ‬ورسام ‬وشاعر ‬مزعج، ‬لذلك ‬تناسلت ‬تفسيرات ‬مُتضاربة ‬للحادث، ‬بين ‬من ‬يرى ‬أن ‬الحريق ‬نشب ‬بفعل ‬فاعل ‬كان ‬يقصد ‬إقبار ‬إرث ‬مبدع، ‬وبين ‬من ‬يقول ‬بأنه ‬حادثة ‬عرضية، ‬لعلها ‬فقط ‬شغب ‬أطفال ‬أو ‬نزق ‬مراهقين.. ‬لكن ‬الكل ‬أجمع ‬على ‬أن ‬الخسارة ‬كانت ‬فادحة، ‬خصوصا ‬وأن ‬صاحب ‬البيت ‬كان ‬كثير ‬الكتابة ‬وقليل ‬النشر، ‬يكتب ‬ويُعيد ‬الكتابة، ‬ثم ‬يرمي ‬ما ‬كتب ‬في ‬الرف ‬دون ‬أن ‬يُعلم ‬به ‬أحد، ‬احترقت ‬العديد ‬من ‬الدفاتر ‬والمخطوطات، ‬وأحرق ‬معها ‬جزء ‬من ‬الذاكرة ‬الجماعية ‬للمغاربة.‬
‬بعد ‬أشهر ‬من ‬الحادث ‬ظهرت ‬نسخ ‬رواية ‬للراحل ‬حديثا ‬أحمد ‬البوعناني، ‬لم ‬يكُن ‬الوسط ‬الثقافي ‬قد ‬التفت ‬إليها ‬من ‬قبل، ‬لم ‬توجد ‬في ‬رفوف ‬المكتبة ‬الوطنية ‬بالرباط، ‬ولا ‬في ‬باقي ‬مكتباتنا، ‬ولا ‬في ‬المكتبة ‬المركزية ‬بباريس ‬التي ‬كتبت ‬بلغتها، ‬بل ‬كانت ‬خلف ‬الأطلسي، ‬في ‬مجموعة ‬من ‬مكتبات ‬الجامعات ‬الأمريكية، ‬بعيدة ‬عن ‬عبث ‬الأطفال ‬وأيادي ‬المتآمرين، ‬ما ‬جعل ‬إعادة ‬نشرها ‬أمرا ‬ممكنا.. ‬وقبل ‬أقل ‬من ‬أسبوعين ‬ستظهر ‬رواية ‬‮«‬المستشفى‮»‬ ‬في ‬طبعة ‬مغربية ‬جديدة، ‬ليبعث ‬البوعناني، ‬كممثل ‬لتجربة ‬جيل ‬ومرحلة، ‬ومعهما ‬تجربة ‬وطن.‬
الكتابة ‬أولا
إذا ‬كان ‬الوسط ‬الفني ‬يعرف ‬أهمية ‬تجربة ‬أحمد ‬البوعناني ‬السينمائية، ‬بصفته ‬مخرجا ‬لفيلم ‬‮«‬السراب‮»‬، ‬وكاتب ‬سيناريو ‬ومصورا ‬متبصرا ‬بزوايا ‬الالتقاط، ‬فإن ‬النقاد ‬والجمهور ‬بمعناه ‬الواسع ‬لا ‬يعرفون ‬أن ‬السينما ،‬على ‬الرغم ‬من ‬أنها ‬تمثل ‬شغف ‬الفقيد، ‬كانت ‬تحتل ‬المرتبة ‬الثانية ‬من ‬بين ‬أولوياته، ‬بعد ‬الكتابة ‬التي ‬كانت ‬شغفه ‬الأول، ‬ذلك ‬ما ‬تخبرنا ‬به ‬ابنته ‬تودة ‬التي ‬تقول ‬‮«‬لقد ‬كانت ‬الكتابة ‬هي ‬شغفه ‬الكبير، ‬كان ‬يكتب ‬ثم ‬يعيد ‬الكتابة ‬عشرات ‬المرات، ‬يتمثل ‬طريقة ‬هنا، ‬ويغيرها ‬في ‬الأسلوب ‬والصيغة ‬التي ‬تليها ‬عدة ‬مرات، ‬لكنهُ ‬كان ‬مُقِلاً ‬في ‬النشر، ‬نشر ‬فقط ‬ثلاثة ‬دواوين ‬شعرية، ‬ورواية ‬واحدة ‬وهي ‬المستشفى»‬.‬
تودة، ‬طفلة ‬البوعناني ‬التي ‬صارت ‬اليوم ‬أما، ‬والتي ‬تخلت ‬مؤقتا ‬عن ‬عملها ‬الفني، ‬وتفرغت ‬لرعاية ‬الإرث ‬الثقافي ‬المنسي ‬الذي ‬خلفه ‬والدها، ‬وهي ‬التي ‬ورثت ‬الكثير ‬من ‬ملامحه، ‬كان ‬في ‬طريقة ‬تعبيرها ‬وحكيها ‬كثير ‬من ‬الكمد، ‬لم ‬يكن ‬تحديدا ‬حزن ‬فتاة ‬فقدت ‬والدها ‬حديثا، ‬بل ‬شجن ‬مُعجبة ‬لم ‬ينصف ‬بطلها ‬في ‬حياته، ‬حملت ‬على ‬عاتقها ‬أن ‬تعرف ‬بتراثه ‬لعلها ‬تُنصفه ‬في ‬مماته.
‬الشابة ‬التي ‬اختارت ‬قصة ‬شعر ‬قصيرة ‬عكس ‬الراحل، ‬والعينين ‬الأرقتين ‬مثله، ‬تشرح ‬لنا ‬بكثير ‬من ‬التأثر، ‬تفاصيل ‬عن ‬الأب ‬الذي ‬صار ‬في ‬السماوات، ‬وجزءا ‬من ‬ذاكرته ‬التي ‬تستريح ‬على ‬الرفوف، ‬وبقية ‬أجزاء ‬الذاكرة ‬التي ‬دونت ‬بالقلم، ‬تقول: ‬‮«‬صحيح ‬أنه ‬ضاعت ‬نتيجة ‬حادث ‬حرق ‬البيت ‬الكثير ‬من ‬مخطوطاته، ‬ونحن ‬لا ‬نعرف ‬الرقم ‬تحديدا، ‬إذ ‬لم ‬يكن ‬والدي ‬أخبر ‬أحدا ‬عن ‬مجموع ‬ما ‬أنجز، ‬ولا ‬قام ‬بجرد ‬عناوين ‬كُتبه ‬في ‬دفتر ‬مُنفصل، ‬لكن ‬الجيد ‬هو ‬أنه ‬كان ‬يكتب ‬كثيرا، ‬وعن ‬كل ‬دفتر ‬وضع ‬أربع ‬أو ‬خمس ‬ديباجات ‬معدلة‬‮»‬، ‬قبل ‬أن ‬تخبرنا ‬أنها ‬تنوي ‬نشر ‬بقية ‬الدفاتر ‬تباعا، ‬خصوصا ‬بعد ‬اكتمال ‬نشر»المستشفى‮»‬، ‬في ‬فرنسا ‬والمغرب، ‬بالفرنسية ‬التي ‬كُتبت ‬بها، ‬والعربية ‬التي ‬تُرجمت ‬إليها ‬وستصدر ‬بعد ‬أسابيع.‬
السُلُ ‬ملهما
الزمان: ‬ليالي ‬ونهارات ‬سنة ‬1967، ‬المكان: ‬جناح ‬أمراض ‬الجهاز ‬التنفسي ‬بمستشفى ‬مولاي ‬يوسف ‬بالرباط؛ ‬شبه ‬حجر ‬طبي ‬على ‬النزلاء ‬المصابين ‬بأمراض ‬بعضها ‬مُعدية، ‬أناس ‬كسرهم ‬المرض، ‬معظمهم ‬من ‬أوساط ‬فقيرة، ‬قدموا ‬من ‬سلا ‬ونواحي ‬الرباط، ‬أغلبهم ‬الآن ‬رحلوا ‬عن ‬دنيانا، ‬لكن ‬قدرهم ‬كان ‬أن ‬يصاب ‬البوعناني ‬ساعتها ‬بالسُل، ‬ويخلدهم ‬في ‬رائعته ‬‮«‬المستشفى‮»‬.
‬كان ‬البوعناني، ‬الذي ‬وُلد ‬سنة ‬1938، قد ‬أصيب ‬بالمرض ‬ليحول ‬إلى ‬مستشفى ‬مولاي ‬يوسف ‬بالرباط، ‬اشتغل ‬البوعناني ‬على ‬رفاق ‬المرض ‬لا ‬كحالات ‬مرضية ‬تتطلب ‬العلاج، ‬بل ‬كنماذج ‬حقيقية ‬من ‬صلب ‬المجتمع ‬المغربي، ‬فنقل ‬تأملاتهم ‬عن ‬الحياة ‬والموت، ‬والحب ‬والكراهية، ‬الإيمان ‬والانفلات... ‬مع ‬حفظ ‬الألقاب ‬لكل ‬منهم، ‬بتسميات ‬تؤشر ‬على ‬أبناء ‬الهامش ‬‮ «أوكي- ‬الحزقة- ‬الليترو- ‬القرصان- ‬أرغان‮»‬، ‬وحفظت ‬تلك ‬الشخصيات ‬النماذج ‬في ‬ذاكرته، ‬إلى ‬أن ‬قرر ‬رسمها ‬بالكتابة ‬على ‬أوراقه ‬سنة .1978
‬بعدها ‬بسنتين ‬أعاد ‬كتابتها، ‬وتحدث ‬من ‬خلالها ‬عن ‬نفسه، ‬كيف ‬كان ‬ينظر ‬إلى ‬الجموع ‬المحيطة ‬به، ‬ودخل ‬في ‬لعبة ‬تحد ‬مع ‬فضاء ‬المستشفى، ‬المكان ‬الشاسع ‬البارد ‬والشبيه ‬بالسجن، ‬الذي ‬يعتبر ‬نموذجا ‬عن ‬الحياة، ‬لكنه ‬مكان ‬أقرب ‬إلى ‬الموت ‬منه ‬إلى ‬الحياة، ‬فيقفز ‬إلى ‬طفولته ‬وذكرياته، ‬أو ‬يقفز ‬عبر ‬أحد ‬جيرانه ‬في ‬الغرفة، ‬فيكتشف ‬عوالم ‬جديدة ‬وآفاق ‬أرحب.‬
البوعناني ‬والموت
في ‬علاقته ‬بالموت ‬مثلا، ‬نقرأ ‬في ‬متن ‬الرواية: ‬‮«‬الآن ‬صرت ‬أرافق ‬الموت ‬كل ‬يوم. ‬لهذا ‬لم ‬أعد ‬أخشاه ‬على ‬الإطلاق. ‬أراه ‬في ‬أعين ‬رفاقي، ‬مرتديا ‬هو ‬الآخر ‬‮«‬بيجامة‮»‬ ‬زرقاء ‬قذرة. ‬مدخنا ‬كما ‬الجميع ‬تبغا ‬رديئا، ‬ومرددا ‬أحاديث ‬فارغة ‬في ‬انتظار ‬الغروب. ‬لا ‬يختبئ ‬في ‬الأماكن ‬المعتمة، ‬خلف ‬المنحدرات، ‬أسفل ‬الأسرّة، ‬في ‬المراحيض ‬الرطبة ‬والنتنة. ‬يجالسنا ‬الموت ‬على ‬الطاولة ‬نفسها. ‬يضحك ‬حين ‬نضحك، ‬يشاركنا ‬الحماقات، ‬ثم ‬يقودنا ‬إلى ‬أسرتنا ‬كما ‬يُقتاد ‬الصبية ‬الذين ‬يرفضون ‬النوم ‬باكرا. ‬هل ‬ينتظر ‬عند ‬عتبة ‬الأجنحة ‬إلى ‬أن ‬تنطفئ ‬الأعين، ‬وتنعس ‬الأجساد ‬في ‬الظلمة؟‮»‬.‬
وعن ‬الرواية ‬وسياقها ‬بين ‬بقية ‬أعمال ‬البوعناني، ‬يخبرنا ‬عامر ‬الشرقي، ‬الناقد ‬السينمائي ‬والأستاذ ‬الجامعي: ‬‮«‬هي ‬تجلي ‬آخر ‬من ‬بين ‬التجليات ‬الفنية ‬للبوعناني، ‬هي ‬تعبير ‬يقرأ ‬به ‬الفقيد ‬عالمنا، ‬هي ‬لا ‬تختلف ‬عن ‬بقية ‬إبداعاته، ‬مقالاته ‬في ‬مجلة ‬أنفاس، ‬فيلمه ‬السراب..‬‮»‬، ‬فبالنسبة ‬إلى ‬الشرقي ‬البوعناني ‬ينحو ‬في ‬رواية ‬‮ «المستشفى‮»‬ ‬منحى ‬فيه ‬كثير ‬من ‬اللغة ‬الشعرية ‬والوعي ‬بالذات ‬وبالواقع ‬المغربي ‬المحيط، ‬هذه ‬الرواية ‬تقدمه ‬كمثقف ‬مناضل ‬وصاحب ‬رأي، ‬يحمل ‬هم ‬الإبداع ‬والمبدعين ‬والطموحات ‬الكبرى ‬للناس ‬والوطن، ‬رأي ‬الشرقي ‬تشاطره ‬ابنة ‬الراحل ‬تودة ‬حينما ‬تصف ‬النص ‬بالقوة ‬والعنف ‬والدرامية ‬والكثير ‬من ‬الحب.‬
أول ‬نشر ‬للكتاب ‬كان ‬سنة ‬1990، ‬ولكن ‬الكتاب ‬لم ‬يوزع ‬على ‬نطاق ‬واسع، ‬أو ‬سحبه ‬من ‬أزعجه ‬صوت ‬الراحل ‬وقلمه، ‬ولم ‬تظهر ‬الرواية ‬فعليا ‬إلا ‬قبل ‬أيام، ‬إذ ‬أعيد ‬نشرها ‬في ‬مراكش ‬وباريس ‬بالفرنسية، ‬عن ‬دار ‬الكتاب ‬ويُرتقب ‬أن ‬تكون ‬ترجمتها ‬إلى ‬العربية ‬جاهزة ‬في ‬المعرض ‬الدولي ‬للكتاب ‬المرتقب ‬نهاية ‬مارس، ‬عن ‬تجربة ‬إيجاد ‬الكتاب ‬ثم ‬نشره ‬يخبرنا ‬عمر ‬برادة، ‬الشاب ‬ناشر ‬الكتاب ‬بالمغرب: ‬‮«‬لما ‬عرفت ‬أن ‬هناك ‬كتابا ‬بتلك ‬التسمية ‬للمخرج ‬المعروف، ‬بدأت ‬في ‬البحث ‬عنه، ‬واستمر ‬بحثي ‬عدة ‬أشهر ‬دون ‬فائدة، ‬فقط ‬وجدتُ ‬نسخة ‬مستعملة ‬في ‬فرنسا، ‬وكُنت ‬بحثت ‬في ‬مختلف ‬مكتبات ‬المغرب، ‬ثم ‬في ‬جامعات ‬فرنسا ‬ومكتباتها، ‬ولم ‬أجد ‬نسخا، ‬إلا ‬في ‬الجامعات ‬الأمريكية.. ‬لما ‬قرأت ‬الكتاب ‬وجدتُ ‬أنه ‬مهم ‬وأن ‬إعادة ‬نشره ‬أمر ‬لازم، ‬وذلك ‬ما ‬قمنا ‬به ‬بمساعدة ‬السيدة ‬تودة ‬ابنته‮»‬.
‬ويرى ‬عمر ‬أن ‬أهمية ‬الكتاب ‬تتجلى ‬في ‬أنه ‬متميز ‬عن ‬الروايات ‬التي ‬كتبها ‬مؤلفون ‬مغاربة ‬بالفرنسية، ‬فهو ‬حتى ‬وإن ‬كان ‬مكتوبا ‬بالفرنسية، ‬فإن ‬القارئ ‬يجد ‬فيه ‬المغرب ‬والعربية ‬والعامية ‬هي ‬النفس ‬الحقيقي، ‬لأنه ‬مكتوب ‬من ‬داخل ‬مغرب ‬الستينيات، ‬ومؤرخ ‬لمرحلة ‬وجيل ‬بعد ‬الاستقلال.‬
قال ‬العقاد ‬يوما ‬‮«‬أكتب ‬لأن ‬حياة ‬واحدة ‬لا ‬تكفيني‮»‬، ‬وقصة ‬رواية ‬‮«‬المستشفى»‬ ‬للبوعناني، ‬تُمثل ‬دليلا ‬جديدا ‬لقدرة ‬الكتاب ‬والشعراء ‬على ‬الانبعاث ‬المتجدد، ‬كطائر ‬العنقاء ‬في ‬الأسطورة ‬الإغريقية، ‬الذي ‬يَصَعد ‬من ‬تحت ‬الرماد، ‬كلما ‬ظن ‬الناس ‬أن ‬النار ‬خبَتْ، ‬ليُزعج!‬‬
البوعناني ‬المتفرد
قال ‬محمد ‬الخضيري، ‬مترجم ‬رواية ‬‮«‬المستشفى‮»‬ ‬إلى ‬العربية، ‬إن ‬هذا ‬العمل ‬الأدبي ‬يشكل ‬أحد ‬أهم ‬الأعمال ‬الأدبية ‬المغربية.. ‬وأهم ‬ما ‬في ‬مشروع ‬إعادة ‬نشرها، ‬الذي ‬تحقق ‬بفضل ‬إصرار ‬زوجته ‬نعيمة ‬سعودي ‬التي ‬رحلت ‬قبل ‬أسابيع ‬قليلة ‬عن ‬عالمنا ‬وابنته ‬تودة، ‬وناشريه ‬بالمغرب ‬وفرنسا ‬عمر ‬برادة ‬ودافيد ‬روفيل، ‬هو ‬أن ‬بإمكان ‬القارئ ‬المغربي ‬أن ‬يستعيد ‬صوتا ‬أدبيا ‬غُيّب ‬لمواقفه ‬المبدئية ‬من ‬الحياة ‬الثقافية ‬بالمغرب.
‬يقول ‬الخضيري ‬إن ‬‮«‬المستشفى»‬ ‬حالة ‬خاصة ‬في ‬الأدب ‬المغربي ‬المعاصر، ‬تحكي ‬لنا ‬الحياة ‬الجوانية ‬لرجل ‬يدخل ‬مستشفى ‬وسيرته، ‬بقدر ‬ما ‬تحكي ‬قصة ‬مجتمع ‬يعيش ‬التحلّل ‬والقسوة. ‬لكن ‬في ‬عمق ‬‮«‬المستشفى‮»‬ ‬وفوضاه ‬يوجد ‬فرح ‬رجال ‬لا ‬يكثرتون ‬لمصيرهم ‬الغامض.. ‬أحمد ‬البوعناني ‬هو ‬واحد ‬من ‬الأصوات ‬الأدبية ‬والسينمائية ‬الأكثر ‬أصالة ‬في ‬السينما ‬المغربية. ‬
أعماله ‬السينمائية ‬والإبداعية ‬تشهد ‬على ‬تصور ‬معاصر ‬للأدب، ‬ينخرط ‬في ‬سؤال ‬كان ‬محوريا ‬في ‬سنوات ‬الستينات ‬وهو ‬كيف ‬نخلق ‬أدبا ‬مغربيا ‬معاصرا ‬وتحرريا؟ ‬هذا ‬السؤال ‬رافق ‬البوعناني ‬طيلة ‬حياته، ‬لأن ‬في ‬رواية ‬‮«‬المستشفى‮»‬، ‬وأعماله ‬الشعرية ‬و ‬السينمائية، ‬استحضار ‬قوي ‬للثقافة ‬الشعبية ‬المغربية، ‬إلى ‬جانب ‬مرجعيات ‬أدبية ‬عالمية. ‬
هكذا ‬نجد ‬نفسنا ‬أمام ‬مزج ‬أصيل ‬نادرا ‬ما ‬يتحقق، ‬بين ‬كتابة ‬سلسة ‬تنتمي ‬إلى ‬الثقافة ‬المعاصرة ‬ومرجعيات ‬شعبية ‬تشرَح ‬الواقع ‬المغربي ‬كما ‬هو. ‬صحيح ‬أن ‬بوعناني ‬كتب ‬بفرنسية ‬ذات ‬دفق ‬شعري ‬متميز، ‬لكن ‬فرنسيته ‬انطلقت ‬دائما ‬من ‬العربية ‬المغربية، ‬وكتبت ‬للمغاربة ‬أساسا.‬
* من العدد ال3 لمجلّة هسبريس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.