المجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج يجدد التأكيد على مغربية الصحراء ويرحب بقرار مجلس الأمن 2797        بورصة البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    المغرب يدعو إسبانيا إلى إنجاز مشاريع مشتركة في غرب إفريقيا            توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة        مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    تعزيز التعاون المائي محور مباحثات مغربية–صينية في المؤتمر العالمي التاسع عشر للمياه بمراكش    تقرير يكشف ضغط ترامب على نتنياهو بشأن غزة وسوريا    أستراليا تحظر المراهقين دون 16 سنة من استخدام شبكات التواصل الاجتماعي    كورتوا: محظوظ لأن مبابي يلعب معي وليس ضدي    "فيفا" يعلن عن منع الزمالك من التعاقدات لثلاث فترات    قرار قضائي يهزّ جامعة الكراطي... والصباري يعيد الاعتبار لجهات الجنوب    قضية بشرى كربوبي تتفجر.. الحكمة الدولية تقاضي مسؤولا بعصبة سوس ماسة بالتشهير    قافلة نحتافلوا كاملين تحط الرحال ببرشيد    البنك الإفريقي للتنمية يمنح ضمانة 450 مليون أورو لدعم "الاستثمار الأخضر" ل"أو سي بي"    ‬ بميزانية ‬100 ‬مليون ‬درهم ‬قيوح ‬يطلق ‬برنامجاً ‬لوجستياً ‬واعداً..‬    الغلوسي يفضح "مافيات المال العام" بمراكش ويحذّر من محاولات تبييض الجرائم المرتكبة في حق المدينة    ماكرون قلق بعد سجن صحافي بالجزائر    "حبيبتي الدولة".. من تكون؟!: في زمن التشظي وغياب اليقين    الشيخي القيادي ب"العدالة والتنمية" يوجّه رسالة شديدة اللهجة لوهبي ويتهمه ب"الإساءة للبرلمان وانحدار الخطاب السياسي"    المديرية الإقليمية للعدل بالحسيمة تنظم حفلا لتوشيح موظفين بأوسمة ملكية شريفة    الجامعة الحرة للتعليم تطالب برادة بتسوية مستحقات مفتشي الشؤون المالية وتزويدهم بالحواسب المحمولة    إصابتان في معسكر "المنتخب الوطني" بقطر..    التشريع على المقاس... حينما تتحول الأغلبية الحكومية إلى أداة طيعة في يد اللوبيات    مشاهير عالميون يطالبون إسرائيل بإطلاق سراح القيادي الفلسطيني البارز مروان البرغوثي    وقفة احتجاجية في المحمدية للتنديد بانتهاك إسرائيل لاتفاق وقف النار بغزة    "قمة دول الخليج" تشيد بجهود الملك    رصاصة تحذيرية توقف أربعيني أحدث فوضى قرب مؤسسة تعليمية باليوسفية        خط مباشر بين البيضاء ولوس أنجلوس    الصين: مدينة ايوو تسجل رقما قياسيا في حجم التجارة يتجاوز 99 مليار دولار    من مدريد.. أخنوش يطرح رؤية طموحة للربط بين إفريقيا وأوروبا عبر بوابة المغرب وإسبانيا    دراسة: الرياضة تخفف أعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه    من الكروج إلى داحا.. أربعة عمال تعاقبوا ومحطة الطرقية الجديدة ما تزال مغلقة    طنجة تكبر في الصور... وتتراجع في الواقع: عمدة يطارد الأضواء ومدينة تبحث عمّن يدبّرها    الشرفي يلقي خطاب عضوية "أكاديمية المملكة" ويرصد "غزو علمنة المجتمع"    فرنسا تطالب الجزائر بالإفراج عن صحافي    العراق يفتتح مشواره في كأس العرب بفوز مهم على البحرين    تعزيز التعاون السياحي محور مباحثات بين عمّور والسفيرة الصينية بالمغرب    كأس العالم 2026… أبرز تفاصيل نظام القرعة    المدينة الحمراء : من جامع الفنا إلى قصر المؤتمرات .. ألف عام من الفرجة!    شكري في ذكرىَ رحيله.. وعزلة بُول بَاولز في طنجة وآخرين    "تبّان كقناع".. ظهور غريب لعمر لطفي في مراكش يثير جدلا واسعا    التعب أثناء السياقة يضاهي تأثير تناول الكحول        يسرا : فخري الأكبر هو الرصيد الفني الذي ستتناقله الأجيال القادمة    مهرجان مراكش يكرم راوية ويمنحها "النجمة الذهبية" اعترافا بمسار حافل    نصائح صحية: هذه الأغذية تهددك ب"النقرس"!    "الصحة العالمية" توصي بأدوية "جي إل بي-1" لمكافحة السمنة    التهراوي : انخفاض حالات الإصابة الجديدة بالسيدا خلال السنوات العشر الأخيرة    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    الأوقاف تكشف عن آجال التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل المدينة للبيع؟
نشر في هسبريس يوم 20 - 04 - 2021

يتداول في السنوات الأخيرة وعلى نطاق واسع مفهوم "التسويق الحضري" في سياق عالمي خاص ولجت فيه، الحواضر الكبرى وحتى الصغرى دائرة التنافس لاستقطاب رأس المال. وسعيا لخلق فرص العمل انخرطت الدول والجماعات الترابية في هذا التيار بغية إخراج التجمعات البشرية من الأزمة التي ضربت الاقتصاد المحلي والوطني المتجلي في إغلاق المصانع وانتشار البطالة وسيادة الجريمة وتدهور البيئة كنتيجة حتمية لعدم قدرة، الحواضر بالغرب وبجل دول الجنوب، على مسايرة المنافسة القادمة بقوم من آسيا ومن الصين على وجه التحديد.
وبعد سنوات من التراجع على مستوى مؤشر جودة الحياة، اهتدت التكتلات العمرانية الأمريكية، عند مطلع السبعينات، وفي مقدمتها نيويورك، دلاس، مشيغان... لتأسيس لسياسة تسويق لترابها برفع شعارات رنانة اختيرت بعد دراسات مستفيضة واختزلتها عبارات مثل : أحب نيويوك "I♥NY ". وتبعتها مدن أخرى بأوربا برلين"Be Berlin" ، لندن"Lond-on"، ليون "OnlyLyon" ، واللائحة طويلة، ليصل هذا المد لدول الجنوب تدعمه اختيارات الليبرالية الجديدة التي تبحث عن تفادي موت مصالحها بالمدينة عبر التمسك بآليات تدبير حديثة كانت لوقت قريب تستعمل بالمصنع فقط.
سيتم في خضم الصراع بين الحواضر العالمية استعارة آليات تدبير الشأن المحلي من ثقافة سلاسل الإنتاج ومن الطرق المعاصرة لتصريف السلع انطلاقا لما آل إليه التنظيم الإداري العلمي الذي أتى به كل من فردريك تايلور (1911) أو البعد الإنساني الذي ساهم به كل من إلتون مايو (1933) ودوغلاس ماك غريغور(1960). فالتسويق جاء لتجاوز أزمة تصريف المنتجات التي ترتبت عن التايلورية خلال 1930 بحسب الباحث أوين Stwart Ewen .
وسيحقق هذا المجال قفزات مع اجتهادات باحثين آخرين من أمثال جيروم ماكرتي Jerome Mac Carthy بتقديمه للنموذج المعروف باختصار ب 4P (1960)، ميكايل بورترMichael Porter الذي تناول بالدرس والتحليل تنافسية الدول (1993) أو دراسات فليب كوتلرPhilipe Kotler حول التدبير و تسويق الصورة الترابية (1999).
فهل التسويق الحضري هو الحل لتحقيق نمو المدينة؟ أم أنه فقط آلية جديدة لتسويق مفاتن المدينة ومحاسنها في محاولة للبحث عن استقطاب السياح؟ فما هي المنتجات أو الخدمات المسوقة يا ترى في مثل هذه الحالة؟ ما هو دور الفاعل المحلي في إنجاز التصورات على أرض الواقع؟ هل يتعلق الأمر ببيع المدينة في زمن العولمة بالاستثمار الكلي في القطاع السياحي؟ أم أن الهدف من سياسة تجميل المدينة أولا وأخيرا هو الاستفادة من تسييس الجمال بالرهان على تشجيع الاستهلاك وتحقيق مراكز مهمة على مستوى الرقعة السياسية؟
التسويق الحضري وإشكالية استعارة المفهوم
إذا كان التسويق كمفهوم وكممارسة يعتبر وإلى وقت قريب مجالا حكرا على الشركات ورافعة أساسية لتحقيق الأرباح لهم وليس لغيرهم، فإن هذا المفهوم سرعان ما انتقل خلال السنوات الأخيرة ليهم تسويق الحواضر Marketing urbain وليشمل كذلك الجماعات الترابية marketing territorial وانتقل حتى للأفراد أو ما بات يعرف بتلميع الصورة الشخصية أي الاشتغال على الذات كعلامة تجارية Personal Branding. ويحدد برنار كريف Bernard Krief الهدف الأساسي من عمليات التسويق عامة هو " الغزو العلمي للأسواق" من خلال القيام بتحليل وفهم توجهات الزبناء وتقديم خدمة بقيمة عالية لهم وفق استراتيجيات وخطط مناسبة مدعمة بحملات مصممة بعناية. ويعرف مارك بنوم Marc Benoum، في سياق التركيز على الزبناء، التسويق "بمجموعة من العمليات المعتمدة التي تكشف عن الرغبات الظاهرة والباطنية للزبناء المحتملين بغرض إعداد وتفعيل سياسة تستجيب لرغباتهم الكاملة أو الجزئية". بعبارة أخرى فالتسويق كما هو متداول هو "فن البيع" الذي يستعمل آليات علمية للجمع بين الطلب والعرض، بغض النظر عن اختلاف المدارس وقناعاتها، بين التي تشتغل على المشترين المتأثرة بالمدرسة السلوكية أو التي تعطي الأولوية للمنتوج أوالخدمة ودعامتها المدرسة الإدارية.
فالمدينة ستستعير هذا المفهوم من الشركات والمؤسسات الخاصة وستعمل على إنجاز تصورات على نمط الشركات وخطاطة عمل لتبرز مقوماتها كوجهة ترابية جذابة تمكنها من استقطاب المستثمرين والزوار بحسب الأسواق المستهدفة المحلية، الوطنية أو الدولية. فهل تطبيق هذه الآليات التسويقية ممكن بالنسبة للمجال الحضري؟ وإلى أي حد يمكن أن يكون هذه الاقتباس المنهجي دليلا على تحول المدينة كمجال وكمجتمع لمدينة مقاولة قائمة على مبدئي الربح والخسارة؟ الإجابة ليست بالعملية السهلة، تحتاج فعلا لتقييم السياسات المتبعة في هذا الشأن وعلى نطاق أوسع، فالباحثOle B. Jensen لم يخف توجسه من إسقاط تسويق المنتجات والخدمات على التسويق الترابي لعدة اعتبارات نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: اختزال مفهوم الهوية البصرية للمدينة في أيقونات ورموز دون سواها بحيث يصعب تحقيق إجماع بين الفاعلين المحليين على تصور واحد لتمثيل هوية المدينة.
إلا أن مفهوم تسويق المكان له جذور تعود لنهاية القرن التاسع عشر بأمريكا كما أشار لذلك الباحث ستيفان وورد Stephen Ward في مؤلفه "بيع الأمكنة"، وهي إشارة لعرض المناطق الواقعة غرب الولايات المتحدة الأمريكية على الراغبين في توطينها وقتئذ. وفي أواسط القرن العشرين ستظهر بعض المحاولات لعرض مناطق سياحية بحرية بالبحر المتوسط للترويج بهدف استقطاب السياح من دول أقصى الشمال. وسيتطور التسويق الحضري بالخصوص موازاة مع نمو المجتمع الاستهلاكي وبعد الزلزال الذي عرفته المدن الصناعية بعد أزمة السبعينات وما تلاها من ركود حوَل هذه المدن لأشباح. يمكن اعتبار الانطلاقة الحقيقية للتسويق الحضري مع بداية الثمانينات من القرن الماضي ارتباطا بالدراسات القيمة التي أنجها باحثون أصحاب النزعة الماركسية ومن بينهم دافيد هرفي David Harvey معتبرين التسويق الحضري كمخرج output للتحولات التي باتت تعرفها الرأسمالية بعد توالي الأزمات بالغرب، وكنتيجة لإعادة توزيع الأدوار بين مستويات تدبير الشأن المحلي بالمدن. ويقول دافيد هرفي بصريح العبارة "أن بيع المدينة كمكان للأنشطة مرتبط أشد الارتباط بإنشاء صورة مدينة مستقطبة". تقتضي مرحلة ما بعد الفورديزم حاليا post-fordisme تغيير وظيفة المدينة من مكان للإنتاج بكميات ضخمة لمكان للاستهلاك بكثرة، ولو اقتضى الأمر بيعها كحلم من أجل إقناع سريع للمستثمر والتأثير القوي على السائح.
وهكذا انخرطت الحواضر العالمية الكبرى على وجه الخصوص في الإعداد لاستراتيجيات تسويقية استعدادا للدخول بالمدينة لسوق العرض والطلب. وصار الحديث مع بداية التسعينات من القرن الماضي عن العلامة البصرية للمدينة urbain branding بحيث أصبح الاهتمام بعرض خصوصيات الهوية المحلية دون مراعاة الطلب، أي الانطلاق كما يقول الباحث مارك غرينبرغ M. Greenberg من "الداخل للخارج وليس العكس لعرض مزايا كالهندسة المعمارية وسحر الأزقة...". وقامت عدة مدن ببناء صورة جديدة لها اعتمادا على هذه المقاربة وبنهج إستراتيجية التمييز différentiation و التموقع positionnement لإبراز الخصوصية عبر دعامة تثمين تراثها المادي واللامادي. ويعتبر فاري جيرار Valery Jirard (2003) بأن الكشف عن مقومات الترابterritoire بالإعتماد على المعطيات العضوية للتراب بالجوانب التاريخية والتنظيمية، الاقتصادية، الجغرافية و الرمزية من شأنها أن تساعد على تحديد هوية المنطقة ووضع الإستراتيجية المناسبة لتسويقها. فمن يقوم بإنجاز هذا المشروع الأقرب منه لعالم الشركات منه للمدن؟
بناء الوجهة السياحية ودور الفاعل المحلي
الدافع الأساسي لتسويق المدينة هو جلب السياح لقضاء أكبر فترة ممكنة بها واستهلاك خدماتها ومنتجاتها المحلية واستقطاب المستثمرين لضخ الموارد المالية بإنجاز مشاريع خدماتية تخلق فرصا للشغل. وتسويق المدينة كوجهة للاستثمار أو للسياحة بالقيام بالتأسيس لعلامة بصرية يحتاج لتضافر الجهود من أجل بناء تصور ينخرط فيه الفاعل العام والخاص، السياسي، الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. يمهد الباحث الاجتماعي رايمون بودون Ramond Boudon للفعل بالتمييز بين ثلاثة مراحل عند دراسة نظرية الفعل، فيقول: " أولا وجب تحديد الفاعلين أو مجموعة الفاعلين بحسب موضوع البحث (...)، ثانيا وجب معرفة سلوك الفاعلين (...)، ثالثا يتعلق الأمر بتفسير كيف يمكن للسلوك الصادر عن الفاعلين أن يؤسس للظاهرة موضوع الدراسة." ومن الدارسين من يضيف ضرورة تحديد الإطار العام للفعل. وعلى ضوء هذه العناصر يمكن اعتبار بأن الفاعل المشارك في بناء الخطة الإستراتيجية للترويج للمدينة له مكانته ليس فقط كفرد منعزل كما ذهبت لذلك بعض المدارس السوسيولوجية ذي النزعة الفردية في إشارة لبودون، بل في تفاعل مع باقي المتدخلين كما قعد لذلك الباحث في الاقتصاد هبير سيمون Hebert A Simon. وتطورت هذه النظرية مع مفكرين آخرين وعلى رأسهم مشيل كروزي Michel Crozier وإرهارد فريبرغ Erhard Friedberg.
ونجد بالتالي أنواع من الفاعلين ومن بينهم : الفاعل الاقتصادي الباحث عن الربح بكل الوسائل الممكنة، الفاعل الاستراتيجي الذي يأخذ بعين الاعتبار التدخل بعقلانية، مع العلم أن هذه العقلانية ليست خالصة بل محدودة في تقدير عالم الاقتصاد سيمون، أما الفاعل الملتزم فيشارك انطلاقا من قناعات وقيم تحركه فينخرط في المشروع بحماسة. وبشكل عام فالفاعل يتدخل في مسلسل بناء الصورة الذهنية للمدينة انطلاقا من تمثلاته في علاقة مع بيئته، كما أكد ذلك الباحث الأمريكي كنيت بولدينغ Kenneth Ewart Boulding. وكيفما كانت تمثيلية الفاعل (فرد أو مجموعة)، فهو يشارك بدرجات متفاوتة وفق تعاونه مع باقي الفاعلين بحسب الموارد المستعملة وبحسب ما تمليه المساطر والضوابط التي تخضع لها عملية التسويق الترابي. وبالنظر للمواقف ولتشعب المصالح فإعداد خطة تسويق المدينة وإخراجها للوجود ليس بالتمرين البسيط أو بوصفة سحرية جاهزة، بل غالبا ما يحصل اختلاف حولها وتطفو على السطح صراعات بين الفاعلين تمليها المصالح الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية.
في أغلب التجارب بمدن العالم التي عاشت تجربة إعداد إستراتيجية تسويقية لترابها فالجماعة الترابية وعلى رأسها عمدة المدينة هو الذي يقوم بالتنسيق مع باقي الفاعلين بالاستعانة بمكاتب الدراسات وبخبراء في هذا الحقل، اعتمادا على دفتر التحملات معد لهذا الغرض. وعمليا تشرع المدينة في البحث عن الموارد المالية لإنجاز خطتها في إطار رزمة من المشاريع تستهل غالبا ببرنامج لإعادة تأهيل النسيج الحضري الذي يأخذ بعين الاعتبار استكمال بناء المرافق الضرورية كتوسيع الشوارع وتزيينها. تليها مبادرات تختلف من حاضرة لأخرى مثل إحصاء الرصيد المادي واللامادي وتثمينه، ووضع لوحات تشوير لأهم الساحات والمآثر التاريخية، إنجاز المدارات السياحية، تنظيم مهرجانات منسجمة مع مؤهلات المدينة، وما إلى ذلك من برامج مترابطة ومتداخلة تتطلب المال والخبرات. وتستدعي هذه المشاريع شراكة مع المجتمع المدني بروافده الفنية، الثقافية، والسوسيو-اقتصادية، والرياضية. وإنزالها على أرض الواقع لا يتم بشكل فعال، في زمن العولمة والرقمنة، إلا بمواكبة إعلامية عن طريق قنوات سمعية وبصرية وتواجد وازن على شبكات التواصل الاجتماعي مع التحيين المستمر للبوابة الإلكترونية للمدينة، دون إغفال دور الدرامة والمشاهير في تسويق المدن على نطاق أوسع.
تجميل سياسة المدينة أم تسييس الجمال؟
إن تسويق صورة المدينة ووضع علامة خاصة بها وجب أخذه مأخذ جد ليس فقط على المستوى الاقتصادي بل على المستوى السياسي. فالعملية التجميلية لا تقوي فرص المدينة كوجهة جذابة فقط بل من جهة أخرى تضعف بعض الأحزاب التقليدية كما أكدت على ذلك الباحثة إليونورة بازوتي Eleonora Pasotti بحيث تقول في مؤلفها "سياسة العلامة التجارية بالمدن" Political Branding In Cities الصادر عام 2010 ما يلي: " العلامة التجارية مهمة لأنها تخلق علاقة بين عقل الناخب ( أو المستهلك) بالنسبة للمنتوج (أو لرجل السياسة) فتؤثر على الذاكرة وعلى التقييم." وهذا من شأنه أن يؤجج الصراع السياسي حول ظاهرة العلامة التجارية مما يرسخ المشروعية لجهة معينة أو لتحالف عوض آخر كما ذهب لذلك الجغرافي الفرنسي مشيل لوسو Michel Lussaultفي تجربته عند دراسة صورة مدينة تور الفرنسية. يصبح المخيال عند قاعدة الناخبين مرتبط بالمدينة كعلامة بصرية، وكحلم، وكحدث أبرز يمثل مدينتهم ويضعها بين صفوة المدن. كما جاءت هذه الاستنتاجات متطابقة مع نتائج البحث الذي أنجزته ميريام جرينبرغ Miriam Greenberg حول علامة نيويورك والصادر سنة 2008 نقلا عن الباحث ماكس روسو Max Rousseau (2011).
إن قولة بنيامين المشهورة "تسييس الفن وتجميل السياسة" تجد صداها في هذا المضمار ولها راهينتها بحيث فرض على المدينة في زمن الليبرالية الجديدة نوع من "العنف الرمزي" مما اضطرها للتحول من مدينة منتجة لمدينة عليها أن تتزين كل يوم لبيع مفاتنها للزوار وعليها أن تؤثر في نفوسهم ليعودوا إليها. يقود السياسي هذه العمليات التجميلية باسم الفن حاضرا ومساهما إلى حد ما في تنظيم المهرجانات الفنية الحاشدة للجماهير أو للزوار، فتكتسي السياسة بذلك حلة استعراضية لتأخذ مكانها المتقدم على خشبة الفرجة. ربحت المدينة مع التسويق الانتشار الواسع في أوساط الكتل وهي تجلب السياح من كل بقاع العالم، لكنها فقدت آلياتها الإنتاجية وهالتها كمدينة لمن يسكنها. المنطق الذي يسود مع الترويج للمدينة كعلامة بصرية هو طرحها في السوق للاستهلاك من طرف الجمهور الواسع.
حقيقة تسويق المدينة أو استنساخها في شكل علامة تجارية فرض نفسه لأن منظومة القيم الجمالية المشبعة بالمثالية والرومانسية تراجعت بحسب الباحث في فلسفة الجماليات عبد العالي معزوز، لتحل محلها القيم الاستعراضية. في الوقت الراهن لم تعد الوحدات الإنتاجية قادرة على مسايرة المنافسة القوية القادمة من آسيا، وبالتالي أزيح عن المدينة كل محاولة للتعالي والسمو، ولم يبق أمامها غير الانخراط في العولمة في إطار التشيء الشامل.
بيع المدينة كسلعة بموروثها المادي واللامادي سيترتب عنه تدمير جزء كبير من مكوناتها المعمارية تحت ثقل طلبات المستثمرين الباحثين عن فرص لتشييد دور الضيافة ومطاعم ومعارض على حساب بنايات تاريخية ومنازل عتيقة لها من الجمال ما يأسر القلوب. هذا البعد الجمالي الخاص أصبح بدون غاية أمام توسع ظاهرة الاستطباق التي باتت تعرف في الكتابات الانجلوسكسونية ب gentrification بحيث تحل الطبقة التي لها إمكانيات محل أسر ذوي الدخل المحدود نتيجة لارتفاع قيمة الوحدات السكنية الموجودة بالمدن العتيقة. ينتهي المطاف بهذه الأسر للهجرة أو الانتقال للضواحي في حين تنساق المدينة مع الفرجة والاستهلاك فتنفصل شيئا فشيئا عن البنية المكانية والثقافية المحلية.
خلاصة القول:
تسويق المدينة كعلامة تجارية أثبت فعاليته على مستوى تدبير بعض المدن العالمية التي لم تجد من حل غير الاستثمار فيما هو ترفيهي وتثمين الموروث الثقافي لتقديمه للزوار على شكل حلم. التسويق كآلية مستعارة من الشركات أثبتت نجاعتها في تجارب كثيرة بدول الشمال والجنوب فنقلتها من مدن بأنشطة لها قيمة استعمالية لقيمة استعراضية عن طريق الفنتازيا والإشهار ليتراجع الخشوع وتحل محله الفرجة كما تناولها بالتحليل غي ديبور Guy Debord تحت عنوان مجتمعات الفرجة (1967). الهوية البصرية هي عملية بناء اجتماعي يقوم بها الفاعل المحلي وتعكس خروج المدينة من نطاق التخطيط ودخولها لمنطق الحكامة عن طريق تدبيرها كمشروع مقاولاتي entrepreneuriale ببناء مدينة فوق أخرى. ويلعب عمدة المدينة دورا قياديا لنقل الحاضرة لمكانة بين حواضر العالم المستقطبة للسياح والمستثمرين. وتتأرجح ردة فعل الساكنة بين منخرط في هذا التحول وبين متوجس من غلاء المدينة ومن انهيار منظومة القيم التي عايشوها بالأمس، مما يجعل العلامة البصرية كرمز تصبح مادة دسمة للنقاش بطابع سياسي ويتم التصويت عليها ولو افتراضيا في انتظار التصويت الانتخابي عبر صناديق الاقتراع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.