الرُومانسية كلمة غرْبية دخيلة على اللغة العرَبية. لها مَعنَيان مُباشِران، أولهُما أنها تيارٌ فِكري وفني، وثانيهِما أنها صِفةُ الاعتمادِ المُفرطِ على العواطف وتغييبِ العقل. بشكلٍ عامٍ، إذا كان المرءُ لا يجد حَرَجاً في الإعراب عن مَشاعر حُبهِ سُمِيَ بلغةِ العصر رُومانسياً، وهي صفة مَحمودة عند الناس. بينما إذا كان حالِماً طائِشاً في أمور الحياة الحاسمة، سُمِي كذلك رُومانسياً، ولكنها صفة منبوذة لدى العُقلاء. يُوجَد في اللغة العربية أربع وستون كلمة للدلالة على الحُب، ويَجدها مُحِبُ المعرفة في كِتاب "طوق الحمامة" لصاحبهِ ابن حزم الأندلسي. إلا أنَّ الحُبَّ لا يكون دائماً "معقولا". فثمَّةَ الحُبُ العُذري، أو الأفلاطوني، الذي يَدلُّ على حالةِ عاطفةٍ أو حُبٍ قوية بين ذَكر وأنثى لا تتخللها شهوة بَدنية أو مُعاشَرة. وعادةً ما تستهزئُ العامّةُ من هذه الحالة أو تُشفِق عليها. ولكنَّ الحالتان الرُومانسيتان المَرَضيتان حقاً يُمثِلهما الحُبُّ غيرُ المتبادَل من جهة والنُوسْطالجيا (الأبابة) من جهة أخرى. الأولُ حُبٌ مِن طرفٍ واحدٍ، والثانيةُ حنينٌ شديدٌ إلى الماضي. وكِلتا الحالتان تُغرقُ المُحِبَّ في العاطفة وتُبعِده عن المنطق والسلوك السليم. في موضوع الأمازيغية، النُوسْطالجيا شعورٌ حاضرٌ بقوة لدى عَددٍ مِمَّن يَعُدّون أنفسَهم من "الحَرَكة". إنهُم نسبة قليلة من الشعب المغربي ويُكِنون حُبّاً أعمى ل"القضية"، ولكنهم يتعامَون عنْ أنَّ اللغة الأمازيغية أُمٌ وُلِدتْ ثم أَنجبتْ، مثلما وُلِدتِ اللاتينيةُ ثم أَنجَبت ما يُصطَلح عليه اليوم باللغات الرومانسية (نسبة إلى اللاتينية الرومانية). من المعروفِ في اللِسانيات أنه إذا افترقتْ بَناتُ لغةٍ مُعيَنةٍ خلال قرونٍ مَعدوداتٍ أصبحْن ألسُناً مستقلة. هذا هو الحال مع الإسبانية والفرنسية والبرتغالية والكطلانية وغيرها من بَنات اللاتينية الستة والأربعين (على الأقل)، وكذا مع الريفية والأطلسية والسوسية والقبايلية وغيرها من بنات الأمازيغية في المغرب وشمال أفريقية. ولأنَّ البشرَ ضعيفٌ، لا بأس أنْ ينتابَنا الحنينُ من حينٍ لآخَر إلى غابر الأزمان فنتخيّل "مدينة فاضلة" أمازيغية. ولكن أنْ يتحولَ هذا الشعورُ العابرُ إلى إيديولوجيا، ثم إلى يُوطُوبْيا، فهذا مُنتهى النُوسْطالجيا. إنها حالة مَرَضية بعيدة عن المنطقِ، التاريخي والفكري، وعن الواقعِ، الاجتماعي والسياسي. وهذا ما يُفسِر عَدداً من الظواهر والمظاهر التي تَصدُر باسم "القضية" الأمازيغية. ولعلَّ أبرزَها الإركاميةُ، التي يسعى واضِعوها الأربعون إلى إقناع ملايين المغاربة الأربعين بأنها ليست سُوسية مُعدَلة إركامياً بلِ الأمازيغية الأم. وما بُنِيَ على النُّوسْطالجيا يَكُون بالطبع بعيداً عن العقل، قريباً من العاطفة. ومِن ذلك على سبيل المثالِ لا الحَصر: 1) مُحاولةُ تحويل الاحتفالِ العريقِ بالموسم الزراعي، الذي هو طقسٌ من الطُقوس السنوية المُشتَرَكة بين عدة حضارات إنسانية قديمة عبر العالم (بما فيها الهِندية البعيدة عنا جغرافياً)، إلى سَنةٍ أمازيغيةٍ بالمُعجزة (كُنْ فيَكون؟!). 2) تمريرُ بَرامج وسَهَرات ووَصلات إشهارية وأشرطة تلفزيونية في الإعلام العمومي (آخرُها "حْديدّانْ" في رمضان على القناة 2) باللسان السوسي على أنها أمازيغيةً، بِرضاً من "المناضلين" الراصدين لدفتر التحمُلات، مع أن مغاربة الريف والأطلس لا يَفهمون شيئاً منها، ولا مِن تمييز اللسان السوسي على لِسانَيهما بشكل مُمنهَج. 3) اعتبارُ تدَخُلٍ تحت قُبة البرلمان بالريفية مِن طرف وزيرٍ أوْ بالسوسية مِن طرف مُستشارٍ أمازيغيةً لمُجرد أنها ليست عرَبية، مع العِلم أنَّ الأولَ ليس مفهوماً لدى غير الريفي، والثاني كذلك لدى غير السُوسي. 4) استعمالُ عبارةِ "أزُول" للتحية (استبعاداً لعبارة "السلام عليكم"؟!)، مع أنها غير موجودة إطلاقاً لا في سوس ولا في الأطلس ولا في الريف. وحتى لو كانت "أزُول"، الغريبة على أهل الريف غرابة "نِيهاوْ" الصينية، مقبولةً صوتياً عند إخواننا في سوس، فإن "أز" ليست ريفية في شيء، بينما "أوُل" (قلبٌ) يَنطقها الريفي "أوُرْ"، لأنَّ لا وُجودَ لحَرف اللام في آخِر الكلمات الريفية، إلا استثناءً. والأهمُّ من ذلك أنَّ المُحاولات الجارية لتسويس اللسان الريفي باستبدال الراء النهائية لاماً، إضافةً إلى حذفِ حَرفيْ الثاءِ والذالِ نهائياً منه وتهميشِ مُعجَمِه وتحويرِ قواعِدهِ، منبوذةٌ عِلمياً ومرفوضةٌ أخلاقياً وحضارياً. وفي كل الأحوال، على القائمين بالعملية أن يُدركوا بأنه يُمكِنهم أنْ يَخدعوا بعضَ الناسِ بعضَ الوقت، ولكنهم لا يستطيعون أنْ يَخدعوا كلَّ الناسِ كلَّ الوقت، وعلى الناطقين بالريفية أن يَفطنوا لعملية التهجين والتدجين هذه ويُدافعوا عن لغتهم الأمّ قبل أن يَصيروا غُرباء في عُقر دارهم. خُلاصةُ القول، إنه التخبُطُ بعينِه بسبب اعتمادِ العاطفة وتغييبِ العقلِ. العقلُ يقول إنَّ لدينا في المغرب ثلاثةُ ألسنٍ أمازيغية مُستقلة عن بعضها البعض، نُطقاً ومُعجماً، بل وثقافةً، منذ قُرون من الزمن، رغم التشابهات فيما بينها بصفتها شقيقات مِن أُمّ واحِدةٍ. ومن ثمَّ يَصير الحفاظُ عليها وتدريسُها ونشرُها أوْلى وأنجع على الصعيد الجهوي، مِن طرف أهْلِها. نَعَمْ للسُوسية والأطلسية والريفية لُغاتٍ وطنيةً، رسميةً في الجهة، تحظى بحُب ذويها وعنايتهم قبْل الجهات الرسمية. ونَعَمْ للثقافة الأمازيغية كُلِها وليس بعضِها، الأصيلِ منها لا الاصطناعي، التاريخي لا الخُرافي، الشعبي لا الإيديولوجي. أمَّا التحيُزُ العاطفي، المَكشوفُ أو المُقنَّعُ، لِلسانٍ أمازيغيٍ بعينِه ولِجهةٍ بذاتها (برجالاتِها وعاداتِها وأنغامِها وأفلامها إلخ) ثُم استحضارُ الدُستورِ لفرْضِ الإركامية على المغاربة فيما يُشْبه تزويجَها إيّاهُم قسْراً، أو الضغطُ بالتصريحات والعُروض والعَرائض لاستعجال القانون التنظيمي لهذا الغرَضِ، فهو ضرْبٌ مِن النُوسْطالجيا الرَعْناء التي ستأتي على الحُبِ والإخاء بين المغاربة الأشِقاء لِتُحَولهُما إلى كراهيةٍ وعَداء.