تزامنا مع موجة الهجرة التي شهدتها مدينة خريبكة والمناطق المجاورة لها خلال السنوات العشر الأخيرة من القرن الماضي، وبالنظر إلى حجم السلع التي كان أفراد الجالية المغربية يجلبونها معهم من بلدان المهجر خلال رحلات العودة إلى أرض الوطن، اشتُهرت "عاصمة الفوسفاط" آنذاك بتوفرها على أحد كبريات الأسواق الخاصة بتجارة السلع المستعملة التي تحقق ثنائية "الجودة العالية والثمن المنخفض"، خاصة تلك القادمة من إيطاليا. وبعدما كانت "جُوطية الطّاليان" بمدينة خريبكة تستقطب زبائنها من مختلف مدن المغرب، وتوفر لهم حاجياتهم من الأثاث والأواني المنزلية، والدراجات النارية والهوائية وقطع غيار السيارات بجميع أنواعها، والأحذية إيطالية الصنع والملابس ذات الماركات العالمية، والأجهزة الإلكترونية بمختلف أصنافها وأحجامها... تدخّلت مجموعة من العوامل خلال السنوات الأخيرة وتسببت في تراجع الرواج التجاري في السلع المستعملة إلى مستويات ضعيفة. لقطات من الماضي عبد الغني شكيب، واحد من قدماء تجار السلع المستعملة بمدينة خريبكة، قال إن "هذه التجارة بدأت في الماضي البعيد من الحي السكني 'البريك'، قبل أن تبدأ في التوسع التدريجي والامتداد إلى أماكن مختلفة بالمدينة، كحيّ الحبوب، وشارع محمد السادس المسمى سابقا شارع الزلاقة، والساحة القريبة من المستشفى الإقليمي الحسن الثاني التي كادت أن تتحول، برواجها وحركيتها واكتظاظها، إلى متنفس مهم للساكنة يشبه ساحة جامع الفنا بمدينة مراكش". وأضاف المتحدث ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "تجارة السلع المستعملة بلغت ذروتها في سنوات التسعين، إذ كان أفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج يشتغلون في قطاعات مختلفة بدول المهجر، ويحققون مداخيل مهمة من الأعمال التي كانوا يقومون بها خارج المغرب، وحين يرغبون في العودة إلى أرض الوطن كانوا يحضرون معهم مجموعة من السلع المستعملة باعتبار عائداتها المالية مجرد 'خضرة فوق طعام'، لذلك يبيعونها بأثمان مناسبة". وأوضح شكيب أن "السلع المستعملة التي كان الباعة يقتنونها من المهاجرين تعود عليهم بالنفع، بفعل جودتها العالية وأسعارها المنخفضة وأنواعها الكثيرة، ما ساهم بشكل كبير في ازدهار هذه التجارة واستقطاب زبائن من مختلف مدن المغرب، بمن فيهم بعض الزبائن الذين يقطنون بمدينة الداخلة ويزورون خريبكة بين الفينة والأخرى لشراء السلع المتوفرة ب'جوطية الطاليان'، إضافة إلى بعض الباعة البيضاويين الذين يفضلون السلع الأوربية المتوفرة بخريبكة". أسباب تراجع الرواج التجاري وعن أنواع السلع التي كانت تروج في سنوات التسعين ب"جوطية الطاليان"، أكد المتحدث ذاته أنها "لا تعد ولا تحصى، بدءا بالأحذية الإيطالية والأواني الفضية والنحاسية المستعملة، مرورا بالأثاث والأسِرة والأفرشة والملابس الجلدية، وصولا إلى جميع أنواع الآلات الكهربائية المنزلية والمعدات ذات الاستعمال الصناعي، دون الحديث عن الإكسسوارات وأجزاء السيارات، وغيرها من السلع الكثيرة". كما أبرز عبد الغني شكيب أن "السلع المستعملة بدأت تقل شيئا فشيئا، والنشاط التجاري يضعف سنة بعد أخرى، منذ بداية القرن الجاري، بسبب المبالغة في نقل السوق من مكان إلى آخر، واتخاذ بعض الإجراءات الجمركية على السلع القادمة من أوربا، إضافة إلى أن أغلب المهاجرين فقدوا وظائفهم وحرفهم في بلدان المهجر، وأصبحوا يراهنون على تجارة السلع المستعملة لكسب قوتهم، لذلك صاروا يطالبون بأثمان مرتفعة مقابل السلع التي نجحوا في إيصالها إلى خريبكة". وشدد شكيب على أن "الضرر بلغ ذروته في السنوات الأخيرة، لتأتي جائحة كورونا وتصيب السوق في مقتل، وتُدخل تجار السلع المستعملة في دوامة من المعاناة التي مازالوا يتجرعون مرارتها إلى اليوم، بعدما صرفوا كل مدخراتهم خلال السنتين الأخيرتين، مع تراكم الديون المرتبطة بالأكرية وواجبات الماء والكهرباء ومختلف المتطلبات الأسرية التي لا تنتهي، في وقت توقفت الأنشطة التجارية بسوق السلع المستعملة بشكل تام خلال فترات الذروة الوبائية". معاناة وتطلع للمستقبل لوصف الوضعية الراهنة ب"جوطية الطاليان"، قال عبد الغني شكيب إن "القضية مْسالْية"، مضيفا أن "الفئة التي تضررت بشكل كبير في الآونة الأخيرة هي التي لا تتوفر على أي مدخول مالي خارج هذا السوق، لأن معيشتها وقوت أبنائها ومصادر أرزاقها مرتبطة تماما بتجارة السلع المستعملة، دون الحديث عن غياب التأمين والتغطية الصحية والتقاعد... لدى هذه الفئة من التجار التي تشتغل في قطاع غير مهيكل". ولإحياء هذا النوع من الأنشطة التجارية بخريبكة، نبه المتحدث إلى ضرورة "إنشاء سوق نموذجي خاص بالسلع المستعملة، على أن تتوفر فيه مختلف شروط التنظيم، والمقومات الضرورية والملائمة لمزاولة الأنشطة التجارية، بعيدا عن الغبار صيفا والأوحال شتاءً"، مشددا على أن "السوق يجب أن يبقى في المجال الحضري، حتى يكون قريبا من الساكنة التي تلجأ إلى السلع المستعملة، وتفضل التعامل مع هؤلاء الباعة الذين ورثوا تجارتهم عن آبائهم وأجدادهم". وعن موقف التجار من الأوضاع الراهنة ونظرتهم لمستقبل القطاع، أكد عبد الغني شكيب أن "جمعية تأسست في الآونة الأخيرة من أجل تسجيل باعة السلع المستعملة ب'الجوطية'، وتنظيمهم في ذلك الإطار الجمعوي والترافع عنهم في إطار القانون، لكي يستفيدوا من حقهم في الحصول على فضاء ملائم لمزاولة أنشطتهم التجارية التي قضى بعضهم فيها أزيد من أربعين سنة من العمل والجد والاجتهاد".