الوكيل العام بمراكش ينفي وفاة مواطن خلال الأحداث التي شهدتها منطقة سيدي يوسف بن علي ويكشف حقيقة الأمر        حماس توافق مبدئيًا على خطة ترامب لوقف الحرب في غزة وتبادل الأسرى        بيتيس يعلن إصابة سفيان أمرابط    المغرب يحقق الملاءمة المكتملة مع الصكوك والمعايير الدولية المعمول بها في مجال مكافحة جريمة الاتجار بالبشر        باحث فرنسي متخصص في الشأن المغربي: احتجاجات "جيل زد" في المغرب تكشف أزمة ثقة عميقة بين الشارع والمؤسسات    المواطنة والحراك    مجلس الأمن يٌبرمج ثلاث جلسات مغلقة هذا الشهر لمناقشة قضية الصحراء    أين اختفى هؤلاء "المؤثرون" في خضمّ الأحداث الشبابية المتسارعة بالمغرب؟    مسرح رياض السلطان يواصل برنامجه لشهر اكتوبر    رسالة اجتماعية وأرقام قياسية.. أغنية "الهيبة" تحقق صدى واسعًا    تجربة إبداعية فريدة تجمع بين الشعر والموسيقى    الفرقة الوطنية توقف شخصا ببني بوعياش متورطا مع شبكة رضوان التاغي في هولندا    تخريب تجهيزات السد القضائي للأمن الوطني بمدخل إمزورن    ترامب يعلن عن "يوم كبير" ويشيد بدور دول عربية في خطة إطلاق الرهائن    وقوع ضحايا جدد في غزة رغم دعوة ترامب إسرائيل إلى وقف القصف    انخفاض سعر صرف الدرهم مقابل الدولار والأورو    صحيفة إلكترونية أمام لجنة الأخلاقيات بسبب نشر محتوى محرض على العنف    الاتفاق الفلاحي الجديد... أوروبا تعترف عمليًا بالسيادة المغربية على الصحراء    صحيفة لوجورنال دو ديمانش الفرنسية: الجزائر على صفيح ساخن... شباب "جيل Z 213" يتحدّى نظام تبون    الاتحاد الإسلامي الوجدي يهدد انطلاقة شباب المحمدية والمغرب التطواني يبحث عن تصحيح الأوضاع    لماذا يتجاهل بعض التونسيين أزمتهم الداخلية ويركزون على المغرب؟    إلَى جِيل Z/ زِيدْ أُهْدِي هَذا القَصِيدْ !    جينك يعلن خضوع الواحدي لعملية جراحية في الكتف    المحامية سوجار تنتقد اعتقال شباب مغاربة على خلفية مظهرهم خلال الاحتجاجات    أكادير: أرباب مطاعم السمك يحتجون الاثنين تزامناً مع دورة مجلس الجماعة    رئيس "اليويفا": إستبعاد إسرائيل من مسابقات كرة القدم غير مطروح    البرلمان الهولندي يدعو إلى الإفراج الفوري عن ناصر الزفزافي وباقي السجناء السياسيين في المغرب    تعيين محمد فوزي واليا على مراكش وخالد الزروالي واليا على فاس    المنظمة المغربية لحقوق الإنسان تدعو إلى إطلاق سراح النشطاء المحتجزين من طرف إسرائيل و تندد بخرق القانون الدولي    آلاف المغاربة يتظاهرون في عشرات المدن للتنديد بقرصنة أسطول الصمود العالمي    الحكم بالسجن أربع سنوات وشهرين على ديدي    الكاتب عبد اللطيف اللعبي يوجّه رسالة تضامن إلى شباب الاحتجاجات في المغرب    الأمين العام يأسف لوقوع أعمال عنف أثناء المظاهرات في المغرب        فيدرالية اليسار تجمع أحزابا ونقابات وجمعيات حقوقية لدعم حراك "جيل زد"                        تداولات بورصة البيضاء تتشح بالأخضر        فقدان حاسة الشم بعد التعافي من كورونا قد يستمر مدى الحياة (دراسة أمريكية)    علماء يجددون توصيتهم بالتقليل من اللحوم في النظام الغذائي    حمية الفواكه والخضراوات والمكسرات "قد تمنع" ملايين الوفيات عالميا    وزارة الأوقاف تخصص خطبة الجمعة المقبلة: عدم القيام بالمسؤوليات على وجهها الصحيح يٌلقي بالنفس والغير في التهلكة    ارتفاع ضغط الدم يعرض عيون المصابين إلى الأذى    عندما يتحول القانون رقم 272 إلى سيفٍ مُسلَّط على رقاب المرضى المزمنين        بوريطة: تخليد ذكرى 15 قرنا على ميلاد الرسول الأكرم في العالم الإسلامي له وقع خاص بالنسبة للمملكة المغربية        الجدل حول الإرث في المغرب: بين مطالب المجتمع المدني بالمساواة وتمسك المؤسسة الدينية ب"الثوابت"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي"
نشر في هوية بريس يوم 20 - 05 - 2023

تناولنا في الجزء الأخير الحديث عن أهمية التفقه في الدين، انطلاقا من ذلك الحديث البديع، الذي رواه سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاللهُ يُعْطِي. وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ الله، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله" متفق عليه. وجاء سياق هذا الحديث في معرض بيان الأسس التي أرساها ديننا الحنيف للخروج من الفتن التي تتعاور المسلمين في كل زمان ومكان، والتي ذكرنا جملة منها، مما استُهدِف به شبابنا هذه الأيام، في عقيدتهم، وفكرهم، وثوابتهم، وأخلاقهم.
وَلْنَدْلِفْ إلى الجملة الثانية من هذا الحديث الجليل، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاللهُ يُعْطِي". فمن كمال الفقه في الدين، أن يعلم المسلم الفطن أن المعطي على الحقيقة هو الله تعالى ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاسم ما أمره الله به، وهو نبي لا ينطق عن الهوى، ولا يتصرف بالهوى، ولا يقضي بالهوى. فوجب الإذعان لحكمه، والرضا بِقَسْمه. قال تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). قال الزمخشري رحمه الله : "( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ): هذه الهمزة للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من اعتراضهم وتحكمهم، وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوة، والتخير لها مَنْ يَصلح لها ويقوم بها، والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو، بباهر قدرته وبالغ حكمته".
فبحكمته سبحانه أعطى هذا، ومنع هذا، وأغنى هذا، وأفقر هذا. قال مقاتل: "(نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): فاضلنا بينهم، فمن رئيس، ومرؤوس".
وقال قتادة: "تلقى ضعيفَ القوة، قليل الحيلة، عِيَّ اللسان، وهو مبسوط له. وتلقى شديد الحيلة، بسيط اللسان، وهو مُقَتَّر عليه".
وَمِنَ الدَّليلِ عَلى القَضاءِ وَحُكمِهِ * بُؤسُ الَّلبيبِ وَطِيبُ عَيشِ الأَحمَقِ
فلا يعتقدن أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي ويمنع، ويغني ويفقر. قال صلى الله عليه وسلم: "مَا أُعْطِيكُمْ وَلاَ أَمْنَعُكُمْ، أَنَا قَاسِمٌ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ" رواه البخاري.
ومن صفاته صلى الله عليه وسلم أنه عادل، لا يظلم أحدا، ولا يحابي أحدا، مهما كانت منه قرابته، ومهما قويت به وشاجته. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ، آثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ. قَالَ رَجُلٌ: وَالله إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ الله. فَقُلْتُ: وَالله لأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَأَتَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ/فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَاحْمَرَّ وَجْهُهُ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَذْكُرْهُ لَهُ، فَقَالَ: "فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُولُهُ؟ رَحِمَ اللهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ" متفق عليه.
فالمسلم الحق يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤثر أحدا على أحد إلا لمصلحة دينية، ومقاصد شرعية. ومن أعظم هذه المصالح، أنه كان يعطي أناسا ليتألفهم، ويقربهم إليه، حتى يثبتوا على الدين.
فعن أنس رضي الله عنه "أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَسْلِمُوا، فَوَالله إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ. فَقَالَ أَنَسٌ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ، مَا يُرِيدُ إِلاَّ الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الإِسْلاَمُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا" رواه مسلم.
وقد يعطي صلى الله عليه وسلم من لا يزال حديث عهد بإسلام، ويترك من توخى رسوخهم في الدين.
فعن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا، قَسَمَ الْغَنَائِمَ، فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الأَنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا مَا أَصَابَ النَّاسُ، فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: فَخَطَبَهُمْ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلًا، فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي، وَعَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي، وَمُتَفَرِّقِينَ، فَجَمَعَكُمُ اللهُ بِي؟"، وَيَقُولُونَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ./"أَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالإِبِلِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ الله إِلَى رِحَالِكُمُ؟ قَالُوا: بَلَى./قال: "فَوَالله لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ، خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ./إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ"./وقال: "الأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَلَوْلاَ الْهِجْرَةُ، لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ. وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ" متفق عليه.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ" متفق عليه.
كان صلى الله عليه وسلم يَعلم أن للمسلمين حقا في مال الدولة، وأن ثروة الدولة لا بد أن يصل الناسَ نصيبُهم منها، بكل وضوح وشفافية، ومن غير غموض أو مواربة. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ الله الَّذِي عِنْدَكَ. قال أنس: فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ" متفق عليه.
أَنصَفَت أَهلَ الفَقرِ مِن أَهلِ الغِنى * فَالكُلُّ في حَقِّ الحَياةِ سَواءُ
ويروي لنا جبير بن مطعم رضي الله عنه يقول: بَيْنَا أنا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: وَمَعَهُ النَّاسُ مُقْبِلًا مِنْ حُنَيْنٍ، عَلِقَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم الأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ، حَتَّى اضْطُرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا، لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً، وَلاَ كَذُوبًا، وَلاَ جَبَانًا" رواه البخاري.
لم يكن صلى الله عليه وسلم يقدم في العطاء أو المناصب أحدا لأنه من قرابته، أو من قبيلته وأبناء عمومته، بل يقضي بالعدل، ويقسم بالسوية، قاصدا أن تصل الحقوق إلى أصحابها. ومن أوضح الأدلة على ذلك، ما رواه عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فِي شَرِيجٍ مِنَ الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ". (أي: اسق، ولا تملأ صهريجك، بل أَمِرَّ الماء إلى جارك، مع أن تمام القسمة، أن يحبس الماء حتى يمتلئ صهريجه). فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ الله، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْر، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ". قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسِبُ هَذِهِ الآيَاتِ إِلاَّ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) متفق عليه.
وقد يقسم النبي صلى الله عليه وسلم: ثم يتبين له أن يعدل القسمة، مراعيا للحال. فعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: "أَعْطَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِى وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ * بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ
فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلاَ حَابِسٌ * يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا * وَمَنْ تَخْفِضِ الْيَوْمَ لاَ يُرْفَعِ
قَالَ: فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِائَةً" رواه مسلم.
وسار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا النهج، فعدلوا في القسمة، فلم يظلموا أحدا، بل كانوا وقافين عند النصوص الشرعية، يستحضرونها في الوقت المناسب، ويعملون بمقتضاها. من ذلك ما رواه عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ، فَتَسْتَأْذِنَ لِي عَلَيْهِ؟ قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالله مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ، فَقَالَ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ. فَوَالله مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ الله" رواه البخاري.
ألا فليتق الله أناس يتخوضون في مال الله بغير حق، ويتصرفون فيما أولو من المناصب بحسب هواهم: يؤثرون أنفسهم، وقرابتهم، وأصحابهم، ويَحرمون ذوي الحقوق، وأصحاب الكفاءات والاستحقاق، حبا في المال، أو المنصب، أو الجاه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ الله بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" البخاري.
أَقْسَمْتُ بالله لَوْ أَنْصَفْتَ نَفْسَكَ مَا * تَرَكْتَهَا باكْتِسَابِ الوزْرِ فِي ثِقَلِ
أَمَا عَلِمْتَ بَأنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ * عَلَى الضَّمَائِرِ والأَسْرَارِ وَالحِيَلِ؟
ومن لطائف هذه الجملة من الحديث، أنها تدل أيضا على قسمة العلم بين الناس، بأن يلقي إلى كل واحد ما يليق به، والله سبحانه يوفق من يشاء لفهمه وحسن تأويله. قال شهاب الدين التُّورِبِشْتِي: "أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ)، إلى ما يُلقى إليهم من العلم والحكمة. وبقوله: (وَاللهُ يُعْطِي)، إلى الفهم الذي يُهتدى به إلى خفيات العلوم في كلمات الكتاب والسنة؛ وذلك أنه لما ذكر الفقه في الدين، وما فيه من الخير، أعلمهم أنه لم يُفضل في قسمة ما أوحي إليه أحدا من أمته على آخر، بل سَوَّى في البلاغ، وعدل في القسمة. وإنما التفاوت في الفهم، وهو واقع من طريق العطاء".
إذا هبطَتْ أخلاقُنا سَاءَ حَالُنَا * وإن كرُمَتْ أخلاقُنا لم تَخَفْ بأسَا
هَل الغَيثُ يُعطي ثَرْوَةَ الزَّرْع وَحْدَهُ * إذَا الأَرضُ لَم تَصْلُحْ لِأَنْ تَحْضُنَ الغَرْسَا؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.