المغرب يحتفي بنخبة البكالوريا 2024-2025    في ندوة دولية بالداخلة.. مجاهد يحذر من مخاطر التضليل الرقمي ويدعو إلى ترسيخ الممارسة الصحافية الأخلاقية    اندلاع 111 حريق غابات منذ مطلع عام 2025 التهمت 130 هكتارا    وقفات في مدن مغربية عدة تدعم فلسطين وتندد بالعدوان الإسرائيلي على إيران    انطلاق منافسات القفز على الحواجز للحرس الملكي تحت الرعاية الملكية بالرباط    تعزيز الشراكات جنوب جنوب خيار استراتيجي لنمو مستدام في إفريقيا    مدينة المضيق عاصمة الكرة الطائرة الشاطئية الإفريقية    رئاسة النيابة العامة تنظم دورة تكوينية لتعزيز قدرات القضاة المكلفين بالأحداث    باحثون إسبان يطورون علاجا واعدا للصلع    مصرع ضباط جزائريين في طهران.. حادثة تكشف خيوط التعاون السري بين الجزائر وإيران    وليد الركراكي يكشف سر استمراره رغم الإقصاء ويعد المغاربة بحمل اللقب على أرض الوطن    بتنسيق مع "الديستي".. توقيف 10 أشخاص ضمن شبكة للاتجار بالمخدرات في الناظور    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    الأرصاد تحذر من موجة حر تصل إلى 45 درجة تمتد إلى غاية الثلاثاء    نشرة إنذارية: طقس حار من الجمعة إلى الثلاثاء، وزخات رعدية اليوم الجمعة بعدد من مناطق المملكة    معهد صحي يحذر.. بوحمرون يتزايد لدى الأطفال المغاربة بهولندا بسبب تراجع التلقيح    بعد وفاة بريطانية بداء الكلب في المغرب.. هل أصبحت الكلاب الضالة تهدد سلامة المواطنين؟    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الارتفاع    اجتماع إيراني أوروبي في جنيف وترامب يرجئ قراره بشأن الانخراط في الحرب    وفاة طبيبة شابة في طنجة بعد سقوط مروع من سطح منزل قرب مستشفى محمد الخامس    أنامل مقيدة : رمزية العنوان وتأويلاته في «أنامل تحت الحراسة النظرية» للشاعر محمد علوط    «علموا أبناءكم».. أغنية تربوية جديدة تغرس القيم في وجدان الطفولة    «نج «و»كي بلاك» يجمعان صوتهما لأول مرة في عمل غنائي مشترك بعنوان «La Var»    غوتيريش يستقبل آمنة بوعياش بنيويورك لتعزيز دور المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان في القرار الدولي    لفتيت يذكر الشباب باستمارة الجندية    "الكاف" يعلن عن مواعيد وملاعب "شان 2024"    عن "الزّلافة" وعزّام وطرفة الشّاعر عبد اللطيف اللّعبي    المغرب يقبض على مطلوب بالنرويج    افتتاح الدورة ال26 لمهرجان كناوة وموسيقى العالم بالصويرة    كوت ديفوار تعبر عن قلقها بشأن أوضاع حقوق الإنسان في تندوف وتطالب بإحصاء سكان المخيمات        ديغات: المغرب يوفر للاجئين بيئة داعمة .. والموارد الأممية محدودة    الكاف يكشف روزنامة النسخة الجديدة لدوري الأبطال وكأس الكونفدرالية    انتقادات تلاحق هدم السكن الجامعي لمعهد الزراعة والبيطرة ومخاوف من تشريد 1500 طالب    قرض أوروبي بقيمة 110 مليون أورو لإنعاش البنية الصناعية بإقليم الناظور    كارمن سليمان تفتتح مهرجان موازين بطرب أصيل ولمسة مغربية    محمد حمي يوجه نداء من والماس لإعادة الاعتبار للفلاح الصغير    مندوبية التخطيط: معدل التضخم خلال ماي سجل ارتفاعا ب0.4 في المائة    كأس العالم للأندية.. ميسي ينقذ إنتر ميامي وسان جرمان يتعثر وأتلتيكو يرفض الاستسلام    7 أطباق وصحون خزفية لبيكاسو بيعت لقاء 334 ألف دولار بمزاد في جنيف    المنتخب الوطني لكرة القدم النسوية يفوز وديا على نظيره المالاوي        تقرير: المغرب يجذب حوالي 15.8 مليار درهم من الاستثمارات الأجنبية بنمو 55% في 2024    المغرب يعزّز حضوره الثقافي في معرض بكين الدولي للكتاب    رواندا تقبض على زعيمة المعارضة    برلماني يطالب بالإعفاء الكلي لديون صغار الفلاحين    ترامب يحسم في دخول الحرب ويهدد ايران بمهاجمتها في بحر أسبوعين    التكنولوجيا الصينية تفرض حضورها في معرض باريس للطيران: مقاتلات شبح وطائرات مسيّرة متطورة في واجهة المشهد    التصادم الإيراني الإسرائيلي إختبار لتفوق التكنلوجيا العسكرية بين الشرق والغرب    مجازر الاحتلال بحق الجوعى وجرائم الحرب الإسرائيلية    بنكيران يهاجم… الجماهري يرد… ومناضلو الاتحاد الاشتراكي يوضحون    فحص دم جديد يكشف السرطان قبل ظهور الأعراض بسنوات    السعودية تدعو إلى ارتداء الكمامة في أداء العمرة    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى اليوم العالمي للشِّعر..القصيدة هل هي أعلىَ مراتب الإبداع؟
نشر في لكم يوم 21 - 03 - 2019

احتفلت اليونسكو – كما هو الشأن كلّ عام – باليوم العالمي للشّعر. اُعتمد ذلك في الدورة الثلاثين لليونسكو – المنعقدة عام 1999 بباريس ، وأصبح يوم 21 (آذار) مارس يوماً عالمياً للشّعر. وكانت الغاية من هذا اليوم هو تعزيز القراءة، والكتابة، ونشر، وتدريس الشعر في جميع أنحاء العالم. خلال دورة اليونسكو إيّاها التي أعلن فيها عن هذا اليوم أمام العالم، سُجّل بأن الهدف منه كذلك هو "تجديد الاعتراف وإعطاء زخم للحركات الشعرية الوطنية والإقليمية والدولية" ..فماذا يمكننا قوله فى هذا اليوم عن هذا " المخلوق الذي أصبح يدبّ بيننا على قدميْن " كما ذهب ريتشاردز وكولاردج فى كتابهما "فى معنى المعنى"….؟!
الشاعر السّوري المعروف على أحمد إسبر "أدونيس" (الذي شارك مؤخراً فى ندوة دولية نظمتها أكاديمية المملكة ببلادنا حول "عبد الكبير الخطيبي ) كان قد قال على هامش إحدى الدّورات الأخيرة للمهرجان العالمي للشّعر الذي يُنظّم كلّ عام بمدينة غرناطة الجميلة عندما سئل عن دور الشّعر في المجتمع المعاصر، قال :" الآن يبدو أنه لم يعد للفلاسفة والعلماء ما يقولونه ،ولكنّ الشّعراء نعم "، ويرى كذلك :"أنّ الشعر حتى وإن كان لا ينطوي على جانب علمي، وقد لا يكون فى مقدوره تغيير العالم، إلاّ أنه – مع ذلك- يمكنه تغيير رؤية الإنسان حيالَ هذا العالم ، ونوعية علاقاته مع الآخرين "، ويرى "أدونيس" من جانب آخر : " أنّ الرّوائييّن لم يعد لهم أيّ تأثير كبير في المجتمع المعاصر، حتى وإن كان لهم قرّاء أكثر ممّا لدى الشّعراء ، فالرّوائيّون يمرّون فى عقل أيّ إنسان بطريقة أفقيّة وسطحيّة، وهم يؤثّرون في القرّاء المستهلكين ، أمّا الشعراء فإنهم يؤثّرون في القرّاءالمبدعين ، فسرد العالم يعني نسخه ، وإذا كنّا ما نقوم به هو إستنساخ الحياة ، فإننا لا نقوم بأيِّ شئٍ حقيقيّ، فالفنّ والإبداع ينبغي لهما خلق طاقة منتجة ، والشّعر يتميّز برؤيا خاصّة وشاعرية نحو لعالم".
أدونيس والشعر
وعندما ألقتْ عليه الشّاعرة الإسبانية " رَاكِيلْ لَانْسِيرُوسْ " جملةً من الأسئلة حول مختلف المجالات التى لها صلة بالشعر، والإبداع على وجه العموم، وبعض مشاغل وإهتمامات حياتنا المعاصرة فى العالم العربي بوجه خاص، قال أدونيس : لا السياسة ، ولا التجارة تعبّران عن هويّة شعب، فالذي يعبّر تعبيراً حقيقياً عن هويّة شعب هو الخلق والإبداع، والقصيدة هي أسمىَ وسائل التعبير في مختلف الميادين ، وهي أعلىَ مراتب الإبداع، هناك أناس يكتفون بالنظر الى العالم، وهناك أناس آخرون وهم الشعراء يذهبون الى أبعد من ذلك ،إنّهم يحاولون الدخول في عقول القرّاء، ويعملون على تحويل العالم الى مكان أكثرَ أمناً وشاعرية . وينبغي على الشاعر أن يكون شاهداً على ما هو حقيقي أومخادع، ومن ثمّ يأتي إهتمامه بالكائن البشرى"،ويرى أدونيس : " أنّ الشعر يتخطّى الكلمات ،وهو ضربٌ من ضروب الوجود ،ذلك أنّ دَور الشاعر هو الكفاح الدائم، ودعم الثورات الحقيقية". وقال:" إنّه لم يُسهم بمفرده فى تطوير الشّعرالعربي- كما ذهبت الشّاعرة الإسبانية راكيل لانسيروس- بل كان هناك شعراء كبار كثيرون تعلّم منهم ،فقد رافقه شعراء آخرون قبله وبعده الذين أسهموا جميعاً في تطوير الشّعر العربي الحديث" . وقال:" إنّ الشّعر بالنسبة له هو الحبّ، وهو أبعد من الكلمات والتعبير" ،وقال :" إنّه يكتب ليعيشَ أحسن، وليتفاهمَ أكثر ولكي يفهمَ الآخرين والعالمَ الذي نعيش فيه، وهو لا يستطيع العيش بدون شعر، والخلق أو الإبداع عنده هوالتعبيرعن مختلف ميادين الأدب، والشّعر، والتشكيل، والموسيقى، الإبداع هو التغيير وإعطاء صورة جديدة للعالم ، هو إعطاء صورة جديدة للكلمات" ، وقال :" ينبغي لنا تغيير العلاقات بين العالم وبين النصّ والشّعراء والإبداع في جميع الميادين ، والقصيدة ليست إنتاجاً ، التصنيع هو إنتاج، والإبداع هو الشّعر، والشّعر رحلة جوّانية للبحث عن صورةٍ أكثرَ إنسانية للعالم الذي يحيط بنا ".
الشّاعرة البولندية " فيسوافا شيمبورسكا " (2 يوليو 1923- 1 فبراير 2012) ، وحاصلة على نوبل فى الآداب عام (1996)، كانت تقول: "إنّ الشّعر غاية إنسانية بالدرجة الأولي، ويكفيني فرحاً أن أستمر في كتابة الشعر حتي مماتي". وكان الشّاعر المكسيكي الكبير الرّاحل " أوكتافيو باث" (نوبل فى الآداب كذلك عام 1990)،يؤكّد فى مختلف كتاباته، وتصريحاته، بعد تجربته الكبيرة ،ورحلته الطويلة مع الشعر أنّ هذا الفنّ الإنساني الرّاقي من فنون القول باقٍ ما بقي الإنسانُ على وجه الأرض، فى حين كان غيرُه من المفكرين، والفلاسفة قبله منذ ما ينيف على نصف قرنٍ منهم على سبيل المثال وليس الحصر الفيلسوف الألماني " جورج فيلهلم فريدريش هيغل " يرى عكسَ ذلك، حيث تنبّأ بموتِ الشِّعر ونهايته فى عصرنا..!…فهل أصاب..؟!..هل تحقّقت نبوءته..؟! فى السّطور الموالية محاولة للإجابة عن هذا التكهّن الخطير.
القَصِيدةُ تَجْسِيدٌ أَبَدِيٌّ للوُجُود..
تساؤلات متواليه، ومتواترة ما فتئت،وما إنفكّت تتَرى،وتنهال، وتنثال، وتُطْرح بين الفينة والأخرى بين العديد من الكتّاب، والشّعراء، والنقّاد، والمثقفين، بل والقرّاء أنفسهم حول الشّعر، وهمومه، ومعاناته، وهواجسه،ومشاغله، وآمَالِه، وَآلاَمِه، وأهله، وذويه، ودوره، وماهيته، وكنهه ،وتعريفه، وتقييمه، وعن بقائه، أو زواله ،وموته ، وإنقراضه ، ومدى منفعته وجدواه ،وقد سبق أن تساءل قبل ذلك مفكّرون،وأدباء،وشعراء، ونقّاد ،ومثقفون، وفلاسفة عن الشعر،ومآله، ومصيره ومستقبله، فهل هو ما زال صالحاً ،وذا جدوى فى عصرنا المصنّع الحديث..؟.
ويشكو الصّديق الباحث الأستاذ عبد القادر الحلوي غيابَ الشِّعر الجيِّد ،ونُدرة الإبداع الرّفيع على أيّامنا، فيقول: " لم يعد الشِّعرُ يؤثّث بساتينَ الثقافة والفنّ !بعد أن أبتليت الحدائق الأدبية بالتصحّر ، وتسوّست أغراسُها ، فغابت الفراشات، والعصافير مع غياب نبتة الشّعر ، تحجّرت قلوب البشر فانطوت الأحاسيس على نفسها ، وأصابت الكآبةُ المشاعرَ في مقتل، خفّ الأنين، وانتحب العويل، وغابَ عن اللّحن الرّنين !لم يعد الشّعر ينبت تحت السّاقية ، ولم يعد يرقص مع اللّحن والقافية ،هي الحياة ، فعلاً ، كئيبة أم تراها ماهية ؟ حتى لغة وثقافة الحيزبون والدردبيس والعلطبيس إندثرت عنوةً كي لا نبتسم ولا نضحك ، ومع ذلك ما فتئنا نقرأ أحياناً بعضَ الشّعر الذي يسمّونه " حرّاً " ، لكنّه جافّ المأكل ،حارٌّ زؤوم، يَستعصي على الهضم، و يصعب على الفهم ! إنّ أجملَ الشّعر يكمن في عذوبة ألحانه، ورقّة ألفاظه، وسلاسة عباراته ، وبساطة معانيه، وبُعده عن التكلّف والتعقيد، يقول الشّاعر الأندلسي إبن اللبّانة : هو الشِّعرُ من دُرِّ طيبٍ نحتُه/ وقد تُنحَتُ الأشعارُ من حَجَرٍ صَلد . وهوالقائل كذلك : من كان ينفق من سواد كتابه / فأنا الذي من نور قلبي أنفق ! ".
وبعيداً عن هذه التساؤلات ،والشّكاوى،والتذمّرات، والإرهاصات، والتكهّنات، يظلّ الشّعر الجيّد هوالحياة بكلّ ما فيها من معانٍ، وأسرار، وغموض، ومفارقات ، والحديث عن الشّعر هو الحديث عن الكون الهائل المحيّر.. عن عذابات النفس المكلومة التائهة في متاهات الحياة، ومرابض الكينونة. الشّعر هَوَسٌ إنساني، وشجون لا يماثله سوى شجون الشّاعر إزاء العالم وأهواله، والدّنيا وأحداثها. الشّعر نقمةُ الوجود لأنّه كاشفُه، وهو قيدُ الحياة، وديمومةٌ متجدّدةٌ وخلقٌ دائمٌ لها. الشّعر أكثر الفنون هموماً، وأخطرها بحثاً، وأعمقها قضية، وأبعدها مراماً، وأعلاها قدسيةً ومقاماً. إنّه قلب الدراما كما يسمّيه " ريتشاردز"وهو الرّوح الحيويّة الحائرة والهائمة فى غياهب الكون واللاّمحدود .
إذا كان " هنري بِرْغْسُونْ" يَنعْيِ على اللّغة قصورَها الشّديد فى التبليغ ، فإنّ الشّعر قد فتح البابَ على مصراعيْه أمام المبدعين لتفادي هذا العجز، وبلوغ أرقى ضروب العطاء بتفجير هذه اللغة، وتطويعها،وتطويرها، وإعطائها نفسَاً إبداعياً جديداً ، ذلك أنّ الشّعر هو اللغة فى أرقى مظاهرها ، والشّعر الذي أعني هنا هو الشّعر بكل ما ينطوي تحت هذه الكلمة من مدلول، وحيرة، وغموض .إنه الشّعرالذي يهزّنا عند سماعه، ويسمو بنا عند قراءته ، والذي لا يرقى إليه سوى القادر على إقتحام شعابه، وعوالمه، هو الذي ينفذ إلى أعماقنا، ويلامس شغافَ ألبابنا، وقلوبَ المحرومين والمحظوظين على حدّ سواء.
والشّعر ليس قصّة تُرْوَى،ولا منطقاً يُدرّس،ولا فلسفة تُناقش، ولا قولاً يجرى على ألسنة قادة كبار العقول،وهو ليس علماً محدّداً، ولا غايةً فى ذاتها، إنّه كلّ أولئك جميعاً وما وراءها وما فوقها وما تحتها ، إنه علم ما وراء العلم وهو تجسيد للكون وما يكتنفه من غموض ، وقلق، وإغتراب ، الشّعر تحدّ لهذا الكون، وإمتداد له ولما بعده، وهو ليس أغنية تَسري فى أنغامها آهات العشّاق الهائمين، ولا أنشودة تُفصح عن شكوى المتيّمين ، الشّعر ضَرْبٌ من مناوشة الكون،ومناجاة الرّوح، ومناغصة الوجود ومناغاته ، وهذه أبرز خاصّياته وأخطرها.
والقصيدة الجيّدة تجسيد أبديّ لصورة الوجود ، تتعدّد فيها الدّلالات ،وتتفجّر الآهات، وتتشعّب الرموز، وتختلط وتتداخل فى تناوش بديع ، هي التي تكاد لا تقول أيّ شئ وهي فى الوقت ذاته تقول كلَّ شئ، والشّعراء أناس سيزيفيّون ، دائمو الحيرة، والقلق، والسُّؤْل عن كنْه الحياة، وأسرارها، وتناقضاتها، وغموضها وألغازها .
الشّعرُ لمحٌ تكفي إشارتُه !
والقصيدة باقية بقاء الدّهرلأنها أبدا حيّة وحبلى بمختلف العطاءات،وهي ليست وقفاً على حاضرٍ أو ماضٍ أو آتٍ، بل إنّها تطوى المسافات السّرمدية طيّاً ، لتضرب فى عمق حياتنا الأولى وينابيعها البعيدة لتعايش كلّ عصر وزمان، هي التي أحالت أساطيرَ الأقدمين إلى عِلْم المحدثين ،إنّها تعبير أخناتوني عن توحيد الجزء فى الكلّ والعكس.إنّها مخلوق يدبّ على قدميْن، وليس للشّاعر عليها هيمنة ولا سطوة، لأنها ليست ذاته، ولا حياته، ولا تجاربه، ولا معاناته، ولا أحاسيسه وحده بل إنها ذوات وحيوات وتجارب ومعاناة وأحاسيس الوجود نفسه ،وما الشّاعر سوى جزء حيّ نابض من هذا الوجود.
قال"ستيفان مَالاَرْمِيه":" إنّ أرقى أنواع الشّعر هو الذي لا يرقى إليه الفهمُ سوى بضربٍ باهظٍ من الذّكاء والصّبر والمعاناة والمكابدة "، والقصيدة الجيّدة هي حوارٌ مع الكون ، ومناوشة دائمة له، وإستكناه لما وراءه. وتلك عملية صعبة ومركّبة تنطوى على مجازفة خطيرة لأنّها بداية إحتراق وكيّ، في تناوش وتشاكس وديمومة متجدّدة. الشّاعر دائمُ المقاومة والتحدّي ، شديدُ المراس،لا يُؤخذ جانبُه بسهولة ويسر. والشّعر ليس قصراً على التذوّق الفنّي، أوالإحساس المرهف ، أو التسامر أو الإنطواء أو الإنتماء. بل هو الإبداع هو التغيير وإعطاء صورة جديدة للعالم ،ومعانقة للآمال والآلام . الشّكوى عند الشّاعر حبّات متناثرة، وذرّات مبعثرة كأنّها كثبان رملية منهمرة على وقع هديرِ أمواجٍ عاليةٍ عاتية . الشّعر ليس هذراً طوّلت خطبه، بل هو لمح تكفي إشارته،وهو لا يمكن أن يُقال له شعراً إذا لم يهززْكَ عند سماعه، وهوفكر يبعث على التأمّل وإعمال النظر، بضربٍ من المعاناة، والنغوص والتوتّر، حيناً ، وبالخيال المجنّح ،والإسترخاء حينا آخر. والغربة عند الشّاعر تنويعات مختلفة حزينة مكلومة، والقصيد نبعٌ رقراق يتفتّق من أعماق النفس المحبّة العاشقة.
الشّاعر مرآة الرّوح
يرى الناقد "ساندرو كوهين " أنّ الشّاعر هو مرآة الرّوح في النفس البشرية. يعمل على تجلية وتنقية ما علق بها من صدأ وبلى وأدران. ويجعلها تشعر بالحنين إلى الحياة الأولى الحالمة الخالية من أيّ أثر للتيّارات المادية التي طغت وطبعت هذا العصر". كان الشّعر فيما مضى يُسمع ويُقرأ من طرف الرّجال والنساء،عندما بدأ الإنسان ينظمه بغضّ النظر عن الغناء أوالتقاليد ، إنّه منذ بضع عقود كان الناس يقدّرون مختلف الفنون الإبداعية وفي مقدّمتها الشّعر، ويواظبون على قراءتها . وإذا كانت إبداعات القرنين الماضيين شعراً ونثراً لم تحقّق مبيعاتها ما حققه بعض الكتّاب والشعراء اليوم. ذلك أنّ الذي كان يُشترَى منذ مائة سنة من كتب كانت تُقرأ،. وعلى العكس من ذلك أصبح التباهي اليوم ليس بالقراءة ؛ بل بإقتناء العديد من الكتب حتى وإن لم تقرأ . ويرى بعض الشّعراء أنّ الموسيقى، والرّاديو، والسينما، والتلفزيون،والإنترنيت ليس هناك من ريب أنها قد تسبّبت في تجميد وتشويه غلظة الحواس. ولا يمكن لهذه الوسائل برمّتها أن تنفلت أو تتنكّر لهذه القيم الجمالية.
قرّاء الشّعر
كثيرة هي العوامل التي أدّت إلى نقص في قراءة الشّعر، وجعلت من الصّعوبة بمكان وضع تفسير واضح لهذه الظاهرة. إلاّ أنّ هناك وجهة نظر الشّاعر الذي ليس له قرّاء كثيرون. إنّنا ما زلنا نستمع إلى أقوال مثل: "إنّ العالم قد أصبح فظيعاً لدرجة أنّه لم يعد هناك مكان أو وقت للشّعر" ! أو: " إنّها بكاملها ، طريقة مشيتها، حديثها، بل حتى طريقة جلوسها إنّما هي قصيدة حقيقية" ! . و" إنّ التهديد بالحروب، والجوع، والأمراض الفتّاكة يعمل على بعث الكآبة في أقلّ الشّعراء حساسية وشعوراً ". إلاّ أنّ ذلك ليس عذراً لهجر الشعر، لأنّ الشعر ليس فنّاً زخرفيّاً، ولا أداة من أدوات الزّينة والتنميق. فالشّعركان يُفهم عموماً في الغرب بأنّه حافل بالأشباح والأرواح والرومانسية والأحلام. ومردّ هذه المفاهيم إلى الفلاسفة الإغريق، إلاّ أنّه عندما ظهر أمثال"والت ويتمان" و"شارل بودلير" .و" أستيفان مالارميه" و" أرثور رامبو" فإنّ هذه المفاهيم بدأت تهتزّ، وطفق معها الشّعر السّحري الحالم يفقد رونقه وبهاءه. إنّ كلمات مثل الأيديولوجية، الإلتزام، النقد، التأمّل، إعمال النظر، والإستاطيقا قد أصبح لها من الإنسجام والتوافق والجمال الشّيء الكثير. كما أنّ هناك كوكبة من الشّعراء ما فتئوا ينشرون أعمالهم ، ويتركون آثاراً بليغة في قرّائهم. بل إنّ بعضهم قد خلّف مدارس وإتّجاهات شعرية خاصّة بهم، وهم بذلك إنّما ينثرون بذوراً لضآلة القرّاء. إنّ هجرهم للإستاطيقا بحثاً عن أنغام وموسيقى وقيم جديدة، إنما كانوا بذلك يُقْصُونَ القرّاء عن ناصية الشّعر.
أَزْمَةُ إبْدَاع أمْ أزْمَة تَلقّي ؟
عندما يذهب بعض القرّاء إلى الإستماع إلى الشّعر يعتقدون أنّه سيدور حول مناظر رائعة، و كبار رجال التاريخ أو قصص الحبّ الحالمة، أو بحثاً عن أساليب الإبداع المبتكرة ، يحدث هذا عندما لا يكون هناك ما ينبغي البحث عنه حقاً. هذا القارئ سرعان ما يبدأ في الشعور بالملل فيبحث له عن وسيلة أخرى للتسلية والتسرّى. إلاّ أنّ هذا الحكم مُجحف ، ذلك أنّ بعض الشّعراء الغربيين يعتبرون القارئَ غبيّاً ، ويعزون سبب فشلهم إلى الآخر. أي إلى ذلك اللاّمرئي والأقلّ إجتهاداً وهو القارئ. ويغيب عنهم أنّه إذا كان الشّعر لا يُقرأ الآن كثيراً، فقد لا يكون السّبب في القرّاء بل في نوعية الشّعر الذي أصبح يُكتب اليوم ومدى جودته. فأين لهؤلاء الشّعراء ما كان بين ستيفان مالارميه، وجون أسبيري، و فيسينسيو كارداريلي، وروبين بونيفاس، و ت. س إليوت، وأوكتافيو باث؟. إنّها مسألة ضآلة الشّعر الجيّد . الواقع أنّ ثمة تناقضاً غريباً ومحيّراً، ففي الوقت الذي كان فيه شعراء مجدّون ومجيدون، قد نجد العكس بالنسبة للقرّاء، والعكس صحيح أيضاً، لقد أصبح هناك تساؤل دائم حول ماهية الفنّ ودوره ، يتوازى مع البحوث العلمية والفلسفية في عصرنا. إنّنا لا نستطيع أن نستمرّ في الكتابة طبقاً لمعطيات لم تعد لها صلة بالهموم الإنسانية والقلق الذي أصبح يعتري إنسان العصر.
المُبْدِع الحَقِيقيّ
المبدع الحقيقي لا يحيد أبداً عن رغباته، وهواجسه، وهَوسه الإبداعي شعراً كان أم نثراً أم تشكيلاً. إنّه كلّما إزداد علماً بعالمه المادّي كلّما تعرّف أكثر على مدى ضآلته وصغره في الكون. وعظمة وجلال كلّ ما لا نعرف عنه شيئاً ، ولا نجرؤ على التفكير فيه، أو الخوض في غماره. إنّه لمن العبث أن نجد الحلول الجاهزة للشّعر الذي أصبح بمنأى عن الدّور الذي كان يضطلع به في العالم الإغريقي، واللاّتيني، والعربيّ ، عندما كانت مختلف العلوم تُكتب شعراً. ناهيك عن أغراض الشّعر الأخرى. فقد عمل الشّعر على إمتصاص جميع تلك المواضيع التي قد لا تجد لها مكاناً في الشّعر اليوم. كما أنّ الشّعر فقد إحدى خاصّياته وهي الشمول وأصبح أكثر تجزيئاً. فالكوميديا الإلهية "لدانتي " ( المستوحاة من رسالة الغفران للمعرّي) كانت تسعى إلى إقامة نظرة كونية منطقية متكاملة. كان "دانتي أليغيري" يريد أن يقول كلّ شيء في ملحمته. وكان الأرجنتيني"خورخي لويس بورخيس" يُعرب عن إرتياحه وإنشراحه عند ما يعثر على بيت واحد من الشّعر الجيّد الجدير بالقراءة في عمل مّا، ومثلما كان يُعاب على أبي تمّام أنّه كان يقول كلاماً لا يُفهم ،حيث كان الناس (القرّاء) يقولون له : لماذا تقول ما لا يُفهم..؟ وكان يجيب : ولماذا لا تفهمون ما يُقال؟!، فإنّ بعض الشّعر اليوم لم يعد يُفهم. ثمّ إنّه في نظر البّعض قد أصبح شبيهاً بقطعة فنيّة زخرفية، وكان الشّعر الحقيقي فيما مضى يُفهَم، ويُقرَأ،ويُستساغ بسهولة ويُسر.
ونعود لنذكّر ليس بما قاله " هيغل" عن الشّعر، بل بما أكّده " أوكتافيو باث" فى دفاعه ،وذوده عن هذا الفنّ الرّاقي البديع الذي عاصر الإنسانَ منذ الأزل، إذ يقول فى هذا القبيل : " لا خوف على الشّعر من الزّوال ، إنّه سيظلّ موجوداً ما دام للإنسان وجود على هذه الأرض"..!
* كاتب،وباحث من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا – (كولومبيا) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.