كنت محظوظا عندما سنحت لي الفرصة باقتناء ثلاثة أعداد خاصة من مجلة العربي إحدى أعرق وأشهر المجلات الفكرية والثقافية بالوطن العربي وشمال إفريقيا: عدد غشت 2007 الذي احتضن غلافه بمدينة أصيلة، وعدد مارس 2012 الذي يقدم طنجة، والعدد الكنز الذي تتوسط غلافه العرائش.. ولأن سياق التأهيل الموعود يقتضي التخلص من بعض السبات واليأس، اخترت قراءة بسيطة أولية بين ما قيل في أصيلة من طرف مستطلعي مجلة العربي، وما قيل منهم في حق العرائش، من باب فهم على فهم لواقع الحال، أو ربما سوء فهم لما لن نعيه أبدا ! نظرة على الغلافين منذ النظرة الأولى على الغلافين والعنوانين، كعتبتين للنصين المقصودين بالتعليق، ورغم الفارق الزمني بين المادتين الصحفيتين-ما يفوق ثلاث سنوات- إلا أن الأمر يظهر حاملا للدلالات والمعاني القصدية: السيدة على غلاف عدد أصيلة بابتسامة عريضة توحي بالفرح، تؤكدها عينان تشعان فرحا، بينما السيدة على غلاف عدد العرائش ببسمة تميل للانغلاق، أقرب للتحية الحذرة منها إلى الفرح، وهو ما تؤكده ملامحها الأقل انشراحا: صورتان رمزيتان للإحساس العام بالمدينتين والنظرة لمستقبلهما، أو على الأقل بالعرائش، حيث يصعب أن تكون بشوشا، في علاقة بأحوال المدينة، بعيدا عن الترحاب. لن أخوض كثيرا في الخلفية واللباس، وسأركز على العنوانين: موسم أصيلة لمسة السحر: السحر هنا دليل على التغيير، والتغيير الإيجابي الجذري، متناغما مع نفس الابتسامة العريضة السابقة. على مستوى العنوان الثاني: العرائش ميناء أندلسي على المحيط الأطلسي، عنوان يكتفي بالوصف التاريخي/الثقافي الجغرافي، دون أي تعليق، دون ثناء، دون إشارة، كأن الكاتب فهم اللعبة، لعبة الثبات، أو الضرر في مقابل الإمكانيات الكبرى، مما يمنع مفعول "السحر"، والسحرة ! في متن مقالين يرومان تقديم لمحة عن مدينتي أصيلةوالعرائش، في عددين مختلفين، كانت الأمور أوضح بكثير من الصور والعناوين.. تفاؤل وإحباط ! تمايزت لغتا الصحفيين محمد منسي قنديل وأشرف أبو زيد بشكل متماه مع الفوارق بين واقع المدينتين، أو هكذا ظننت، ولعلك قد تعتقد من فرط التماهي محمد قنديل أصيليا متفائلا، منتشيا بالثقافة والفن التشكيلي، وأبو زيد عرائشيا محبطا، غارقا في التاريخ والحسرة على ما مضى، لكن كليهما مصريان، لا يمارسان سوى الكتابة الصحفية من خارج الانتماء للمغرب، غير أن تأثيرا ما منح لخطيهما هذا الطابع الوجداني، على الأرجح تأثير أصحاب الشهادات والرواة، وطبعا تأثير المكان نفسه وما يلوح به، فكلا الصحفيين قاصان يتذوقان جيدا الأماكن في علاقتها بالاشخاص، وهما بارعان في نقل الأحاسيس.. التغيير الإيجابي في مقابل… كان الحديث حول الترميم والمضي نحو الأمام صريحا في مقالة أصيلة، الترميم والتجديد والتأهيل مصطلحات ترددت بصيغة التحول الإيجابي، تأكد الأمر حين حكى قنديل عن واقع الحال قبل بداية مهرجان أصيلة، حيث لم تكن هناك سوى ساحات المدينة الخالية، وكان قصر "الريسوني" في حالة يرثى لها ) …) ليصبح إحدى النقاط المضيئة في موسم أصيلة(…) ويتحول إلى تحفة معمارية حافظت على الطراز المغربي. بالمقابل، بدت لغة أبو زيد عن العرائش متحسرة ومنكسرة ودالة على التراجع، يقول: كانت الساحة(يقصد ساحة التحرير) بمنزلة بطاقة بريدية أندلسية مرسلة إلى سكان العرائش، لكن العمائر هذه ليست تحظى بما تستحق من ترميم واهتمام، والأغرب أن هذه الهندسة الموريسكية الجديدة مهددة بالانهيار، بل إن إحدى هذه العمائر قد هدم بالفعل، وشيدت أخرى محلها سدت فضاء البحر تعادي العمارة التي أقيمت محلها، فبدت نشازا هجينا. ويضيف: "أمام مقهى يسمى بالإسبانية (شرفة على المحيط الأطلسي)، وكأنه يصف العرائش نفسها، صحبنا دليلنا لنشاهد حصن القبيبات(نسبة لقبابه الصغار)(…)، أخذ حصن القبيبات عدة أسماء واستعمل كمستشفى مدني في عهد الإسبان، إلى أن امتدت إليه يد الإهمال فلم يبق منه إلا الأطلال." بنعيسى: عراب أصيلة، فمن عرابنا؟! في مقالة أصيلة أفرد الكاتب كلاما كثيرا عن بن عيسى، معتبرا إياه شخصية أحدثت ثورة في مسار أصيلة، وفي الإشارة لسيرته الماتحة من الأصالة والأدب والفن لمسنا توجيها نحو أهمية أن يكون المسؤول عن نهضة المدن التاريخية والثقافية والشاعرية مؤرخا ومثقفا وشاعرا، أو أحدها، لا تقنيا بنظارات "الإسمنت"، وطبعا وفيا لمدينته الأم، بن عيسى الذي كان يجول العالم ليعود أخيرا ل"زايلا" كما نسميها، محملا بمزيد من الرغبة في تطويرها. يقول قنديل أن أصيلة كانت هي الباب الضيق الذي اختاره بن عيسى ليدخل عالم السياسة، فقد شجعه زميل طفولته الفنان محمد المليحي على أن يرشح نفسه لانتخابات المجلس البلدي من أجل أن يفعلا شيئا لمدينتهما البئيسة ، ليؤكد غيرة بن عيسى وفهمه لمقومات أصيلة على لسان إحدى الشاهدين: كانت الأفكار التي طرحها بن عيسى مختلفة تماما عما هو سائد في ذلك الوقت، فقد طرح شعار الثقافة من أجل التنمية، وقد اختلف الكثير معه في ذلك الوقت(…)، وسوف يتبين بعد سنوات قليلة من إقامة المهرجان، أن هذا الشعار كان صحيحا، وكنا نحن على خطأ . أما في مقالة العرائش، فقد افتقد الكاتب فعليا لشخصية محلية صانعة للتاريخ، صحيح أنه قابل البروفيسور عبد الإله اصوادقة ابن المدينة رئيس جمعية عبد الصمد الكنفاوي آنذاك، الذي أعطى إشارات دقيقة عن أهمية الموروث العرايشي على مستوى الطعام الشعبي والثقافة الشفهية والفنون الشعبية بحس أندلسي على حد تعبير الكاتب، وأبرز مجهودات الفعاليات الجمعوية في التعريف بكل ذلك، إلا أن هذا الإسهام كان محصورا في سياقه بعيدا تماما عن الطابع التنموي التاريخي لمشروع بن عيسى. من التاريخ إلى استثمار التاريخ: التنمية وغيرها! عدد صفحات مقالة أصيلة 20(من الصفحة 36 إلى الصفحة 55) إذا استثنينا منها الصور يتبقى لنا 10 صفحات مكتوبة، وهو نفس عدد الصفحات المكتوبة بمقالة العرائش بعد القيام بنفس العملية. من مجموع الصفحات العشر لكل مقالة، يتحدث الكاتب عن التاريخ القديم والوسيط والحديث للعرائش في ما يقارب الأربع صفحات، أي قريبا من نصف المقالة، فيما لم يحضر التاريخ القديم سوى في أقل من صفحة واحدة من مقالة أصيلة، صحيح أن التاريخ ميزة لصاحبه يمنحه القدم والعراقة، غير أن الأهم هو أثر هذا التاريخ واستثماره، ومدى هيمنته حين يغيب بديله المعاش، وللأمانة، لا يمكن الجزم بأن خيار الإغراق في التاريخ القديم أو الوسيط مبني على خصاص في التاريخ المعاصر لمدينة العرائش على مستوى التطور التنموي، أم أنه ارتكز على خط الكاتب وتوجهه، لكن الشح التنموي الفعلي للمدينة يجعلنا نؤكد هذه الفرضية، بخلاف أصيلة، التي استطاع مهرجانها المسمى بموسم أصيلة لوحده صنع تاريخ تنموي معاصر للمدينة منذ انطلاقه سنة 1978، المهرجان الذي أخذ بعدا إفريقيا ودوليا، رافعا من معدل السياحة الداخلية والخارجية بشكل لافت، كما استطاع جلب عدة مشاريع تنموية من خلال الترويج للمدينة، عبر هبات وعدة اتفاقيات شراكة مع مؤسسات خليجية، في حين لم يجد كاتب مقالة العرائش من نموذج تنموي واضح، فتوسع في تاريخ الدول المارة على حوض اللوكوس ومرحلة الحماية الإسبانية وغيرها، أو هكذا ظننت ! التربية على التنمية: أمل في المرايا يورد كاتب مقالة أصيلة ما يدل على مفهوم التنمية في علاقته بالمواقف والسلوكات، فيقول معلقا على بعض ورشات مهرجان أصيلة: توافد على شوارع أصيلة عشرات الفنانين المغاربة الذين شرعوا على الفور في اختيار بعض جدران المدينة ورسم اللوحات الملونة فوقها، اكتشف سكان المدينة فجأة أن هناك بعدا جماليا قد أضيف إلى حياتهم، تأمل الجميع الرسوم في دهشة، وامتنع الأطفال عن وضع أي نوع من الشخبطات على الرسوم كما يفعلون ذلك في العادة، وبدأ الجميع، كبارا وصغارا، اعتبار أن هذه الأعمال الفنية ملك لهم ومن واجبهم الحفاظ عليها. إنها إشارات واضحة لتبني السكان وأهل البلد للرؤية التنموية للمدينة المرتكزة على تثمين الموروث الفني والثقافي والتسويق له عبر مهرجان المدينة السنوي، تبنٍ جماعي موحد انطلق من إرث تربوي فني، يحكي عنه الفنان يوسف الخرازي الذي نشأ منذ طفولته في أصيلة : كنت أحلم أن اكون واحدا من فناني أصيلة منذ أن كنت صغيرا أعيش بين الفنانين، أساعد في مزج الألوان ، وتنظيف الأدوات، وتعلمت كيف أعبر عن نفسي باللون في وقت مبكر، وعندما كبرت وذهبت لدراسة الفن في الخارج، كنت حريصا على العودة. هكذا استطاعت أصيلة أن تنتج جيلا تربى على ربط تنمية المدينة بمقوماتها عارفا بإمكانياتها، غيورا عليها، في مقابل العرائش التي يصف الكاتب بحاريها بأن وجوههم غير مستبشرة، كان هناك ألم ما، على حد تعبيره دائما ، غابت إشارات تربية/تكوين على فهم ممتد لمقومات المدينة من طرف شبابها المتعطش للحياة، باستثناء إشارة واضحة في نهاية المقالة، يعلق فيها أبو زيد على أغنية إسبانية لخوليو إجلسياس، فيقول: هنا كل يغني على(مانويلاه)؛ الشباب العائد من أوربا في إجازة لبلده العرائش ؛ عودة مؤقتة من الهروب للأفضل.. مشروع محلي.. الأمل المنشود في مدخل مدينة العرائش، يصف أشرف أبو زيد المشهد ببراعة قاص متمرس ومستطلع تشبَّع روح المكان، يقول: يبدو أن الأحلام الوردية لن ترافقنا على طول الطريق، فقبل دخولنا المدينة، وعلى تخومها التي تتماس مع الوادي والمحيط، برزت عشوائيات المباني المشيدة على هضبة أخرى، كانت بيوتا لها من كل الألوان نصيب. لم يكن التضاد اللوني إلا بلاغة الشتات الذي يسكن المدينة اليوم. ، الشتات في التصور، في الرؤية، كما أضمر أبوزيد في ثنايا قصديته بشتات النسيج السكاني والأنساق المعيشية، والشتات كما نعرفه جميعا، حينما غاب مشروع يجمع الكل، وضاع الأمل أو يكاد. على النقيض، وبدل الإضمار، يصرح محمد قنديل بانبهاره بتجربة أصيلة، بفقرة قد يحب أي أصيلي قراءتها بصوت مرتفع، يقول: " "تتحول أصيلة لتصبح تجربة فريدة في التنمية عن طريق الثقافة، ويتحقق حلم كان مستحيلا، وربما كانت البداية من خلال حلم رجل وميراث مدينة ومؤازرة صديق، ولكن الفكرة اتسعت لتكون حلما جماعيا لكل المثقفين المغاربة الذين آزروا أصيلة بمواهبهم وإبداعاتهم وأضافوا إليه الكثير، لقد حولوا أصيلة الغيرة إلى تجربة جديرة بأن تحتذى في كل مدننا العربية، فالتنمية لم تقتصر على المؤسسات فقط لكنها تحولت إلى سلوك حضاري أصيل يتمتع به أهل المدينة" . في هذا المقطع بالذات، يظهر البون شاسعا في خطاب مستطْلِعَين لمدينتين متجاورتين، تتميز إحداهما بمشروع تنموي محلي واضح، لا يعني بالضرورة حل كل المشاكل الاجتماعية والحضرية، لكن على الاقل هناك رؤية تنموية تعتمد على المقومات المحلية، وتمتح من الإرث الفني الثقافي الذي صنع وعيا جمعيا، في حين ظهرت المدينة الأخرى غارقة في تيهها، رغم ما تحمله من إرث تاريخي طويل ومقومات أفرد لها الكاتب صفحات عدة. على سبيل الختم لا يتعلق الأمر بقراءة منضبطة لمعايير القراءات العلمية في المقالات، ولا محاولة لتحديد قطعي لواقع لمدينتين على ضوء مقالين محدودين في الزمن وفي السياق، ويرتبطان طبعا بآراء ورؤية كاتبيهما، إنما كانت محاولة لتلمس بعض الدروس والأفكار، على رأسها الشخصية المحلية/الوطنية الغيورة التي استطاعت استثمار فهمها لمقومات مدينتها لترتكز عليها للنهوض بها، ودخلت المجال السياسي لتحول تصورها لحقيقة، وفق إرادة مصرة على التغيير الإيجابي. من أهم الدروس كذلك تملُّكُ مشروع تنموي محلي واضح المعالم، موسم أصيلة فكرة بسيطة انتقلت بالمدينة من مستوى لآخر، لا يعني ذلك تحويها لمدينة نموذجية، لكن على الاقل هناك رؤية واشتغال على معالم المدينة التاريخية بلمسة فنية، بانفتاح على العالم الخارجي، ولا أعتقد أن العرائش تنقصها الأفكار، ولا المعالم والفن وغيرهما، ما ينقصنا فرصة، للتاريخ، وإرادة، سياسية، وجمعية.. كلاهما ! الهوامش: 1) موسم أصيلة لمسة السحر، محمد المنسي قنديل، مجلة العربي، العدد 598، أغسطس 2008، ص 40 2) العرائش: ميناء أندلسي على المحيط الأطلسي، مجلة العربي، العدد 636، نونبر 2011، ص 49 3) نفسه، ص63 4) موسم أصيلة لمسة السحر، محمد المنسي قنديل ، مرجع سابق، ص43 5) نفسه، ص44 6) نفسه، ص44 7) نفسه، ص50 8) العرائش: ميناء أندلسي على المحيط الأطلسي، مرجع سابق ، ص 46 9) نفسه، ص63 10) نفسه، ص40 11) موسم أصيلة لمسة السحر، محمد المنسي قنديل ، مرجع سابق، ص 55.