كل شيء جميل في الكون يمكن أن تعبر عنه الرياضيات أو تكاد، وأغلب ما لايمكن التعبير عنه بمتتالية من المقولات المنطقية لا جمال فيه. جوهر الرياضيات هو ذلك الخيط الناظم بين مباحث قد تبدو متباعدة ، هو الخيط الذي يجمع مثلا بين نظرية الأعداد ( منذ البدايات مع الأرقام الصحيحة ، الجمع والطرح والضرب) والطوبولوجيا التي تبلورت كفرع من الرياضيات في القرن العشرين. فهل يكون هذا الخيط الناظم هو ما عبر عنه أفلاطون قبل أربعة قرون من الميلاد تقريبا حين قال إن الرياضيات ممثلة في الهندسة بالخصوص هي في النهاية أداة لفهم الواقع ولفك أسرار الكون، كل أسرار الكون، بما يجعل الرياضيات أكبر من تخصص علمي؟ أم أن هذا الخيط هو ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي المعاصر ألان باديو Alain Badiou حين قال في كتاب " الاحتفاء بالرياضيات"، إن ما يجذبه للرياضيات هو ذلك "الجمال النهائي" الذي يتوج مجهود البحث عن حل لمسألة ما. لقد ذهب الفيلسوف الفرنسي إلى حد الدعوة إلى جعل الرياضيات، على غرار الفنون الجميلة والسينما ، جزء من الثقافة العامة للشعوب وتجاوز ما وصفه ب النظرة " الارستقراطية " التي ينظر بها المشتغلون بالرياضيات إلى مجالهم . إنها دعوة فيلسوف لم يتنكر للماركسية حتى بعد سقوط جدار برلين ، لجعل الجمال مشاعا. جمال كامن و"جمال" الرياضيات جمال متفرد ، ولعل من أبرز تجليات هذا التفرد هو أنه "جمال" عابر للحضارات والانتماءات والعقائد. فلا يجد الأوروبي المسيحي حرج ( ولا بد) من الاستناد على ما أنجزه مسلم، ولا يشعر أمريكي تتصدر بلاده بلدان العالم قوة واقتصادا وعلوما، بأي نقص وهو يسابق أو ينطلق مما أبدعته عبقرية هندي أو نيجيري أو باكستاني أو سويسري في حل معادلة أو في وضع برنام ( برنامج معلوماتي) أو في البرهنة على قاعدة قد تفك لغزا فيزيائيا وصناعيا . بل إن العالم أجمع أصبح في مطلع القرن ال21 وبدون حرج، وربما بدون اختيار أيضا، رهينة ل" خوارزميات" سميت على اسم نابغة عاش في منطقة مازالت تبحث اليوم عن موطئ قدم في عالم المنطق وعلى خارطة التقدم العلمي الراهن (محمد بن موسى الخوارزمي). من"جمال " الرياضيات أيضا أن البحث فيها أو الخوض فيها لا يحتاج إلى بنيات تحتية مكلفة، وهو علم يتساوى فيه ( على الأقل في جانبه الأساسي النظري) فقراء وأغنياء العالم ، إنه "جمال" أصيل غير مزيف وبالتالي لا يحتاج إلى إضافات مكلفة أو غير مكلفة. وجمال الرياضيات جمال كامن، بمعنى أنه جمال لم يقم على الرياضيات بل إن تحليل كل ما هو جميل يحيل على الرياضيات وليس العكس . ليس بمقدور كل عالم رياضيات مهما كان عبقريا أن ينتج جمالا محسوسا لغيره لكن كل جمال محسوس ( مسموع أو مرئي ) يحوي منطقا رياضيا. جمال محسوس قد يكون من العبث أن تسأل نساجة الزربية المغربية الأصيلة عن قواعد الهندسة الإقليدية ، لكن إمعان النظر في أي تحفة مما تنتجه أناملها يحدثك عن الهندسة. قد لا تعرف أغلب النساجات مسلمات إقليدس الهندسية لكنها تنسج على مساحة الزربية أشكالا توحي كل بأكسيوم من أكسيوماته الخمسة. فالنساجة المغربية وهي تبدع في قرية معزولة تجعلك مثلا ترى كيف أنه من الممكن رسم مستقيم بين نقطتين، بل إنها تجعلك بعبقريتها ترى كيف أنه من الممكن مد مستقيم بشكل غير متناهي خارج رقعة الزربية. الرياضيات في هذه الحالة فطرة وربما لذلك سمى أقليديس ما توصل إليه بالمسلمات (الأكسيومات) التي كان القبول بها شرطا لتقدم الهندسة ومعها الرياضيات. أما الموسيقى فإنها وإن كانت إبداعا إنسانيا فطريا يعتمد الذوق قبل المنطق فإنها تقوم على جمال خاص لا يمكن أن يتمنع على الرياضيات. غير أن علاقة الموسيقى بالرياضيات قد تتجاوز جمال تعبر عنه الرياضيات ، سواء عبر ترقيم السلم الموسيقي نفسه لتحديد سرعة المقطوعة الموسيقية مثلا، أو النظرية الموسيقية الهندسية، ( تتجاوز ذلك) إلى علاقة أكثر "حميمية" . فبعض المصادر تذهب إلى أن البذرة الأولى للوغاريتم ظهرت في رسالة الفارابي "المعلم الثاني" ( بعد أرسطو) عن الموسيقى. يقول المستشرق الفرنسي كارا دي فو (Carra de Vaux)، كما جاء في كتاب "تراث الإسلام"، إن الفارابي كتب رسالة في الموسيقى نجد فيها" أول جرثومة لفكرة (اللوغاريتم)، ومنها نعرف علاقة الرياضيات بالموسيقى". وتذهب زغريد هونكه Sigrid Hunke المستشرقة الألمانية صاحبة كتاب " شمس العرب تشرق على الغرب: أثر الحضارة العربية في أوروبا"،في الاتجاه نفسه وتؤكد أن اهتمام الفارابي بالموسيقى ومبادئ النغم والإيقاع جعله قاب قوسين أو أدنى من علم اللوغاريتم الذي يكمن بصورة مصغرة في كتابه عناصر فن الموسيقى. الرياضيات..جمال خارج قبضة الزمن في أواسط التسعينيات ، أي عندما كان العالم على أبواب القرن الواحد والعشرين، شهد عالم الرياضيات حدثا مهما فقد تمكن أندرو ويلز عالم وأستاذ الرياضيات بجامعة أوكسفورد من البرهنة على ما كان حتى ذلك الحين يعرف ب"حدسية" فيرما في نظرية الأعداد . والحدسية عبارة عن مقولة رياضية لا يمكن دحضها لكن في المقابل لا تتوفر برهنة عليها. منذ ذلك الحين أصبح الرياضيون يتحدثون عن " المبرهنة الأخيرة لفيرما" أو مبرهنة فيرما-ويلز ( théorème de Fermat-Wiles). من يكون "فيرما" ؟ إنه رجل قانون فرنسي وخبير موسوعي ومنشغل بالرياضيات ولد في العقد الأول من القرن السابع عشر. كان فيرما شاعرا أيضا لكنه كان شديد الاهتمام بالعلوم، وله مساهمة شهيرة في الفيزياء تتمثل في مبدأ فيرما في البصريات. حدسية فيرما، التي دونها على هامش ترجمة من اليونانية إلى اللاتينية، ستنتظر ثلاثة قرون تقريبا قبل أن يعمد أستاذ في جامعة أوكسفور إلى البرهنة عليها وكأنه يحاور "فيرما" عبر آلة الزمن. أصبح اسم ويلز يجاور اسم فيرما مع أن الفارق الزمني بين عصريهما شهد أحداث غيرت وجه الكوكب والعلوم . جمال الرياضيات عابر للحضارات والمعتقدات والهويات، وهو أيضا عابر للأزمنة. يؤكد الرياضيون أن مبرهنة فيرما فتحت سبلا جديدة للبحث في نظرية الأعداد، والفضل فيها يعود لرجل عشق الشعر والرياضيات في القرن السابع عشر وباحث خصص أكثر من ثماني سنوات للبرهنة على ما صدر عن حدس قبل ثلاثة قرون. إنه مظهر آخر من جمال الرياضيات. الرياضيات والفلسفة هل التجريد الفلسفي هو الذي فتح الباب أمام التجريد الرياضي لدى الإغريق أم العكس تماما؟ يصعب الحسم في هذا السؤال الذي سيظل ملتبسا التباس العلاقة بين الرياضيات والفلسفة. هذا الالتباس في العلاقة قد نلمسه لدى الشخص الواحد خصوصا إن كان فيلسوفا وممارسا للرياضيات عن عشق مثل ألان باديو. يقول وهو يحتفي بالرياضيات " العلاقة بين الرياضيات والفلسفة تعود إلى بدايتهما معا إلى درجة أن عدد من أشهر الفلاسفة، أفلاطون وأيضا ديكارت وسبينوزا وكانط وسيرل، أكدوا بشكل قاطع بأنه لو لم توجد الرياضيات لما كانت هناك فلسفة " ويضيف" الرياضيات اعتبرت منذ وقت مبكر، أي منذ الإغريق عالما يتم فيه تداول الأشياء التي تعتبر صحيحة ومبرهنة شريطة قبولها والمصادقة عليها من طرف جماعة " العارفين" وليس فقط بناء على سلطة ما لمن قد يوصف ب" رياضي"( عالم الرياضيات) . لكن الفيلسوف ما يفتأ أن ينتصر داخل ألان باديو فلا يتورع عن القول في لقاء مع إذاعة فرنسا الثقافية ( france culture) " ولكن هناك في الرياضيات بعض الخلاصات التي ظلت ولمدة طويلة تبدو غريبة ومتناقضة (..) اليوم مثلا أقول لنفسي : كيف أنه لا يوجد أي قاسم لعدد أولي كبير جدا؟ أعرف أن هذه حقيقة، أعرف أن الأمر كذلك فعلا، ولكن عندما نقف عند المقولة الخام نتفاجأ بعض الشيء." العلاقة بين الفلسفة والرياضيات قائمة حتى وإن اختلف تحديد السابق عن اللاحق من بينهما ، بل إن أفلاطون أشهر فلاسفة اليونان نفى أي التباس في هذه العلاقة حين دفع بالرياضيات إلى عالم المثل، و" حررها " من شروط العالم الفاني. ففي كتابه نقرأ "ليست مهمة العلم الرياضي خدمة التجار في البيع والشراء كما يعتقد الجهال، بل تيسير طريق النفس في انتقالها من دائرة الأشياء الفانية إلى تأمل الحقيقة الثابتة الخالدة". وكان أفلاطون بذلك يؤرخ أيضا لانتقال الرياضيات من كونها أداة لتلبية حاجة اقتصادية وتجارية في الحضارات الشرقية القديمة ( المصرية والبابلية) إلى علم تجريدي في اليونان أرض الفلسفة. هل استمرت هذه العلاقة بين التفكير الفلسفي والرياضيات؟ ألان باديو يؤكد أن الطلاق بين الرياضيات والفلسفة لم يحدث إلا مع ظهور "الفلاسفة الجدد" الذين صنعتهم وسائل الاتصال الجديدة، والذين لم يتورع عن القول في حقهم " إن هؤلاء (الفلاسفة) كانوا سيعتبرون بمنطق الرياضيات من التلاميذ المتوسطين جدا في البكالوريا ". لماذا ؟ لأنه في الرياضيات لا مكان للمدعين يجزم الفيلسوف الذي رأى النور في أحد أيام يناير سنة 1937 بالرباط. "والفلاسفة الجدد" بهذا المعنى هم أولائك الذين حالوا بين الفلسفة وبعدها الميتافيزيقي بذريعة " التخصص" الشديد في محاولة لمسايرة ما تشهده العلوم التجريبية بشكل خاص.