لن أعود في هذه العجالة إلى تاريخ الاستعمار الصهيوني والمآسي التي تولدت عنه، كما أني لن أرجع الى المواجهات التي رافقت ذلك بين العرب والكيان الغاصب، كما أني لن احاول التأريخ للمقاومة، وكذلك المجازر التي ارتكبتها الأيادي الصهيونية الملطخة بدماء الأبرياء الجماعية أو عبر الإغتيالات. كل ذلك يحتاج إلى مجهود أكبر يجب ان تتكفل به مؤسسات وليس مساهمات افذاف رغم أهميتها. يتجلى كل طموحي في هذه المساهمة في محاولة اقتراح مقاربة تغربل الوقائع والأحداث والنوايا والمقاصد من أجل رؤية ملائمة لا تخلط بين تقرير الوقائع والحكم عليها وبين البقاء على المستوي الدعوي الساذج والذي ينطلق من الثنائيات المعهودة، خير وشر، عدو وصديق، بل محاولة الفرز وفق الملابسات التي تحيط بواقع جد مركب ومعقد. تتمحور هذه المقالة حول فكرة مفادها تعقد الواقع وتعدد وتداخل الرهانات والملابسات، الميدانية والفكرية والاستراتيجية التي ترتبط بآخر تصفية للاستعمار في هذا القرن، تعقد الملابسات يستدعي الفهم العميق والتحليل المتشعب والمركب والحكم الحكيم. مغربية الصحراء حق، والدفاع عنه ليس واجبا وطنيا فحسب، بل هو نوع من العمل على تصحيح المسار التاريخي الخاطيء الذي كرسه الاستعمار بنزع أراض من بلدان وضمها لما كان يعتبر اقليما فرنسيا. في حالة الصحراء المغربية الأمر واضح وضوح الشمس إذ يكفي العودة لمرحلة ما قبيل الاستعمار فحسب، ليتأكد كون الصحراء الغربية والشرقية على حد سواء كانتا دوما أراضي مغربية على أعناق ساكنتها مسؤولية عقد البيعة للسلاطين المغاربة. استقلال فلسطين أيضا حق، ومساندته واجب انساني وأخلاقي. وهو أيضا لا يحتاج إلى العودة للسرديات الأسطورية كما يفعل الصهاينة بل فقط بالعودة إلى ما قبل الانتداب البريطاني، بل وحتى أثناءه للتأكد من وجود الفلسطينيين على أرضهم، وكيف بدأت المؤامرات الصهيونية والإمبريالية من الدعوة إلى كيان خرافي كان سيكون في أمكنة أخرى غير فلسطين. ثم توالت أحداث جسام انتهت باعتراف الأممالمتحدة بالدولة الصهيونية في ظروف كانت فيه جل الدول العربية مستعمرة، ثم تزحزح الأمر الواقعي بانهزام العرب وتغول الصهاينة نحو تجاوزات لا تنتهي. فكان لابد أن يعتمد أصحاب القضية على انفسهم في المقاومة كما في أي استعمار، بل وأشد لأن الصهيونية تطمح لما هو أفدح وهو أسطورة الأرض من النهر إلى البحر. أما بالنسبة لدولة إيران فيجب التقرير على كون مرجعيتها دينية ماضوية و رجعية، واعتماد هذا النظام الدين من أجل الدفاع عن مصالحه توجه توسعي وحنين للأمبراطورية الفارسية القديمة، ولو تمظهر بالدفاع عن الفلسطينيين والمقدسات الاسلامية. ثم إنه نظام يقوم بذلك أولا بعد الثورة التي أوصلت إلى ولاية الفقيه كأيديولوجيا حبسته في الولاء العاطفي لخطاب المظلومية من جهة ومعاداة الغرب من جهة ثانية، وكذلك لما تخلت الأنظمة العربية التي لا تقل رجعية عن مساندة الكفاح الفلسطيني مكتفية بالعمل على المحافظة على الكراسي وتكريس التخلف المريع الذي كان من الممكن أن تساهم الثروات النفطية في زحزحته، أما نتائج الحكامة الثيوقراطية فقد أبانت عن هشاشتها في الاختراقات والاغتيالات الأخيرة في صفوفها، وحتى في الاختلاف الكبير بين آثار التدخل الصهيوني وآثار التدخل الإيراني العسكريين رغم بعض النجاح الذي أحرزه حزب الله على الأرض. بالنسبة لرعاية أمريكا لإسرائيل فهي استراتيجية رأسمالية تحالفت حولها المصالح المشتركة للشركات المتعددة الجنسيات بمرجعية دينية تتحالف فيها الأجنحة اليهودية والمسيحية العنصريتين من أجل إقصاء كل الأديان والثقافات الأخرى في الشرق الأوسط وافريقيا وآسيا. من يقاوم في فلسطين الآن ليس الفصائل التي تعتنق المرجعية الحداثية، وإنما المعتمدة على العقائد الشعبية البسيطة، لأنها الأنفع في التعبئة، وهو الأمر الذي تستغله إيران، كما يفعل المحافظون الجدد تماما في الغرب والولايات المتحدةالأمريكية خاصة. ورغم ذلك فالحرب الأخيرة على غزة وهمجيتها أتت أكلها في زحزحة الرأي العام الجماهيري العالمي لأول مرة لصالح القضية الفلسطينية، ونزع التعاطف الذي كان لا مشروطا للكيان الصهيوني وفق الوعي الشقي للغرب من أجل التكفير عن المحرقة ولو بإبادة شعب. أما الحداثيون في الفصائل الفلسطينية فقد انزوت إما إلى قبول الأمر الواقع أو تجميد المبادرة. بالنسبة للمغرب فلما يتجاوز أي فصيل من أي موقع أو من اي جهة الخطوط الحمراء للحقيقة في قضيتنا الوطنية فيجب ان توضع له حدودا. هذا الواقع المعقد لا يدع التحليل يكون باردا بالانتصار أو عدم الانتصار الحاسم و بعيد المدى لموقف دون آخر. فكما في أي شيء في الحياة ليس هناك اتصال كل شيء بكل شيء، يجب أن تكون الملاحظة والتقرير، ثم الحكم في القضية الفلسطينية مركبا، بمعنى أن الثابت الوحيد هو استقلال الأرض واعلان الدولة الفلسطينية ذات السيادة، وأن اساليب الدفاع عن هذا الحق متعددة كما في كل القضايا الكبيرة والمعقدة. مع انتظار أي رد فعل في أي لحظة يمكن أن ينتجه اليأس والاحباط من أجل التعبير على أن القضية مازالت حية ولا يمكن تصفيتها بين أطراف انتهازية تريد أن يقفل الملف بتزكية الأمر الواقع وليس وفق حلول ترضي الأطراف وتكون مستدامة وفق حل الدولتين. أن تختلف مع حماس ومع حزب الله في المرجعية والحكامة لا يعني أن تقفز إلى الطرف الآخر الغاصب، فما يفعله المقاومون الميدانيون يصعب للمحلل البارد أن يبث فيه حكما وتوجيها نحو موقف نهائي، فهم أدرى بما ينفع وما لا ينفع، وهم من يتحملون مسؤولية الانتصار وكذلك الاندحار، مع التنويه بالتضحيات الجسام التي يقومون بها خاصة بالأنفس، أما الآثار على المدنيين العزل والشيوخ والأطفال والنساء فلا يتحملها في المنتهى سوى المستعمر كما في أي استعمار. ولو كان الأمر حالة سلم وسيادة لكان التحليل أمرا آخر حتى تتم الاستقطابات الايديولوجية، إما نحو التحديث والعقلانية والحداثة، أو التراثوية والماضوية، وحتى في هذه الحالات باعتبار الملابسات الميدانية. في الأخير هذا رأي يحتمل الخطأ، لأن العبرة هنا ليست بالبراهين المنطقية، ولا حتى بالتجريب الميداني، بل بالنهايات. ليبقى الرأي نفسه كما في أي معركة عندما ندخلها يجب أن ننتظر المآلين، الانتصار أو غيره. وتبقى العزة والمجد دوما للشهداء.