في مداخلة فكرية، طرح الصحفي والأكاديمي إدريس كسيكس رؤية نقدية عميقة حول مفهوم "الاستعمار الثقافي" و"التفكيك الديكولونيالي"، مؤكدا أن الاستقلال السياسي لا يعني أبدا نهاية التبعية الفكرية أو الرمزية، بل على العكس، فإن "تفكيك البنى الاستعمارية" هو مسار ممتد ومعقد، يحتاج إلى مراجعة جذرية للمفاهيم والمعارف والنماذج التي حكمت فضاءاتنا التعليمية والثقافية منذ عقود. منذ البداية، يحدد كسيكس ملامح الإشكالية قائلا: "الديكولونيالية ليست لحظة تاريخية، بل هي سؤال مستمر". بهذا التوصيف، يرفض اختزال الديكولونيالية في حدث تاريخي مثل استقلال البلدان، موضحا أن الاستقلال الإداري والسياسي لا يعني بالضرورة التحرر من البنى الفكرية والمعرفية التي زرعها الاستعمار واستمرت المؤسسات في إعادة إنتاجها. ويؤكد أن هذا الاستقلال الشكلي لا يمنح بالضرورة "الاستقلال المعرفي"، بل قد يُبقي على البُنى التي تنتج التبعية والتهميش والاختزال. ورد ذلك خلال نقاش فكري، ضمن فعاليات الجامعة الربيعية التي نظمها حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي بمدينة الجديدة، يومي 18 إلى 20 أبريل الماضي.
من بين أبرز المحاور التي طرحها كسيكس، تركيزه على مسألة "تفكيك البُنى المعرفية والرمزية"، موضحا أن المسألة الثقافية لا يمكن فهمها دون المرور من بوابة هذا التفكيك. قال بوضوح: "المعرفة أُغتيلت. نحن ضحايا اغتيال معرفي"، مشيرا إلى أن النماذج المعرفية الغربية فرضت نفسها باعتبارها عالمية، بينما همشت وسحقت التجارب الثقافية والمعرفية الأخرى، خصوصا في الجنوب. ويستحضر كسيكس هنا مقولة معبرة بأن الاستعمار "لم يترك فقط جيوشا أو قوانين، بل رسخ بنى رمزية في المخيال والتمثلات"، وهو ما يتطلب مراجعة عميقة لمسارات إنتاج المعرفة وطرق تدريسها وتوزيعها. في هذا السياق، يؤكد: "المشكل أن مؤسسات إنتاج المعرفة في بلداننا لا تزال تستبطن القيم الغربية وكأنها مرجعية كونية لا تقبل المساءلة". ولم تخلُ مداخلته من تفكيك علاقات القوة في المشهد الثقافي المغربي تحديدا، حيث قال بنبرة ناقدة: "لا زلنا لم نشتغل في المغرب على علاقتنا بالعنصرية البنيوية، بالتفوق الأبيض، وبتاريخ الهيمنة الرمزية"، مشيرا إلى أن "البلانشيتي"، أي رمز التبييض والتغريب، ما زال ماثلا في النماذج التعليمية والتمثلات العامة، حتى داخل النخبة ذاتها. في موضع آخر من مداخلته، عرج كسيكس على مفارقة شديدة الدلالة، حين قال: "لدينا في المغرب 92 قاعة سينما، لكن 45 منها فقط تشتغل، ولدينا 27 مليون مغربي على فيسبوك، و20 مليون على تيك توك"، في إشارة ساخرة إلى التناقض الصارخ بين ضعف البنية التحتية الثقافية من جهة، والانفجار الرقمي من جهة أخرى، دون أن يعني هذا بالضرورة تطورا في الحس النقدي أو الوعي الثقافي. وعلق ساخرا: "نحن مجتمع قوي على تيك توك، وضعيف في الفضاء الثقافي العام". أما على صعيد التفكير في الجماليات والإبداع، فقد دعا كسيكس إلى إعادة النظر في مفهوم "الجمال" نفسه، مؤكدا أن الجمال ليس ما يُفرض من الأعلى، ولا ما تُمليه الذائقة الاستعمارية أو المهيمنة، بل هو ما يخرج من تربة التجارب المحلية والتمثلات الشعبية. وقال: "الديمقراطية الثقافية تقوم على الحرية، والتعددية، ودولة الحق والقانون"، في إشارة إلى أن الانخراط في مشروع ثقافي تحرري لا يكتمل دون سياسات تضمن حرية التعبير والتعدد في الفضاء العمومي. وتوقف كسيكس طويلا عند مفهوم "الصناعات الثقافية"، التي اعتبرها، من حيث النشأة، نتيجة لمنظور اقتصادي محض، ظهر أول مرة مع مؤتمر "مونتريال" ثم ترسخ مع "توني بلير" في بريطانيا ضمن منطق "الاقتصاد الإبداعي". لكنه حذر من تسليع الثقافة وتحويلها إلى "منتج خاضع لرقابة السوق"، مؤكدا أن "الرقيب لم يعد سياسيا فقط، بل اقتصاديا أيضا، عبر لجان الانتقاء والتمويل والمهرجانات". وأضاف: "الثقافة الشعبية لم تعد في المركز، بل صارت في الهامش. والمشكل أن الجمهور لا يُعتبر شريكا في الإنتاج الثقافي، بل مجرد مستهلك". من هنا، دعا كسيكس إلى إشراك أوسع للجمهور بوصفه فاعلا في إنتاج المعنى، وليس فقط متلقيا سلبيا، وهو ما يتطلب تغييرا جذريا في السياسات الثقافية والبرامج التعليمية والمنظومات الإعلامية. ولم ينسَ أن يُنهي مداخلته بتحذير من "الرأسمالية الإغرائية" التي تُفرغ الثقافة من بعدها النقدي والفكري، وتحولها إلى مجرد استهلاك عابر. قال بنبرة حاسمة: "لدينا ثقافة تشغل الناس ولا تُشغل عقولهم"، معتبرا أن التحدي الحقيقي اليوم هو في إعادة الاعتبار للثقافة كأداة للتحرر، لا كوسيلة للترفيه والتشتيت.