هل خدعونا حين قالوا "نكبة" قبل ثمانية عقود؟ ظننّا أنّها مصيبة ألمّت بنا، وانتهت بنكسة أكملت الانهيار. وحين حاولنا أن نصرخ، سجّلنا صرختنا في "يوم الأرض"، فجعلنا من الغضب ذكرى. ثمّ شكّلت الانتفاضة قاموساً نقرأ به واقعنا، ونقيس به زمننا، ونُعرّف وجودنا بانتفاضات تتكرّر بعد كل فيض من تراكمات القمع. وكأنّ أعظم ما يمكن أن نفعله هو أن ننتفض، فننفض عن خصومنا غبار فجيعتنا بأنفسنا. تراكمنا على أنفسنا حتى صارت النّكبة استمراريّة لا انقطاع فيها، تبرّر ردود فعلنا، وتشرعن قدرتنا العجيبة على التحمّل، وتُخدّر وعينا لنواصل التحامل على واقع يتآكل من كلّ اتجاه. لم تكن تلك نكبة حملناها على ظهورنا كإرثٍ معلّق، ننتظر البتّ فيه أمام محاكم عدالة مؤجّلة. كانت طامّةً كبرى، كارثةً لا تهدأ حتى تعود نازلةُ أخرى، مروّعة، تُفجع بها القلوب، "لا تُبقي ولا تذر." النكبة كانت مجرّد فصل أوّل. ما نعيشه اليوم هو ذرْوتها، في كارثةٍ يوميّة تشهد علينا في غزّة. حيث يتحوّل الشعب إلى لاجئٍ مزمن، والوطن إلى ذكرى، والحقّ إلى ملفّ قابل للتطويع… تحت مسمّى التفاوض. خدعونا حين لملموا طامّتنا في كلمة "نكبة"، وحين اعتدناها، وحدّدنا لها ذكرى، فُجعنا بما هو أعظم: طامّة كبرى تتجلّى في غزّة، لا تشبه ما مضى، بل تعيد كتابة المفهوم ذاته. لم نخرج من النكبة، لأننا لم نغادرها. لم تكن لحظة، بل نظاماً. لم تكن حدثاً، بل شرطاً وجوديّاً يمتد من اللجوء إلى القتل، من التهجير إلى التجويع، من حرمان الأرض إلى دفن الأحياء تحت ركامها. وليس الاحتلال وحده مَن صنع هذا النظام. فلو كانت النكبة طارئة لانتهت. لكنها استمرّت، وتحوّلت إلى بنية كاملة لا تكتفي بالإبادة، بل تُنظّمها. وما كان لهذا الجرح أن يتعمّق لولا أن بعض السكاكين جاءت من الداخل. لم تكن إسرائيل لتُتقن فعل النكبة وتُعيد إنتاجها يوميّاً، لولا أن الساحة كانت ممهدة، والأنظمة صامتة، والقيادات منقسمة، والمصالح متشابكة. النكبة ليست فقط فيمن ينفّذ القتل، بل فيمن يبرّره ويصمت عنه ويتواطأ معه. ليست فقط في القنابل، بل في الأيادي التي صفّقت، والأبواب التي أُغلقت، والموائد التي عُقدت فوق دمائنا، والقرارات التي اتُّخذت بينما وعينا غارق في الإنكار. فلسطين لم تُنكَب وحدها، بل نُكّب ضمير العرب قبلها. وغزّة لم تُحاصَر فقط من بحرٍ وجو، بل من أخٍ يشترط ويُساوم، ومن قيادةٍ انفصلت عن الشعب وصارت جزءاً من معادلة القمع. ما نعيشه ليس استمراراً للاحتلال فقط، بل للانقسام، وللخذلان، ولتلك الشّراكات الخفيّة والعلنيّة بين المحتل وولاة أمرنا، بين القامع ومن يساعده على القمع، باسم الواقعية، أو الحداثة، أو الحكمة، أو الحفاظ على ما تبقى من "سلطة". النكبة تحوّلت إلى منظومة، والطامّة أن هذه المنظومة لا تكتمل دون تواطؤ الداخل. فكل انقسام أو تفريط أو تسوية تُدار في العتمة، تعطي الاحتلال فرصة لينكبنا مجدّداً. حتى الانقسام السياسي ليس خللاً عابراً، بل هو نتيجة ل "فَلَسْطَنَة" سياسيّة عميقة. حيث أُنتجت سلطةٌ بلا سيادة، ومؤسسات بلا تمثيل، وحقوق مشروطة برضا الاحتلال. وصار الفلسطينيّ مواطناً في نظام يكرّس نكبته، لا يحرّره منها. "فلسطَنَة" الإنسان، لا تعني قهر جسده فقط، بل تقييد وعيه، وتحويل مقاومته إلى أداء متوقَّع داخل مشهدٍ سياسيٍّ هزيل. المشكلة لم تعد في الاحتلال فقط، بل فيمن يعيد إنتاج سلطته بأدوات فلسطينيّة. في غزّة اليوم، تنكشف النكبة عن وجهها العاري، وجه لا يُجَمّله قرار أممي، ولا يغطّيه بيان إدانة، وجهٌ يصرخ أنّ النكبة لم تكن ذكرى بل بداية، وإن ما تلاها أشدّ فظاعة وإحكاماً. لكن حتى الكلمة التي حملناها، لم تكن بريئة. لم تخلُ من التخفيف، من التجميل، من الترويض. "نكبة"—خفيفة على الألسن، قابلة للتكرار، لا تُقلق أحداً. مصطلح يُطبِّع المصيبة، ويُعيد تقديمها كحدث يمكن تحمّله... أو تجاوزه. كم كان ذكيّاً من أطلق الاسم، وكم كنّا طيّعين حين قبلناه. أُخْضِعت مأساتنا للغة، لتُقزَّم، ولتُحاصر في ذاكرة موسمية، بينما بقيت مآسي "الآخر" مقياساً وحيداً للألم، لا يُقارن، لا يُلمس، لا يُشبهه شيء. حملنا "النكبة" كوسمٍ على صدورنا، يُذكّرنا بما سُلب، ويقزّم ما نطالب به إلى تكرار الكلمة. كأنّ المأساة تنحصر في نطقها، لا عمقها، وكأنّ العدالة تكمن في الذكرى، لا في استعادتها. لكنّ هذه الطامّة الكبرى لم تتوقّف عند حدود القتل والقصف والتّهجير، بل تطوّرت إلى ما هو أعمق: " فَلَسْطَنَة" الإنسان. لا لكونه يحمل جنسية أو انتماءً جغرافيّاً، بل لأنه أصبح "الآخر" المستثنى من شرط الإنسانيّة. " فَلَسْطَنَة" تجعل من الجسد الفلسطيني مادّة للاحتلال، ومن اسمه اشتباهاً، ومن حياته خطراً محتملاً، ومن موته خبراً عاديّاَ. هكذا تُصنَع النّكبة الجديدة: لا تكتفي بتدمير البيوت، بل تُعيد تشكيل المعنى، وتُفرّغ الوطن من ناسه، والهويّة من ملامحها، وتملأ الفراغ ب"فلسطيني" لا لكونه من فلسطين، بل لأنه صار نموذجاً لِمَن لا يُسمَح له أن يكون. نكتب "نكبة"، لكن اللغة تخون.. نكبة؟ بل طامّة تُرى، تُعاش، لا يمكن تدوينها. طامّة تُنفَّذ على مرأى من العالم، بطائرات، وصواريخ، ونيران لا تميّز بين حجرٍ وجسد. تُرى في أجسادٍ تتطاير، وتُسمع في صرخات أطفال تحت الرّكام. في جسد صحفي تشتعل فيه النيران وهو يوثّق جحيماً مُستعراً. تُشمّ في رائحة الأجساد داخل سيارات الإسعاف، وتُلمَس فيما تبقى من الجدران المنهارة فوق أسرّة المستشفيات. وتُذوّق في مرارة الخبز المفقود، في فم طفلٍ يتقاسم لقمة مع ظلّ صورة على الجدار. بصيحات حارقة لأب يحمل أشلاء ابنه، وأمّ تستغيث بين الركام بحثاً عمن تبقّى من أبنائها وعائلتها، وجدّ يحتضن أشلاء حفيدته مبتسماً: "إنها روح الروح"، ليحلّق بعدها روحًا، عندما صار جسده أشلاء بعد قصفٍ آخر. ليست صوراً تُنشر، بل حياة تُمحى. ليست فصلاً من نكبة، بل الطامّة الكبرى... بكل فصولها. يا ترى ماذا كنت سأقول لو كانت تسمية النكبة "طامة كبرى من اليوم الأول؟ كنت سأكتب نفس المقال وبما يؤكّد قصور ذلك التعبير عن هول الكارثة التي حلت بنا ولا تزال. جحيمٌ لا ينتظر الآخرة. ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ. يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ﴾