لا شك أنّ السابع من أكتوبر سنة 2023 سيشكّل محطةً فارقة في تاريخ فلسطين والعالم العربي. إنّ المأساة المستمرة التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ تسعة عشر شهراً تمثل عودة مأساوية إلى أحلك فصول التاريخ الإنساني. فبعد الفاشية النازية، برز وجه آخر للفاشية، ألا وهو الفاشية الصهيونية، التي تسعى لا إلى إبادة الشعب الفلسطيني فحسب، بل إلى إعادة تشكيل المنطقة العربية برمتها، بل وربما العالم بأسره، وفق رؤيتها العنصرية القائمة على وهم "الشعب المختار"، وما يرافق ذلك من استعلاء واستعباد للشعوب "الأدنى منزلة". في انسجام تام مع سياسات نتنياهو، يرى ترامب أنّ رقعة مستعمرته ضيّقة، ويجب أن تتوسع. ويبدأ ذلك من قطاع غزة، الذي يخطط لنقل سكانه – من ينجو منهم من الإبادة – إلى دول عربية. ومنذ توليه رئاسة الولاياتالمتحدة، لم يُخفِ ترامب دعمه المطلق للحكومة الفاشية بقيادة نتنياهو، وسياستها الهادفة إلى "التطهير العرقي" لغزة. فبعد أن منح الشرعية لقصف المدنيين في القطاع بما يقارب مئتي ألف طن من القنابل الأميركية – أي ما يعادل ثلاثة عشر ضعف الطاقة الناتجة عن قنبلة هيروشيما – استُقبل ترامب من قِبل قادة دول الخليج استقبال "الصديق العظيم". وفيما كان يحتفل مع أمراء الخليج، سقط أكثر من 1200 طفل وامرأة ورجل تحت وابل قنابله. وفي غضون أربعة أيام، عاد إلى بلاده محمّلاً بتريليونات الدولارات، التي قال إنها تعادل 10% من العجز التجاري الأميركي، و13 ضعفاً للإنفاق العسكري الأميركي في أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، كان المغرب يستضيف وحدة من جيش الاحتلال الصهيوني للمشاركة في المناورات العسكرية المغربية الأميركية "أفريكا ليونز"، وكأن شيئاً لم يكن! مئتا ألف شهيد وجريح ومفقود تحت الأنقاض، أي ما يعادل 10% من سكان غزة! أليس هذا كافياً؟ أليس من الواجب أن نرفع الصوت ونقول: كفى! لنوقف كل أشكال التعامل ونقطع علاقاتنا مع مرتكبي الإبادة الجماعية؟ كل دولة عربية، وإن كانت بمفردها، قادرة على أن تُحمّل آلة الحرب الأميركية الصهيونية ثمناً باهظاً، عبر قطع العلاقات مع "إسرائيل" وفرض مقاطعة شاملة عليها. كما يمكن للدول العربية المصدّرة للنفط أن توقف صادراتها، كما فعل الملك فيصل بن عبد العزيز – رحمه الله – سنة 1973، ما من شأنه أن يضع حداً فورياً للمجزرة ويرفع الحصار عن غزة. لقد فُتحت الأبواب على مصراعيها أمام ترامب ونتنياهو للسيطرة على كامل التراب الفلسطيني، بل ولبنان وسوريا أيضاً، وربما لتدمير المسجد الأقصى المبارك. كلّ الأمل يبقى معقوداً على صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته المسلحة. وحده اليمن، بقيادة أنصار الله، يقف بصلابة إلى جانب فلسطين، من خلال تعطيل الملاحة الجوية والبحرية المتجهة إلى الكيان، بالرغم من التضحيات الجسيمة. شعوب العالم بأسره تقف اليوم إلى جانب فلسطين، وتدين بصوت واحد المجازر المرتكبة بحق شعبها. فقد شهدنا تظاهرات ضخمة في لندن وبروكسل ولاهاي وباريس وغيرها، تؤكد على هذا الموقف. كما أصدرت دول مثل آيسلندا وإيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا ومالطا ولوكسمبورغ والنرويج بيانات تدين الإبادة وتدعو إلى فرض عقوبات على "إسرائيل". لن يتراجع ترامب إلا إذا أصبح ثمن حماية مستعمرته باهظاً لا يُطاق. وسيحفظ التاريخ صورتين: الأولى، صورة إيران واليمن، وهما يتفاوضان بشرف وكرامة مع ممثل آلة الحرب الأميركية، دفاعاً عن استقلالهما ومصالح شعوبهما، ومطالبة بوقف الإبادة ورفع الحصار. والثانية، صورة القمة العربية في بغداد، قمة النفاق والخضوع لنفس آلة الحرب. ومن الجليّ اليوم، بعد 77 سنة من الاحتلال والنكبة المستمرة، أن المشروع الاستعماري لم ينجح، وأنّ خمسمئة مليون عربي يرفضون هذه المستوطنة الغربية المزروعة في قلبهم. ترامب، مهندس ما يُسمّى ب"اتفاقيات أبراهام"، يسعى من خلالها إلى دفن القضية الفلسطينية وإعلان هيمنة "إسرائيل الكبرى"، التي لم تتضح حدودها بعد. وللترويج لهذه الاتفاقيات، يعد العرب الذين يصدّقونه ب"عصر من السلام والازدهار". لكن كيف يا ترى سيموّل هذا العصر الذهبي الموعود، وهو الذي انتزع تريليونات الدولارات من أمراء الخليج ليستثمرها في بلاده؟ وهل يُبنى السلام الحقيقي على الظلم والإبادة؟ التاريخ الذي يتجاهله ترامب يقول إن العدالة لا بد أن تنتصر في النهاية. وكما جاء في المثل العربي: "لا يضيع حق وراءه مطالب." إن "اتفاقيات أبراهام" ليست سوى وهم استعماري جديد، يهدف إلى إنعاش مستعمرة صهيونية تحتضر، من خلال الاستيلاء على الموارد الاقتصادية العربية. وبعد عملية "طوفان الأقصى" والمجازر بحق الفلسطينيين، سقط القناع عن هذه الاتفاقيات، وباتت ساقطة أخلاقياً وسياسياً. لن تخضع الشعوب العربية أبداً لهذه الهيمنة، ولن تقبل بالوصاية الصهيونية. وستواصل الدفاع عن استقلالها الوطني وتحرير فلسطين، بكل الوسائل المتاحة.