هل السيادة خيار مثالي أم ضرورة استراتيجية؟ بالنسبة لنجيب أقصبي، لا تنمية دون استقلال في القرار، ولا عدالة دون تحرير الاقتصاد من منطق الريع والخضوع للأسواق. في تحليلاته الجريئة، لا يتوقف أقصبي عند ظاهر الأرقام، بل يغوص في البُنى العميقة التي تنتج الأزمات وتعيد إنتاجها. ينتقد بحدة الارتهان للتمويل الخارجي، وتغليب منطق التوازنات على حساب الحاجات الاجتماعية، ويطرح بدائل تنبع من الواقع الوطني لا من توصيات المانحين.
نجيب أقصبي هو خبير اقتصادي مغربي، يؤمن بأن المعرفة ليست امتيازا فرديا، بل عملية جماعية تُبنى بالنقاش والتفاعل. لهذا يرفض فكرة الأستاذ السلطوي، أو الباحث الناقل للمعرفة، ويدافع عن نموذج المثقف"العضوي" بالمفهوم الغرامشي، والباحث المنتج، الذي يربط المعرفة بالواقع، ويعرض أفكاره للنقاش والتقويم. ولد نجيب أقصبي في مدينة فاس بالمغرب يوم 5 غشت 1952، في بيئة وطنية وتاريخية مشبعة بروح النضال والتغيير، حيث تشكل وعيه الأول. تابع دراسته الجامعية في فرنسا، فحصل على دكتوراه الدولة في العلوم الاقتصادية من جامعة باريس-دوفين، إلى جانب دبلوم من معهد الدراسات السياسية بباريس. بعد عودته إلى المغرب، انخرط في العمل الأكاديمي وساهم في ترسيخ الفكر النقدي في مجاله، حيث عمل لسنوات أستاذا باحثا في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بالرباط. نحو سيادة غذائية وطنية في جميع أبحاثه يضع أقصبي مفهوما محوريا هو "السيادة" كخط ناظم يربط بين جميع مجالات اشتغاله، سواء تعلق الأمر بالسيادة المعرفية، أو السيادة الاقتصادية، أو السيادة الغذائية دون أن ننسى السيادة السياسية التي بدونها لا تستقيم جميع السيادات الأخرى. فهو يرى أن أزمة الاقتصاد المغربي لا تنبع فقط من اختيارات خاطئة، بل من التبعية البنيوية في إنتاج المعرفة والسياسات؛ فقد انتقد بوضوح غياب أجندة بحثية وطنية مستقلة، معتبرا أن تمويل أغلب مشاريع البحث من مؤسسات أجنبية جعل الجامعة المغربية تخضع لأولويات لا تعكس حاجات البلاد. كان نجيب أقصبي من الأوائل الذين دعوا إلى الانتقال من مفهوم الأمن الغذائي إلى السيادة الغذائية، التي تعني قدرة البلاد على التحكم في إنتاج غذائها وتوزيعه. يرى أن المغرب بحاجة إلى سياسات زراعية تحمي الفلاح الصغير، وتضمن إنتاجا موجها لحاجات السكان، لا لتصدير الفائض إلى الخارج. هذا التوجه أصبح أكثر إلحاحا بعد جائحة كورونا، التي أظهرت هشاشة الاقتصادات غير القادرة على تلبية حاجاتها الأساسية. في السياق المغربي، يُربط تنامي الدعوات إلى السيادة الغذائية مع الحاجة إلى تنويع الزراعة ودعم الفلاح الصغير وضمان إنتاج داخلي يكفي السكان. ويرى أقصبي أنه بدون سيطرة حقيقية على الإنتاج الغذائي (من خلال سياسات وطنية واستثمارات عامة)، ستظل البلاد عرضة لآليات السوق الدولية والتغيرات المناخية، وهو ما يتناقض مع أهداف العدالة الاجتماعية التي ينادي بها. حين وصف نجيب أقصبي السياسات المائية التي انتهجها المغرب على مدى عقود ب"السياسات الإجرامية"، لم يكن يلقي خطابا شعبويا أو يبحث عن فرقعة إعلامية، بل كان يتحدث بلغة الفلاحين الذين جفت أراضيهم، وبعين الخبير الذي يعرف أن الأمن الغذائي لا يُبنى فقط على السدود، بل على رؤية عادلة لتوزيع المياه ومفيدة لطريقة استغلالها. خوصصة بلا رؤية وديون متراكمة وعلى امتداد سنوات، يُعد نجيب أقصبي أحد أبرز النقاد لسياسات الخوصصة التي اعتمدتها الدولة، مبرزا كيف تحولت هذه السياسات إلى آلية لتفويت الأصول العمومية بشكل اضطراري، ودون تقييم جاد لتجارب الماضي. ويصف الخوصصة بأنها مؤشر على الأزمات البنيوية، لا حلا لها. مثال ذلك تفويت مصفاة "سامير" أو شركة "اتصالات المغرب"، اللتين اعتبر أن خصخصتهما حرمت الدولة من موارد استراتيجية مهمة. أما في ما يخص الدين العمومي، فيرى أن المغرب عالق في حلقة مفرغة، حيث تُستخدم القروض الجديدة لسداد خدمة الديون القديمة. ويشير إلى أن خدمة الدين تستهلك أكثر من 100 مليار درهم سنويا، ما يجعل الدولة رهينة لتوازنات مالية خارجية، دون تحقيق تنمية حقيقية. تؤكد مواقف أقصبي أن الدين العمومي المغربي في تزايد مستمر، ما يشكل دلالة على حدة الأزمة المالية. وهو يشير إلى أن المديونية الوطنية وصلت إلى نحو 970 مليار درهم (وفق تقديرات المجلس الأعلى للحسابات)، وأن اللجوء الدائم إلى الاقتراض أصبح نتيجة حتمية لارتفاع النفقات العامة وتراجع الموارد. في تحليله لخدمة الدين، يلفت أقصبي الانتباه إلى أن 90% من القروض الجديدة توظف في سداد الديون السابقة وليس في تمويل التنمية. وكمثال، يذكر أن الدولة ستخصص نحو 107 مليار درهم لسداد خدمة الدين في السنة الحالية (45 مليار فوائد وعمولات، و62 مليار لتسديد أصل الديون)، مما يُجبر الحكومة مجددا على اقتراض حوالي 145 مليار إضافية لتغطية عجز الموازنة. وبذلك، تبقى المديونية في ارتفاع مستمر ومغربنا "محتجز في دوامة مديونية" لا تنتهي. ويركز أقصبي على أن السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت المملكة ستصل إلى الإفلاس، بل على تكلفة هذه المديونية على الاقتصاد؛ فكما يقول: "لسنا نقترض لتطوير اقتصادنا أو خلق مناصب الشغل، بل غالبا نقترض كي نؤدي الديون القديمة". ومن هذا المنظور، يعتبر أقصبي أن الديون الحالية هي نتاج مباشر لغياب إصلاح جبائي حقيقي وسياسات مالية غير مستدامة. خلاصة تحليله أن المغرب عالق بين موارد محدودة وتعهدات سداد ديون ثابتة في تزايد، ما يستلزم إصلاحات جذرية في إدارة المالية العمومية والنظام الضريبي لوقف التراكم المضطرد للدين. موارد محدودة ونفقات متزايدة لا ينفي أقصبي وجود مؤهلات في الاقتصاد المغربي، لكنه يشير إلى ضعف وتيرة النمو (~3%) مقارنة بما يحتاجه المغرب فعليا (حوالي 8%). ويربط ضعف النمو بتقلب الموسم الفلاحي، وتراجع الطلب الداخلي، والتفاوتات الاجتماعية العميقة. كما يرفض الفصل المصطنع بين الخطاب الأكاديمي التقني والخطاب العمومي، ويؤمن بضرورة إيصال المعرفة بلغة مفهومة دون التضحية بالدقة. هذه التقلبات الهيكلية تظهر أيضا في تفاقم التفاوتات الاجتماعية وعودة بعض مظاهر الفقر والهشاشة. ومثال على ذلك عجز الحساب التجاري الذي ارتفع بشكل كبير (على سبيل المثال سجل عجز تجاري حوالي 109 مليار درهم في أبريل 2025) في ظل حاجة قوية للتمويل الدولي. بالتالي، يلخص الأزمة الاقتصادية المغربية الحالية في "كون الموارد المحدودة تصطدم بنفقات ثابتة وتنحو للتزايد، تجثم على أنفاس الاقتصاد الوطني"، على الرغم من أن الحكومة تحرص على إبقاء العجز ظاهرا مقبولا. باختصار، يرى أقصبي أن المؤشرات الكبرى، كالنمو والتوازن المالي والاستثمار، لا تعكس تطورا قويا ولا تقود إلى تنمية شاملة، مما يستدعي تغيير السياسات الاقتصادية بعيدا عن منطق الريع الذي ينتقده باستمرار. "الديمقراطية لا تُؤجل.." ومثلما نادى بالسيادة في الاقتصاد، طالب أقصبي أيضا بالسيادة داخل العمل الحزبي، حيث انتقل من النقد السياسي إلى مشروع إصلاحي شامل داخل التنظيمات التي انتمى إليها. لم يكن أقصبي يحلم بحزب عادي، بل كان يحمل صورة أخرى: حزب ديمقراطي من نمط جديد، لا يشبه شيئا مما عرفه المغرب. أراده حزبا يشبه ما يُدرسه في قاعات الاقتصاد: شفافا، تعدديا، قابلا للمحاسبة، لا يحتكر السلطة ولا يصادر الآراء. رفض من البداية فكرة الحزب المُحافظ على ذاته، الذي يعيد تدوير القيادات نفسها، وينظر للمعارضة الداخلية كخطر. قال مرة: "الديمقراطية لا تُؤجل… ومن يخاف التعدد لا يؤمن فعليا بالحزب". برز كصوت نقدي شجاع داخل المؤسسات الحزبية، حيث رفض منطق التحضير المغلق للمؤتمرات، الذي يُبقي القيادة نفسها في موقعها، ويُقصي إمكانية التغيير أو التصويت الحقيقي. كان يؤمن بأن احترام الرأي الآخر وتعدد التصورات ليس تهديدا لوحدة الحزب، بل ضمانة لحيويته واستمراره. لذلك، طالب بآليات دقيقة مثل حرية الترشح للمسؤوليات، تحديد عدد الولايات، محاربة تراكم المهام، وضمان مأسسة التداول الفعلي على القرار الحزبي، رافضا تحويل الأجهزة المؤقتة إلى هياكل دائمة فارغة من المضمون. ولأن رؤيته الحزبية لم تكن نظرية فقط، فإن ما طالب به أقصبي من ديمقراطية حزبية داخل الاتحاد الاشتراكي في أواخر التسعينات وبداية الألفية، أصبح لاحقا جزءا من قانون الأحزاب في المغرب سنة 2006. لقد كان من بين من دفعوا نحو تأسيس ثقافة سياسية جديدة، تُجبر الدولة ذاتها على تقنين بعض الآليات الديمقراطية التي طالما رُفضت داخل الأحزاب. لقد ظل نجيب أقصبي وفيا لثلاثية مترابطة لا تنفصل: الاقتصاد من أجل الإنسان، والسياسة من أجل التغيير، والمعرفة من أجل التحرر. في كل معركة خاضها، سواء ضد عبثية الخوصصة، أو هشاشة السياسات الغذائية، أو اختلال النظام الضريبي، لم يكن يحارب فقط اختيارات تقنية، بل منطقا كاملا يُقصي العدالة ويُقصر في السيادة. في زمن يبحث فيه الكثيرون عن موطئ قدم داخل حدود "الواقعي الممكن"، ظل أقصبي مشدودا إلى ما هو "ضروري وعادل". من هنا، تكمن قيمته: ليس فقط كخبير اقتصادي، بل كصوت نزيه، حين يتطلب الموقف وضوحا، لا يتردد في قول كل ما يجب أن يُقال.