المغرب يشهد تأسيس 29 ألف شركة في 3 أشهر.. والشرق يقتحم نادي الجهات الصاعدة    سلوكيات استعراضية على الدراجات تنتهي بتدخل أمني حازم    "أورولات 2025".. مسؤولون برلمانيون يثمنون مشاركة مجلس المستشارين    بودن ل"القناة": دعم بريطانيا للحكم الذاتي منعطف مفصلي في مسار قضية الصحراء المغربية    "رهان" ديمبلي مع أصدقائه يكسبه ساعة بقيمة نصف مليون يورو    المنتخب المغربي يواصل تحضيراته بمركب محمد السادس استعدادا لمواجهة تونس    مدير المركب الرياضي لفاس: الملعب أصبح جاهزا بنسبة 100 في المائة    "بعد كوارثه المتعددة".. هل ينسحب الملياردير أيت منا من سباق انتخابات 2026 بالمحمدية؟    وزارة التربية الوطنية: الدورة العادية لامتحان البكالوريا مرت في "أجواء جيدة وإيجابية"    وزير التعليم العالي: "فضيحة بيع الشواهد دخيلة على الجامعة المغربية وتسيء لسمعتها"    السينما المغربية تتألق في مهرجان روتردام    الساحة الفنية العربية تفقد سيدة المسرح الفنانة المصرية سميحة أيوب    الإجهاض السري يوقف زوجين في تيكوين    الناخب والمدرب الوطنيين لحسن واسو وجواد خويا يحرزان أعلى شهادة يمنحها الاتحاد الدولي للمواي طاي إيفما    كيوسك الثلاثاء | الاعتراف المتبادل لرخص السياقة بين المغرب وإيطاليا يدخل حيز التنفيذ    وفاة الفنانة المصرية سميحة أيوب عن عمر 93 عاما    مقتل 3 جنود إسرائيليين في قطاع غزة    أمريكا تبدأ تقليص قواتها في سوريا    محكمة بريطانية تدين طالب لجوء ملحد أحرق المصحف في لندن    هانزي فليك مدرب برشلونة يظفر بجائزة الأفضل في الدوري الإسباني    اتحاد جزر القمر يجدد تأكيد دعمه الكامل للمبادرة المغربية للحكم الذاتي    استمرار الحرارة في توقعات طقس الثلاثاء    وفاة "سيدة المسرح العربي" سميحة أيوب    كأس العالم للأندية: تشلسي يدعم صفوفه بالبرتغالي إيسوغو    وفاة مؤرخ المملكة عبد الحق المريني ودفنه اليوم بمقبرة الشهداء    قائد الملحقة الإدارية الرابعة بطنجة يشرف على حملة ضد حراس السيارات بتنسيق مع الدائرة الأمنية الثانية    موقف قوي من سيراليون يحرج خصوم الوحدة الترابية للمغرب داخل مجلس الأمن    ضبط 2769 حالة غش في امتحانات الباكالوريا    المغرب يطلق أكبر مشروع لتحديث حافلات النقل الحضري    الفيفا يكشف عن شعار النسخ الخمس القادمة لمونديال السيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    بوصوف يكتب: إجماع مغاربة العالم على عدم تأدية شعيرة الذبح... تضامن راقٍ يعكس وعيًا جماعيًا نادرًا    التوفيق:برنامج التأهيل الطاقي للمساجد.. تجهيز 6255 مسجدا بمعدات النجاعة الطاقية    الفيفا يكشف عن شعار النسخ الخمس القادمة لمونديال السيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    انطلاق اشغال الملتقى الاول للمكتبات الوطنية العربية    منتدى مقاولاتي بطنجة يجمع فاعلين اقتصاديين من جهة فالنسيا ونظرائهم المغاربة لتعزيز الشراكة والتعاون    أكثر من 3800 مقاولة جديدة بجهة طنجة-تطوان-الحسيمة خلال الربع الأول من 2025    الأداء الإيجابي ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    الناقد المغربي حميد لحمداني يفوز بجائزة العويس الثقافية    أمانديس تدعم شباب الابتكار البيئي بطنجة من خلال رعاية "هاكاثون Code Bleu"    انطلاق محاكمة سعد لمجرد بفرنسا    "وقفات مع العشر".. عنوان حلقة جديدة من برنامج "خير الأيام" عبر يوتيوب    السعودية: إخراج أكثر من 205 آلاف شخص من مكة حاولوا الحج بدون تصريح    محمد الأمين الإسماعيلي في ذمة الله    أسعار المحروقات تعود للارتفاع في المغرب رغم التراجع العالمي        الاتحاديات والاتحاديون سعداء بحزبهم    دورة سادسة للمهرجان الدولي للفيلم الكوميدي بالرباط    سفينة من "أسطول الحرية" محملة بمساعدات إنسانية تبحر إلى غزة من إيطاليا    وقفة احتجاجية بآسفي تجسّد مأساة عائلة النجار في غزة    المغرب تحول إلى عاصمة عالمية للدبلوماسية البرلمانية (رؤساء أربعة برلمانات إقليمية بأمريكا اللاتينية)    أطباء بلا حدود تحمّل مؤسسة أمريكية مسؤولية الفوضى وسقوط قتلى أثناء توزيع المساعدات في رفح    السعودية.. إخراج أكثر من 205 آلاف شخص من مكة حاولوا الحج بدون تصريح    السجائر الإلكترونية المستخدمة لمرة واحدة تهدد الصحة والبيئة!    معهد للسلامة يوصي بتدابير مفيدة لمواجهة حرارة الصيف في العمل    الوفد الرسمي للحجاج المغاربة يتوجه إلى الديار المقدسة    البرازيل تحقق في 12 إصابة جديدة مشتبه بها بإنفلونزا الطيور    العثور على "حشيش" في مكونات حلوى أطفال شهيرة في هولندا    مخترع حبوب الإجهاض الطبي يغادر دنيا الناس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب أقصبي.. مثقف عضوي يناضل من أجل "السيادة" في كل المجالات
نشر في لكم يوم 01 - 06 - 2025

هل السيادة خيار مثالي أم ضرورة استراتيجية؟ بالنسبة لنجيب أقصبي، لا تنمية دون استقلال في القرار، ولا عدالة دون تحرير الاقتصاد من منطق الريع والخضوع للأسواق.
في تحليلاته الجريئة، لا يتوقف أقصبي عند ظاهر الأرقام، بل يغوص في البُنى العميقة التي تنتج الأزمات وتعيد إنتاجها. ينتقد بحدة الارتهان للتمويل الخارجي، وتغليب منطق التوازنات على حساب الحاجات الاجتماعية، ويطرح بدائل تنبع من الواقع الوطني لا من توصيات المانحين.

نجيب أقصبي هو خبير اقتصادي مغربي، يؤمن بأن المعرفة ليست امتيازا فرديا، بل عملية جماعية تُبنى بالنقاش والتفاعل. لهذا يرفض فكرة الأستاذ السلطوي، أو الباحث الناقل للمعرفة، ويدافع عن نموذج المثقف"العضوي" بالمفهوم الغرامشي، والباحث المنتج، الذي يربط المعرفة بالواقع، ويعرض أفكاره للنقاش والتقويم.
ولد نجيب أقصبي في مدينة فاس بالمغرب يوم 5 غشت 1952، في بيئة وطنية وتاريخية مشبعة بروح النضال والتغيير، حيث تشكل وعيه الأول. تابع دراسته الجامعية في فرنسا، فحصل على دكتوراه الدولة في العلوم الاقتصادية من جامعة باريس-دوفين، إلى جانب دبلوم من معهد الدراسات السياسية بباريس. بعد عودته إلى المغرب، انخرط في العمل الأكاديمي وساهم في ترسيخ الفكر النقدي في مجاله، حيث عمل لسنوات أستاذا باحثا في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بالرباط.
نحو سيادة غذائية وطنية
في جميع أبحاثه يضع أقصبي مفهوما محوريا هو "السيادة" كخط ناظم يربط بين جميع مجالات اشتغاله، سواء تعلق الأمر بالسيادة المعرفية، أو السيادة الاقتصادية، أو السيادة الغذائية دون أن ننسى السيادة السياسية التي بدونها لا تستقيم جميع السيادات الأخرى. فهو يرى أن أزمة الاقتصاد المغربي لا تنبع فقط من اختيارات خاطئة، بل من التبعية البنيوية في إنتاج المعرفة والسياسات؛ فقد انتقد بوضوح غياب أجندة بحثية وطنية مستقلة، معتبرا أن تمويل أغلب مشاريع البحث من مؤسسات أجنبية جعل الجامعة المغربية تخضع لأولويات لا تعكس حاجات البلاد.
كان نجيب أقصبي من الأوائل الذين دعوا إلى الانتقال من مفهوم الأمن الغذائي إلى السيادة الغذائية، التي تعني قدرة البلاد على التحكم في إنتاج غذائها وتوزيعه. يرى أن المغرب بحاجة إلى سياسات زراعية تحمي الفلاح الصغير، وتضمن إنتاجا موجها لحاجات السكان، لا لتصدير الفائض إلى الخارج. هذا التوجه أصبح أكثر إلحاحا بعد جائحة كورونا، التي أظهرت هشاشة الاقتصادات غير القادرة على تلبية حاجاتها الأساسية.
في السياق المغربي، يُربط تنامي الدعوات إلى السيادة الغذائية مع الحاجة إلى تنويع الزراعة ودعم الفلاح الصغير وضمان إنتاج داخلي يكفي السكان. ويرى أقصبي أنه بدون سيطرة حقيقية على الإنتاج الغذائي (من خلال سياسات وطنية واستثمارات عامة)، ستظل البلاد عرضة لآليات السوق الدولية والتغيرات المناخية، وهو ما يتناقض مع أهداف العدالة الاجتماعية التي ينادي بها.
حين وصف نجيب أقصبي السياسات المائية التي انتهجها المغرب على مدى عقود ب"السياسات الإجرامية"، لم يكن يلقي خطابا شعبويا أو يبحث عن فرقعة إعلامية، بل كان يتحدث بلغة الفلاحين الذين جفت أراضيهم، وبعين الخبير الذي يعرف أن الأمن الغذائي لا يُبنى فقط على السدود، بل على رؤية عادلة لتوزيع المياه ومفيدة لطريقة استغلالها.
خوصصة بلا رؤية وديون متراكمة
وعلى امتداد سنوات، يُعد نجيب أقصبي أحد أبرز النقاد لسياسات الخوصصة التي اعتمدتها الدولة، مبرزا كيف تحولت هذه السياسات إلى آلية لتفويت الأصول العمومية بشكل اضطراري، ودون تقييم جاد لتجارب الماضي. ويصف الخوصصة بأنها مؤشر على الأزمات البنيوية، لا حلا لها. مثال ذلك تفويت مصفاة "سامير" أو شركة "اتصالات المغرب"، اللتين اعتبر أن خصخصتهما حرمت الدولة من موارد استراتيجية مهمة.
أما في ما يخص الدين العمومي، فيرى أن المغرب عالق في حلقة مفرغة، حيث تُستخدم القروض الجديدة لسداد خدمة الديون القديمة. ويشير إلى أن خدمة الدين تستهلك أكثر من 100 مليار درهم سنويا، ما يجعل الدولة رهينة لتوازنات مالية خارجية، دون تحقيق تنمية حقيقية.
تؤكد مواقف أقصبي أن الدين العمومي المغربي في تزايد مستمر، ما يشكل دلالة على حدة الأزمة المالية. وهو يشير إلى أن المديونية الوطنية وصلت إلى نحو 970 مليار درهم (وفق تقديرات المجلس الأعلى للحسابات)، وأن اللجوء الدائم إلى الاقتراض أصبح نتيجة حتمية لارتفاع النفقات العامة وتراجع الموارد.
في تحليله لخدمة الدين، يلفت أقصبي الانتباه إلى أن 90% من القروض الجديدة توظف في سداد الديون السابقة وليس في تمويل التنمية. وكمثال، يذكر أن الدولة ستخصص نحو 107 مليار درهم لسداد خدمة الدين في السنة الحالية (45 مليار فوائد وعمولات، و62 مليار لتسديد أصل الديون)، مما يُجبر الحكومة مجددا على اقتراض حوالي 145 مليار إضافية لتغطية عجز الموازنة. وبذلك، تبقى المديونية في ارتفاع مستمر ومغربنا "محتجز في دوامة مديونية" لا تنتهي.
ويركز أقصبي على أن السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت المملكة ستصل إلى الإفلاس، بل على تكلفة هذه المديونية على الاقتصاد؛ فكما يقول: "لسنا نقترض لتطوير اقتصادنا أو خلق مناصب الشغل، بل غالبا نقترض كي نؤدي الديون القديمة". ومن هذا المنظور، يعتبر أقصبي أن الديون الحالية هي نتاج مباشر لغياب إصلاح جبائي حقيقي وسياسات مالية غير مستدامة.
خلاصة تحليله أن المغرب عالق بين موارد محدودة وتعهدات سداد ديون ثابتة في تزايد، ما يستلزم إصلاحات جذرية في إدارة المالية العمومية والنظام الضريبي لوقف التراكم المضطرد للدين.
موارد محدودة ونفقات متزايدة
لا ينفي أقصبي وجود مؤهلات في الاقتصاد المغربي، لكنه يشير إلى ضعف وتيرة النمو (~3%) مقارنة بما يحتاجه المغرب فعليا (حوالي 8%). ويربط ضعف النمو بتقلب الموسم الفلاحي، وتراجع الطلب الداخلي، والتفاوتات الاجتماعية العميقة. كما يرفض الفصل المصطنع بين الخطاب الأكاديمي التقني والخطاب العمومي، ويؤمن بضرورة إيصال المعرفة بلغة مفهومة دون التضحية بالدقة.
هذه التقلبات الهيكلية تظهر أيضا في تفاقم التفاوتات الاجتماعية وعودة بعض مظاهر الفقر والهشاشة. ومثال على ذلك عجز الحساب التجاري الذي ارتفع بشكل كبير (على سبيل المثال سجل عجز تجاري حوالي 109 مليار درهم في أبريل 2025) في ظل حاجة قوية للتمويل الدولي. بالتالي، يلخص الأزمة الاقتصادية المغربية الحالية في "كون الموارد المحدودة تصطدم بنفقات ثابتة وتنحو للتزايد، تجثم على أنفاس الاقتصاد الوطني"، على الرغم من أن الحكومة تحرص على إبقاء العجز ظاهرا مقبولا.
باختصار، يرى أقصبي أن المؤشرات الكبرى، كالنمو والتوازن المالي والاستثمار، لا تعكس تطورا قويا ولا تقود إلى تنمية شاملة، مما يستدعي تغيير السياسات الاقتصادية بعيدا عن منطق الريع الذي ينتقده باستمرار.
"الديمقراطية لا تُؤجل.."
ومثلما نادى بالسيادة في الاقتصاد، طالب أقصبي أيضا بالسيادة داخل العمل الحزبي، حيث انتقل من النقد السياسي إلى مشروع إصلاحي شامل داخل التنظيمات التي انتمى إليها.
لم يكن أقصبي يحلم بحزب عادي، بل كان يحمل صورة أخرى: حزب ديمقراطي من نمط جديد، لا يشبه شيئا مما عرفه المغرب. أراده حزبا يشبه ما يُدرسه في قاعات الاقتصاد: شفافا، تعدديا، قابلا للمحاسبة، لا يحتكر السلطة ولا يصادر الآراء. رفض من البداية فكرة الحزب المُحافظ على ذاته، الذي يعيد تدوير القيادات نفسها، وينظر للمعارضة الداخلية كخطر. قال مرة: "الديمقراطية لا تُؤجل… ومن يخاف التعدد لا يؤمن فعليا بالحزب".
برز كصوت نقدي شجاع داخل المؤسسات الحزبية، حيث رفض منطق التحضير المغلق للمؤتمرات، الذي يُبقي القيادة نفسها في موقعها، ويُقصي إمكانية التغيير أو التصويت الحقيقي. كان يؤمن بأن احترام الرأي الآخر وتعدد التصورات ليس تهديدا لوحدة الحزب، بل ضمانة لحيويته واستمراره. لذلك، طالب بآليات دقيقة مثل حرية الترشح للمسؤوليات، تحديد عدد الولايات، محاربة تراكم المهام، وضمان مأسسة التداول الفعلي على القرار الحزبي، رافضا تحويل الأجهزة المؤقتة إلى هياكل دائمة فارغة من المضمون.
ولأن رؤيته الحزبية لم تكن نظرية فقط، فإن ما طالب به أقصبي من ديمقراطية حزبية داخل الاتحاد الاشتراكي في أواخر التسعينات وبداية الألفية، أصبح لاحقا جزءا من قانون الأحزاب في المغرب سنة 2006. لقد كان من بين من دفعوا نحو تأسيس ثقافة سياسية جديدة، تُجبر الدولة ذاتها على تقنين بعض الآليات الديمقراطية التي طالما رُفضت داخل الأحزاب.
لقد ظل نجيب أقصبي وفيا لثلاثية مترابطة لا تنفصل: الاقتصاد من أجل الإنسان، والسياسة من أجل التغيير، والمعرفة من أجل التحرر. في كل معركة خاضها، سواء ضد عبثية الخوصصة، أو هشاشة السياسات الغذائية، أو اختلال النظام الضريبي، لم يكن يحارب فقط اختيارات تقنية، بل منطقا كاملا يُقصي العدالة ويُقصر في السيادة.
في زمن يبحث فيه الكثيرون عن موطئ قدم داخل حدود "الواقعي الممكن"، ظل أقصبي مشدودا إلى ما هو "ضروري وعادل". من هنا، تكمن قيمته: ليس فقط كخبير اقتصادي، بل كصوت نزيه، حين يتطلب الموقف وضوحا، لا يتردد في قول كل ما يجب أن يُقال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.