قد لا تعني أربعون سنة شيئا كثيرا في حياة أمة أو حضارة، خاصة في فترات السكون أو التوقف. ولكنها تعني الشيء الكثير في لحظات الانتقال والحماس كما هو حال المغرب بعد الاستقلال. يصدق هذا الأمر على الجامعة المغربية، فبرغم ميلنا المشروع إلى النقد والنقد الذاتي وبرغم طموحنا وتطلعنا إلى ما هو أحسن، وخوفنا على ما أنجز أو في طريق الإنجاز فإن من المفيد من حين لآخر أن يلتفت المرءُ إلى الوراء ليقيم ما أنجز، فلعل تقييمه يساعد في تقويم المسار وتأكيد الثقة بالمستقبل. فالأمور نسبية. إن من أحسن المؤرقات الجميلة في أوضاعنا الجامعية اليوم وفي المغرب عامة أننا لا نفتأ نفكر فيما حققه سكان الضفة الشمالية للمتوسط، لقد أحسست بعمق هذه المسألة وأهميتها حين أتيحت لي فرصة معايشة الوضع في الشرق العربي لمدة سنة كاملة. ويبدو لي أحيانا أن المغاربة هم أحسن من قرأ الرواد العرب الذين ظهروا في الأربعينات والخمسينات مثل طه حسين والعقاد ومحمد مندور وقاسم أمين ثم حاوروهم، ولا أحب الحديث عن التجاوز لاختلاف السياق، في حين عاش الشرق تدميراً ذاتياً أحيانا خاصة بعد حرب 1967. إذا حصرنا نظرنا في المُنجز في مجال الدراسات الأدبية من نقد وبلاغة وأسلوبية، ومناهج.. الخ فنلاحظ بوضوح أن الحصيلة كبيرة حدّاً كما وكيفا برغم كل التحفظات التي يمكن إبداؤها في نهاية المطاف. عندما التحقنا نحن جيل الاستقلال، كما يقال، بالجامعة، بعد عشر سنوات من الأربعين المعدودة في عمرها أي في سنة 1968 كان أغلب الأساتذة المغاربة المكلفين بتدريس النقد والبلاغة وتاريخ الأدب عامة إما مُلحقين أو مُساعدين، وكان التطلع في معرفة النقدين العربي والغربي مُوجها إلى أساتذة من الشرق العربي (وهنا لابد من التنويه بالدور الذي لعبه أستاذنا أمجد الطرابلسي حفظه الله في التعريف بالنقدين العربي والغربي، لقد كان مدرسة كاملة متكاملة علما وخلقا.) وفي نفس الوقت كان حماسُ مجموعة من الأساتذة المغاربة يتجاوب مع حماس طلابي قوي. كان الأساتذة أحمد اليابوري ومحمد برادة ومحمد السرغيني والشاعر الفحل والناقد المتذوق المرحوم أحمد المجاطي أول الطلائع في الربط بالدراسات الحديثة والموجات الشعرية والروائية الحديثة. وقد تحمل هذا الجيل عبء التدريس والإشراف بما لا يتناسب مع مهمة الكتابة والنشر فلهم عظيم الشكر وكبير التقدير. وإذا كانت سنوات السبعينات سنوات تكوين الأطر الجامعية المغربية سواء داخل المغرب أو في أوربا فقد كانت في الوقت نفسه سنوات الإعداد لدخول مجال التأليف والترجمة والنشر. فلم يمض غير وقت قصير من الثمانينات حتى ظهرت طلائع التأليف المجدد في النقد الأدبي والدراسات الأدبية عامة على يد مجموعة من طلبة السبعينات. ظهرت كتب في إطار البنيوية التكوينية لمحمد بنيس وعبد الله راجع. ثم بدأ مشروع الأستاذ محمد مفتاح في سيمياء الشعر.وكان ظهور مجلة دراسات أدبية ولسانية كما جاء في ديباجة إنشائها استجابة للتوجه التحديد في مجال الدراسة الأدبية أصلا، سارت مجلة دراسات سميائية ومنشوراتها في نفس الطريق. وفي بداية التسعينات ظهرت مجلة علامات وأخيراً مجلة فكر ونقد.. وقد صار المغرب اليوم يُصدر الأساتذة الباحثين إلى المشرق العربي. كما أصبحت حصة الكتاب المغاربة في المجلات الشرقية مثيرة للانتباه بعد أن كان المغاربة مشهورين بالعزوف عن الكتابة والتدوين. وبعد، ما هي الظروف التي سمحت بتحقيق هذا الإنجاز في وقت أعتبره وجيزا؟ هناك أمران عرفناهما بالمعايشة ولاحظنا أثرهما الملموس: 1 أولهما، المناخ الفكري الحي والطموح وانفتاح الآفاق. لقد انفتح المغرب على الفكر الإنساني لفترة غير وجيزة خلال الستينات وبداية السبعينات أقصد الفكر الفلسفي والتاريخي النقدي ولا أحد يجهل الدور الرائد لِ محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومن عمل معهما أو حاورهما.. ثم كان الاطلاع على اللسانيات والمنطق. ولاحظ للناقد قد ما لم يكن له هذا البعد المعرفي الذي يمتد في القديم والحديث دون تمييز. 2 الوضع المادي للجامعة لقد كان الطالب الجامعي منذ الثلاثين مطمئنا على حاضره ومستقبله، وكان الطلبة متفرغين للدراسة. نتمنى أن تتحسن الأوضاع المادية.