في زمن تتعاظم فيه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وتشتد الحاجة إلى تعبئة كل الطاقات الوطنية من أجل التنمية، تصبح مسألة حماية المال العام ليست فقط شأناً قانونياً أو تقنياً، بل قضية مجتمعية مركزية تمس مصداقية الدولة، وتعكس مدى التزامها بمبادئ العدالة والشفافية والمحاسبة. لقد آن الأوان لأن تتوقف الممارسات التي تستهين بالمال العام أو تعتبره غنيمة سياسية أو إدارية. فاستمرار الإفلات من العقاب، وتراخي بعض المؤسسات في تفعيل القوانين، يساهمان في إضعاف ثقة المواطن في الدولة، ويكرسان ثقافة الريع بدل ثقافة الاستحقاق. قوانين أساسية مثل تجريم الإثراء غير المشروع، ظلّت تُقدَّم في فريق الاتحاد منذ سنوات، وفي كل مرة يتم وضعها على رف التشريع لتظل خارج نطاق التفعيل والتنزيل. وليس الأمر ترفاً ولا مزايدة سياسية، بل هو في عمق روح دستور 2011، الذي أقرّ مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وكرّس الحق في محاربة الفساد كرافعة أساسية لإرساء دولة القانون والعدالة. إن الاستثمار في دولة القانون لا يقل أهمية عن الاستثمار في البنية التحتية أو الموارد البشرية. فالمستثمر، سواء كان محلياً أو أجنبياً، يبحث عن بيئة مؤسساتية آمنة، عن إدارة شفافة، عن قضاء نزيه، وعن مؤسسات تحترم القواعد وتطبّقها على الجميع دون تمييز. إن تعزيز الثقة بين المواطن والدولة، وبين المستثمر والسوق، يمر عبر تقوية منظومة العدالة، وتفعيل قوانين الزجر والمحاسبة، وضمان الشفافية في تدبير المال العام. وليس هناك مؤشر أكثر دلالة على نضج الدول من قدرتها على محاسبة مسؤوليها، وعلى حماية مقدرات شعوبها من التبديد وسوء التدبير. هي قضايا كبيرة تهم البناء القانوني لمؤسسات البلد، وهو أمر يتطلب صبراً وقوة إيمان بالمشروع الإصلاحي من الداخل، لا من خارج المنظومة، ومن داخل المؤسسات الشرعية، لا عبر التهويل أو التبخيس. ونختم بالقول: هذه قضايا أساسية ومؤسسة للمستقبل، ويتطلب طرحها شجاعة سياسية حقيقية. والاتحاد لا يتردد في طرحها اليوم عبر برلمانييه في المعارضة الاتحادية، وفي ذلك فليتزايَد من يريد المزايدة. لكن الأهم اليوم، أن يتحمّل المشرع مسؤوليته كاملة، وأن يضطلع بدوره التاريخي في تسريع إنجاز النصوص القانونية ذات الصلة بحماية المال العام، دون تلكؤ أو حسابات ضيقة. فالقوانين لا تحمي المال العام وهي حبيسة اللجان، ولا تصون الثقة الوطنية إذا تأخرت أو فُرّغت من مضمونها. حماية المال العام ليست ترفاً تشريعياً، ولا موضوعاً هامشياً يمكن تأجيله أو الاستهانة به، ولا حتى الخوف من طرحه بحجة الاصطفافات أو التوازنات، لأنها في جوهرها معركة وجود، ومعركة بناء وطن، لا يخوضها إلا من يمتلكون قوة النفس، وصفاء الإرادة، ونُبل الغاية. إنها معركة تتجاوز الأشخاص والولاءات، وتتعلق بجوهر الدولة نفسها: أي دولة نريد، وأي ثقة نرجو، وأي استثمار نأمل؟ وهي معركة لا يمكن كسبها إلا بقوانين واضحة، وتطبيق صارم، وإرادة سياسية شجاعة تُعلي المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار.