بينما توشك الحرب الإيرانية الإسرائيلية أن تصل إلى نهايتها بعد جولة محدودة من الاشتباكات، تشير المؤشرات الأولية إلى أن إيران خرجت من الصراع بأرباح استراتيجية، فيما تعرض الكيان الإسرائيلي لضربات عميقة أثرت على صورته التقليدية كقوة رادعة لا تقهر. خلال هذا النزاع، تعرضت إيران لخسائر بشرية وعسكرية كبيرة، بما في ذلك اغتيال 18 عالماً نووياً، ونحو عشرين من الضباط العسكريين والاستخباريين البارزين، فضلاً عن مئات الشهداء وآلاف الجرحى. ومع ذلك، فإن هذه الخسائر تبدو أقل حدة بالمقارنة مع الأضرار التي لحقت بإسرائيل، خاصةً من الناحية النفسية والبنية الدفاعية. فقد كشفت الحرب هشاشة البنية الأمنية الإسرائيلية، حيث تبين أن قدرتها على الصمود دون دعم أمريكي مباشر كانت محدودة للغاية. كما تراجعت الهالة التي أحاطت ب"القبة الحديدية"، التي فشلت في صد عدد كبير من الصواريخ الباليستية الإيرانية، ما شكّل ضربة معنوية للثقة العامة بالنظام الدفاعي الإسرائيلي. من ناحية أخرى، أظهرت إيران مستوى غير متوقع من التماسك الداخلي، رغم وجود عملاء تم القبض عليهم داخل البلاد. وقد ساهم هذا التماسك في تقوية موقع النظام الإيراني داخلياً، وهو ما يُعد عاملاً استراتيجياً مهماً في استقرار الدولة على المدى الطويل. على المستوى الإقليمي، تجاوزت إيران اختباراً مهماً في استخدام القوة، وأثبتت أنها تمتلك قدرات صاروخية متقدمة قادرة على الوصول إلى عمق الأراضي الإسرائيلية. ورغم عدم فعالية تحالفاتها مع الدول الكبرى مثل روسيا والصين في تقديم دعم مباشر خلال الحرب، إلا أن القدرة الإيرانية على العمل بشكل مستقل أعطت زخماً جديداً لدورها الإقليمي. في المقابل، تلقى إسرائيل ضربات نفسية واقتصادية كبيرة، بدءاً من حالة الذعر التي سيطرت على السكان المدنيين وتكدسهم في الملاجيء، وصولاً إلى الهجرة الجماعية التي شهدها الكيان منذ الأيام الأولى للحرب. كما تضررت بنية تحتية حيوية في مدن رئيسية مثل تل أبيب وحيفا، مما سيتطلب سنوات لإعادة إعمارها. كذلك، أظهرت الحرب أن إيران، رغم الحصار الاقتصادي الذي استمر عقوداً، تمكنت من تطوير قدراتها العسكرية والدفاعية بشكل لافت. وهذا يطرح تساؤلات حول إمكاناتها المستقبلية إذا رُفع عنها الحصار وتمكّنت من الانفتاح على الاقتصاد العالمي. أما بالنسبة لمستقبل السياسة الإيرانية، فمن المرجح أن تتجه طهران إلى إعادة تقييم أولوياتها الخارجية، خصوصاً بعد أن كشف الصراع حدود التزام حلفائها التقليديين، مثل روسيا والفصائل المسلحة في المنطقة. قد تركز إيران في المرحلة المقبلة على تقوية الداخل، وتطوير بنيتها الاقتصادية والعسكرية، بدلاً من الاستمرار في التورط في الصراعات الإقليمية. على الصعيد العربي، لوحظ موقف شعبي ورسمي متفاوت إلى حد ما، مع تأييد بعض القوى العربية لموقف إيران، خاصةً في إطار تصاعد التوتر مع إسرائيل. هذا التغير قد يُعيد تشكيل العلاقات بين إيران وجيرانها العرب، خاصةً في حال استمرار تراجع الثقة في الولاياتالمتحدة وحلفائها الغربيين. باختصار، يبدو أن إيران خرجت منتصرة من الناحية الاستراتيجية من هذه الحرب، بينما كشفت إسرائيل نقاط ضعف جديدة قد تؤثر على حساباتها الأمنية والعسكرية في المستقبل. لا يمكن القول إن إسرائيل حققت انتصاراً عسكرياً أو سياسياً واضحاً في هذه الجولة من التصعيد، كما أن الحديث عن هزيمة كبرى لها قد يكون مبالغاً فيه. لكن ما هو مؤكد هو أن الكيان الإسرائيلي تعرض لتجربة إعلامية وعسكرية وسياسية تركت أثراً عميقاً في صورته التقليدية كقوة رادعة لا تقهر. من جانبه، لم تحقق إيران نصراً شاملاً بالمعنى الاستراتيجي الكامل، لكنها نجحت في تجاوز اختبار صعب دون أن تتعرض لأي ضرر استراتيجي حقيقي. وبقي النظام الإيراني قائماً وأظهر قدرة عالية على التعافي السريع ورصّ الصفوف، وهو ما يُعد مؤشراً مهماً على تماسكه الداخلي وقدرته على إدارة الصراعات المفتوحة. لقد كانت هذه الحرب لحظة تحول في الإدراك الإقليمي لقدرات الطرفين. ففي الماضي، اعتادت إسرائيل خوض حروب قصيرة مدتها ساعات أو أيام، لتخرج بعدها مُلزِمة للخصوم بشروطها السياسية والعسكرية. أما اليوم، فإن المعادلة تغيرت. استمرار الحرب حتى ولو لفترة قصيرة كشف نقاط ضعف داخلية في إسرائيل، خاصةً في الجبهة الداخلية، والتي ستكون لها آثار بعيدة المدى على حسابات الأمن القومي الإسرائيلي. البرنامج النووي الإيراني، الذي يتجاوز كونه مجرد منشآت، أثبت أنه قادر على الاستمرارية والتطور عبر قاعدة بشرية علمية واسعة ومعرفة متراكمة على مدى ثلاثة عقود. كذلك، أثبت البرنامج الصاروخي الإيراني جدارته الاستراتيجية، ليس فقط من حيث الفعالية العسكرية، بل أيضاً من حيث الردع السياسي والتأثير النفسي. أما بالنسبة للقيادة الإيرانية، فقد خرجت من هذا الصراع بمستوى أعلى من الشعبية والشرعية داخل البلاد، خاصةً في ظل تصاعد المشاعر القومية ورفض الانحناء أمام الضغوط الخارجية. ومن المؤكد أن هذا العامل سيعزز موقعها في الداخل وسيعطي زخماً أكبر لسياستها الخارجية في المرحلة المقبلة. على الجانب الآخر، يبدو أن القيادة الإسرائيلية، وعلى الرغم من المحاولات الخطابية لإظهار السيطرة، عانت من تضارب واضح في الرسائل خلال الساعات الأخيرة قبل دخول "الهدنة" حيز التنفيذ. فبينما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن "قرب التوصل إلى السلام"، حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التأكيد على استمرار العمليات العسكرية، قبل أن يعود ليعلن موافقة الكيان على وقف إطلاق النار الحرب كشفت أن الدفاعات الجوية الإسرائيلية، رغم تعددها وتكنولوجيتها، لم تتمكن من صد عدد كبير من الصواريخ الإيرانية الدقيقة، التي استهدفت مواقع أمنية وعسكرية واقتصادية وحتى مدنية. كما أن مخزون الصواريخ الدفاعية تراجع إلى مستويات تثير القلق، في حين أن تعويضه ليس أمراً سهلاً، خصوصاً مع كثافة الهجمات الإيرانية واستمراريتها. ما حصل في هذه الجولة يتجاوز مجرد تبادل ضربات عسكرية. نحن أمام لحظة استراتيجية غير مسبوقة في منطقة الشرق الأوسط، تعيد تشكيل موازين القوى وتفتح الطريق أمام إعادة النظر في العديد من الثوابت السابقة. إيران تخرج من هذا الصراع أكثر مناعة، بينما تواجه إسرائيل تداعيات داخلية وخارجية قد تستمر لسنوات.