لا تزال حناجر الجماهير تصدح غضبا أمام مشاهد القتل الجماعي في غزة، فيما تموج الشوارع والساحات في عواصم الغرب بحشود هادرة تستهجن سياسة تجويع الفلسطينيين وترويع الأطفال والشيوخ. وامتدت عدوى هذه الصحوة إلى أوساط النخب والمفكرين والمؤثرين والفنانين واقتحمت جذوتها الدوائر الأكاديمية ورجالات الصحافة وجعلتهم، للمرة الأولى منذ ثورة الطلاب في فرنسا في ستينيات القرن الماضي، في مواجهة مباشرة مع حكوماتهم ومع أذرع اللوبي اليهودي المتنفذ. وأفرز ذلك كله وعيا جديدا بعدالة القضية الفلسطينية أطلق شرارة نقاشات محمومة أعادت طرح الأسئلة الحارقة من منظور وزوايا جديدة. على أن هذا التحول في وعي الغرب، وقد تحرر من الزيف وأغلال التنميط، اتخذ أشكالا من أشكال المقاومة الثقافية والسياسية للسرديات الإسرائيلية حيال القضية الفلسطينية بما في ذلك ضمن اليهود الغربيين المناهضين للصهيونية. ولا يغرب عن البال أن هذا الوعي الشقي جاء عاكسا لتبدل المزاج العام في أوروبا والولاياتالمتحدة، وفرض انزياحا أخلاقيا لدى شرائح وأطياف واسعة من المجتمعات في الغرب جعل منها أداة ضغط على حكوماتها ، وصوتا جهوريا يحث على تأصيل الشرعية الدولية واحترام القانون الدولي ، وينتصر لقيم الإنسانية في مواجهة التغول الإسرائيلي. أفضى ذلك كله إلى تبدل في مواقف الدول الغربية من إسرائيل وإلى دعوات لمراجعة شاملة للتعاون معها في تحول جذري هو ثمرة حراك شعبي جارف. يقابل هذه الصحوة، انتكاسة في الوعي العام العربي وجمود حسِّي لم تفلح حتى مأساة بحجم غزة أن تنفخ الروح فيه ، وتعيد نبض الحياة إلى جسده العليل. ومع تسليم بأن الوعي تعريفا هو قدرة الإنسان على الإدراك الحسِّي والمادي لمحيطه والتفاعل معه، فإن العقل العربي ، يبدو في مواجهة فظاعات غزة الصادمة، وما رافقها من استباحة لخريطة العالم العربي وسيادته، في حالة غيبوبة، غير منتبه ولا مدرك لرهانات المرحلة وخطورتها، وهي تقود في خلاصاتها، إلى تنازلات مجانية وحالة هرولة إلى التطبيع مع إسرائيل مرغوب فيه في أحايين كثيرة. ولا يجد المتأمل في حالة الجمود هذه أو الساعي لفهم مسبباتها الموضوعية كبير عناء في استنباط جذور نكوص الموقف العربي الرسمي. إذ إن مواقف الدول العربية حيال الحرب في غزة اتسمت في معظمها بالضعف والخذلان ، ولم ترق إلى حجم الخطر الوجودي الذي يتربص بسكان قطاع غزة والضفة الغربية، واقتصرت على بيانات الشجب والإدانة الفضفاضة ، وصمت قبور تنبعث منه رائحة التواطؤ والتآمر في الكثير من الأحيان. على أن دواعي هذا الموقف، وهي متعددة ومتشعبة ، تكمن في ارتباط حركة حماس بإيران وأجنداتها بالمنطقة وارتهان مواقفها بطهران فيما يراد منه تقديم الحركة كأحد أذرع الجمهورية الإسلامية في المنطقة وليس مجرد حركة مقاومة ضد الاحتلال. وفي هذا الباب ، يجب كذلك استحضار حقيقة أن بعض الأنظمة العربية تجهر بعدائها لحركة حماس ولكل ما يمت للإسلام السياسي بصلة ، وذلك في سياق الثورات المضادة التي شهدتها دول عربية عدة بعد الربيع العربي الذي جعل أحزابا إسلامية تصل لأول مرة في تاريخها للسلطة. بل إن أنظمة عربية محورية ومعها السلطة الوطنية الفلسطينية التي خرجت من رحم اتفاق أوسلو، أسرت للولايات المتحدة وإسرائيل بعدم ممانعتها لاستمرار الحرب في غزة آملة في دحر حركة حماس وقطع دابرها ، لأن انتصار المقاومة الإسلامية يعني بداهة إحياء لمشروع الإسلام السياسي ، وبالنتيجة الدفع باتجاه موجة ربيع عربي ثانية قد تطيح بهذه الأنظمة التي تفتقر لأي مشروعية ديموقراطية. ويمكن كذلك فهم طبيعة هذا الموقف المتخاذل في تحاشي الأنظمة العربية إثارة غضب الولاياتالمتحدة وخصوصا إدارة الرئيس دونالد ترمب إن هي أبدت تعاطفا وتضامنا مع الفلسطينيين . وللتدليل على هذا التقاعس تكفي الإشارة إلى أن الدول العربية أحجمت جميعها عن الانضمام لجنوب إفريقيا في القضية التي رفعتها ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة بحق الفلسطينيين ، وساهم بعضها في تشديد الحصار على الفلسطينيين ومنع دخول المساعدات الإنسانية للقطاع وبحث ترتيبات سرية في الكواليس مع الإدارة الأمريكية بشأن مستقبل القضية الفلسطينية ومرحلة ما بعد الحرب في غزة. وبينما ارتفع سقف الخطاب السياسي المناهض للعربدة الإسرائيلية في الدول الغربية ، وازداد صلابة في نقد سياسة التجويع والقتل في غزة بلغة لا لبس فيها، بدت مواقف الدول العربية أكثر وهنًًا واستحياء وأقل حدة وشراسة . أبعد من ذلك لم تبادر أي دولة عربية مرتبطة بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل إلى قطع هذه العلاقات أو تجميدها في الحد الأدنى ، بل إنها استماتت في الدفاع عن هذه العلاقات وإيجاد المسوغات لها فيما أن روابط بعض الأنظمة العربية مع إسرائيل ازدادت ، وفق تقديرات غربية ، متانة وارتقى مستوى التنسيق معها ، أمنيا وعسكريا واستخباراتيا ، إلى مستويات غير مسبوقة خصوصا بعد السابع من أكتوبر. على أن حالة الشلل التي اعترت الموقف الرسمي العربي من الحرب في غزة امتدت على نحو معد للشارع العربي و للأوساط الشعبية مع استثناءات محدودة . وكان لافتا أن زخم التضامن مع القضية الفلسطينية انحسر على نحو صادم في خريطة العالم العربي حتى كادت تختفي المسيرات وفعاليات التضامن على ضآلتها وقلة المشاركين فيها. وبات الجهر بدعم غزة والمقاومة ومناهضة التطبيع مع إسرائيل شبهة وجريرة تجر على صاحبها نقمة الحكام ، واتخذت منها السلطات فزاعة لترهيب المواطنين والنخب المحلية لتحجيم رقعة التضامن مع غزة. إن هذا الصمت هو في مجمله نتيجة حتمية لمشاريع تدجين البنى السياسية النشطة في المجتمعات العربية ، وضعف قدرة الأحزاب والنقابات على تأطير الشارع، وامتداد لثقافة تبخيس قيمة الحرية ، وتجريف العمل السياسي ، ومصادرة الحق في التعبير وتقييد حرية الرأي الذي مارسته الأنظمة العربية على شعوبها على مدى عقود طويلة. إن مستوى تفاعل الشارع العربي مع الحرب في غزة ، وقد اختلفت درجاته من مجتمع لآخر باختلاف السياقات والظروف، ليس مرده إلى تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية كما يروج هنا وهناك ، ولا إلى تغيير في سلم أولويات المواطن العربي جراء تبعات الربيع العربي بترجيحه كفة القضايا الاجتماعية والاقتصادية على حساب القضايا السياسية والأمن القومي العربي ، بل لسيادة ثقافة الخوف وتكميم الأفواه التي جعلت من أصوات الشعوب همسا يكاد لا يسمع له صدى في بيئة تعادي الديموقراطية.