في دلالة المفهومين: المسؤولية والمحاسبة تفيد "المسؤولية" (responsibility) في الفكر التدبيري تحميل الشخص المتقلّد لمنصب أو المكلّف بمهمّة – أي المسؤول صاحب التكليف والتشريف باتخاذ القرار وتنفيذه – عبء الإجابة عن الأفعال والقرارات التي صدرت عنه وتحمل تبعاتها. وفي الفكر القانوني، تطور المفهوم ليشمل أبعادًا قانونية وأخلاقية ترتبط بالخطأ، التقصير، والمخاطر. أما "المحاسبة" (accountability) فتعبّر عن الالتزام بتقديم التفسير والجواب عن مدى احترام الالتزامات وتحقيق الأهداف المرتبطة بالمهمة الموكلة، وتمتد إلى مساءلة حقيقية قد تقود إلى تبعات قانونية أو إدارية أو مالية إيجابية أو سلبية (الثواب أو العقاب). وفي هذا السياق، تقوم المحاسبة على ثلاثة شروط: تحديد المسؤولية، توفير المعلومة، وإمكانية تقييم الأداء. من المسؤولية إلى المحاسبة تنشأ العلاقة بين المفهومين من منطق تتابعي متداخل، لكنه ليس طرديًا بالضرورة. فإذا كان من غير المتصوّر منطقيا أن تكون المحاسبة بدون مسؤولية، فمن الممكن عمليًا أن تكون المسؤولية بدون محاسبة، أي ممارسة السلطة دون حساب أو عقاب، وهو ما لا يستقيم في المنظور الديمقراطي وآليات الحكامة الجيدة. مثال: في كثير من الحالات، يتم إطلاق مشاريع عمومية كبرى – مثل بناء مستشفيات أو طرق أو مدارس – بكُلفة مالية كبيرة، ثم تفشل هذه المشاريع بعد مدة قصيرة بسبب رداءة التنفيذ أو غياب الدراسة المسبقة، دون محاسبة أي مسؤول عن هدر المال العام. وأحيانًا يُنقل المسؤول إلى منصب آخر دون تحقيق أو متابعة. هذا المثال يُجسّد تمامًا مفارقة المسؤولية بدون محاسبة. ولا تُفضي المحاسبة إلى أثر فعلي دون وضوح في تحديد الأدوار والمسؤوليات. فالمسؤولية تنبثق من تفويض السلطة أو تكليف بالمهمة، لكنها تظل مترابطة بالشخص المعني حتى بعد التفويض، ولا يمكن تفويضها كلية. في المقابل، لا تُفوَّض المحاسبة إطلاقًا، لأنها قائمة على آليات الرقابة والتتبع والتقييم. الشفافية كشرط بنيوي لتفعيل المحاسبة الشفافية ليست منفعة ثانوية، بل هي الأساس الذي تُبنى عليه المحاسبة. فبدون تدفق حر ومنظّم للمعلومة الإدارية والمالية، تتحول المساءلة إلى شعار بلا مضمون. مثال: حين أتاحت بعض الدول بوابات رقمية تمكّن المواطنين من تتبّع صرف ميزانيات البلديات بالتفصيل، ارتفع وعي الناس وتقلصت النفقات غير المبررة بنسبة 30%. لذلك، يجب أن تلتزم المؤسسات والهيئات المعنية بما يلي: كشف القواعد واللوائح المعتمدة. توضيح مبررات القرارات. بيان كيفية استخدام الموارد والنتائج المحققة. الاستجابة للنقد والاقتراحات. وباستيفاء هذه الشروط، إلى جانب تشجيع المبلّغين عن الفساد وحمايتهم، تُصبح المحاسبة مؤسسية معزّزة بالشفافية، وتتيح مراقبة فعلية ومحاسبة فعالة وإجراءات تصحيحية عند الضرورة قبل وأثناء وبعد ممارسة المسؤوليات. تفويض السلطة وتوزيع المسؤولية تفويض السلطة آلية أساسية لتوزيع المهام، لكنه لا يعفي المفوِّض ولا المفوَّض إليه من المساءلة. مثال: في إحدى الإدارات العمومية، وُجد أن أحد المسؤولين وقّع عقودًا غير قانونية، وحين سُئل المسؤول الأعلى أجاب: "فوضتُ له التوقيع". لكن القضاء حمّله المسؤولية أيضًا، لأن التفويض لا يُعفيه من الرقابة على المفوَّض إليه. لذا، يجب أن يُهيكل التفويض قانونيًا وتنظيميًا، عبر نصوص واضحة تحدد حدود السلطة والمسؤولية وتمنع تداخل الاختصاصات أو الغموض، حتى يتسنى وضع الأسس التي يستند إليها النظام الرقابي في مساءلة الأداء ومعرفة "من يحاسب من" وبأي أسس وأدوات. الربط الإداري بين المسؤولية والمحاسبة المحاسبة الإدارية الفاعلة لا تكتفي بالفحص المالي، بل تشمل ثلاثة مستويات مترابطة: محاسبة الأداء: التحقق من تنفيذ المهام حسب الأهداف المعلنة. محاسبة الأثر: تقييم النتائج الحقيقية على الواقع العمومي والمواطنين. محاسبة الموارد: التأكد من العلاقة بين الموارد المستخدمة والنتائج المحققة. بهذا، يتم تقييم شامل لأداء الإدارة العمومية، ليس فقط في الإجراءات، بل في مضمون السياسات وتأثيرها الفعلي. الربط السياسي بين المسؤولية والمحاسبة يشكل هذا الربط ركيزة أساسية لإضفاء الشرعية على القرار السياسي وضبط السلطة. فالسلطة التمثيلية تشتق شرعيتها من التعاقد السياسي، ويترجم ذلك عبر المساءلة الدورية من خلال البرلمان بوسائل مثل ملتمس الرقابة، لجان تقصي الحقائق، وآليات الانتخابات الشفافة في أوانها أو قبل أوانها، وهي كلها أشكال من المحاسبة السياسية. مثال: في دول شمال أوروبا، مثل السويد، استقال وزراء من مناصبهم بسبب مخالفات بسيطة نسبيًا، كاستخدام البطاقة الوزارية لشراء سلعة شخصية، أو سوء تدبير موارد عمومية بسيطة. ويكمل هذا الدور الإعلام والمجتمع المدني والمواطنون ضمن ما يُعرف بالمحاسبة الأفقية، لتعزيز التوازن بين السلطات ومنع تركيزها أو الإفلات من التبعات. وتقوم المحاسبة السياسية على قدرة المواطن على المراقبة، ليس فقط على المخرجات، بل أيضًا على اختيارات القرار السياسي ومدى انسجامها مع الالتزامات المعلنة. غير أن هذا النوع من المحاسبة يواجه تحديات خاصة في الأنظمة التي تعاني من ضعف استقلالية المؤسسات أو من القيود على الوصول إلى المعلومة. مثلث المحاسبة المؤسساتي يُفعَّل مبدأ الربط بين المسؤولية والمحاسبة عبر "مثلث المحاسبة"، الذي يشمل: الجهاز الأعلى للرقابة والمحاسبة، الذي يراجع الأداء ويُعد التقارير. البرلمان، الذي يستخدم هذه التقارير لمساءلة الحكومة. السلطة التنفيذية، التي تلتزم بتنفيذ التوصيات. مثال: عند صدور تقرير من المجلس الأعلى للحسابات يكشف اختلالات في تدبير مؤسسة عمومية، يتولى البرلمان مناقشته ويوجه أسئلة للحكومة، وتترتب عنه قرارات إعفاء أو مساءلة. وضمن هذا المثلث، يؤدي الفضاء العمومي – بما فيه المواطن والمجتمع المدني والإعلام – دورًا تكميليًا في مراقبة الأداء العمومي وتفعيل المحاسبة والمساءلة. التبعات القانونية والإدارية والسياسية للمحاسبة لكي تضطلع المحاسبة بدورها الفعلي، يجب أن تترتب عليها نتائج واضحة: نتائج سلبية: العزل، الإعفاء، المتابعة القضائية، استرجاع الأموال العامة، مصادرة الممتلكات المشبوهة، أو العقوبات السالبة للحرية في حالات الفساد الكبرى. نتائج إيجابية: التقدير، الترقية، المكافآت، والتكريم المؤسسي. في هذا السياق، يظهر دور القضاء والجهاز الأعلى للرقابة والمحاسبة المستقلين والفعالين كأساس لضمان تطبيق الجزاء بعدالة وحياد. كما أن للمحاسبة تبعات سياسية قد تؤدي إلى فقدان الثقة في أصحاب القرار وتراجع الشرعية السياسية، فضلًا عن ضغوط شعبية ومؤسسية تدفع نحو تغييرات في المناصب والسياسات العامة، مما يجعل المحاسبة آلية حيوية للحفاظ على توازن السلطة وتعزيز الشرعية السياسية. معوقات تفعيل المحاسبة أضحت المحاسبة اليوم مكونًا من مكونات العقد الاجتماعي الجديد، الذي يؤطر العلاقة بين الأداء العمومي وانتظارات المجتمع ويكرّس شرعية القرار. غير أن تفعيلها يواجه معوقات، من أبرزها: ضعف استقلال القضاء. ثقافة الإفلات من العقاب. غموض النصوص القانونية. الخلط بين الولاء السياسي والكفاءة. ما يدلّ على أن الربط بين المسؤولية والمحاسبة ليس خيارًا بسيطًا أو نسقًا جاهزًا للتطبيق، بل هو معركة يومية لتغيير العادات والأفكار والبنيات المؤسسية. ختامًا: نحو إطار متكامل لتفعيل المحاسبة تُعد القاعدة القانونية الضمان الأمين للمسار المحاسبي، شرط أن تكون النصوص واضحة وقابلة للتطبيق. ويجب أن تُنظم العلاقة بين المسؤولية والمحاسبة وفق معايير موضوعية تُكرّس المساواة وتمنع التمييز أو التحزّب في تطبيق الجزاءات. وفي المجمل، يصبح مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة حجر الزاوية في أي نظام يسعى إلى تحقيق الحكامة الجيدة وترسيخ الثقة العامة في المؤسسات وتحسين الخدمات. وتفعيله يتطلب: تحديدًا دقيقًا للمسؤوليات. شفافية كاملة في المعلومة. آليات رقابة داخلية وخارجية. استقلالية مؤسسات العدالة والرقابة. ثقافة مؤسساتية تُكرّس المحاسبة في كل تصرف لموظف عمومي أو مسؤول سياسي. صوتًا مسموعًا للمواطنين. ومع وجود هذا الإطار المتكامل، تنتقل المحاسبة من كينونة شكلية إلى فعل يومي يضبط الأداء، يردع التجاوزات، ويكافئ الجدارة، لتصبح العلاقة بين السلطة والمسؤولية من جهة، والمحاسبة والمساءلة من جهة أخرى، علاقة واقعية لا نظرية فقط. مقولة على الهامش: "عندما يصبح المسؤولون غير خاضعين للمحاسبة، يصبح الشعب هو من يدفع ثمن قرارات لا يملك السيطرة عليها." توماس جيفرسون محمد براو باحث وخبير دولي في الحكامة ومكافحة الفساد