لم يكن بالنسبة لي فوز المنتخب المغربي بكأس العالم في الشيلي حدثا رياضيا فحسب، بل لحظة رمزية تفيض بالدلالات التاريخية والسياسية فالمباراة النهائية التي احتضنها الملعب الوطني بالعاصمة سانتياغو — ذلك الفضاء الذي كان يوما شاهدا على واحدة من أبشع فصول القمع في تاريخ أمريكا اللاتينية — أعادت إلى الذاكرة اسما خالدا لدى الشعب الشيلي ولدى باقي أحرار العالم: فيكتور خارا، المغني والشاعر الذي اغتيل لأن صوته كان أقوى من الرصاص. في ذلك المكان نفسه، حيث كانت جدران المدرجات ذات يوم تردد صرخات وعذابات المعتقلين ضحايا ديكتاتورية بينوشي، ارتفع هذه المرة نشيد الفوز الكروي المغربي، بصوت شباب يبدعون فوق أرضية الملعب، وتحت أعين العالم، سمفونية كروية رائعة ستعلق بذاكرتهم وبذاكرة التاريخ. مفارقة مؤثرة تختصر رحلة الشعوب حين تنتقل من الجراح إلى الأمل، ومن الخوف إلى الفعل. لقد غنى فيكتور خارا في وجه الفاشية أغنيته الأخيرة، بينما غنى المغاربة اليوم نشيد فرحهم بالفوز في وجه اليأس والشك، ليقولوا: إن الشعوب التي تؤمن بالحياة لا تموت. لقد استطاعت الشيلي، بعد عقود من الألم، أن تعيد الاعتبار لضحاياها، وأن تكرم فنانها الشهيد بإطلاق اسمه على الملعب ذاته الذي احتضن عذابه. بذلك جسدت معنى المصالحة الوطنية الحقيقية: ذاكرة لا تُطمَس، وعدالة لا تؤجل، وديمقراطية تبنى على الاعتراف لا على النسيان. واليوم، يمكن للمغرب أن يستلهم هذا المسار؛ فالفوز الرياضي، في عمقه، ليس مجرد تتويج كروي، بل فرصة رمزية لتجديد العهد والتطلع المتواصل لقيم الحرية والعدالة والكرامة التي ينادي بها شبابه اليوم، إنها لحظة مناسبة لتوسيع آفاق الانفتاح السياسي، وإطلاق المعتقلين على خلفيات الرأي والتعبير، وللإصغاء الجاد إلى أصوات الجيل الجديد التي تطالب بعيش كريم، وخدمات عمومية لائقة، وفرص عادلة، ومحاربة فعلية للفساد الذي ينتشر بشكل سرطاني في جميع مفاصل الدولة والبلاد. فكما غنت الشيلي من جديد في ملعب فيكتور خارا (الملعب الوطني)بعد عودتها للديمقراطية، يمكن للمغرب أن يجعل من هذا الفوز التاريخي لحظة فاصلة، لتبعث روحا جديدة في توصيات ومخرجات العدالة الانتقالية ببلادنا لاسيما إنصاف الجهات والمناطق التي كان من المفروض أن تكون مختبرا لترجمة لواحدة من إبداعات العدالة الانتقالية – أتكلم هنا عن جبر الضرر الجماعي الذي مع كامل الأسف تأخرت الدولة في ترجمته على الأرض، وهو ما كان سببا في عدد من الحركات الاحتجاجية بهذه المناطق– ولتعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها. فالألقاب الكروية و الكؤوس ترفع بالأقدام، لكن الأمم لا تنهض إلا حين ترفع القيود عن الأيدي والعقول. من سانتياغو إلى الرباط، هناك خيط ناظم من الرمزية والدلالات: أن الغناء والحرية وجهان للكرامة الإنسانية، وأن الرياضة، مثل الفن، قادرة على إعادة تعريف العلاقة بين الشعب وتاريخه ومستقبله وبالأخص تعزيز اللحمة بين جميع أطيافه ومكوناته، لحمة الحرية والديمقراطية ولحمة التضامن والتعايش والكرامة الاجتماعية.