تكتب ببطء في عالم يركض بسرعة. تراهن على التاريخ، لا على «الترند». تنشر قصصًا وتحقيقات طويلة في زمن «البوست» و«التغريدة». تجعل من مدققي الأخبار، داخل غرفة تحريرها، نجومها الحقيقيين، لا صحافييها. لا تزعجها تهمة النخبوية، ولا نعتها بأنها تكتب من فوق عمارات مانهاتن الشاهقة. لا تتردد في رفع شعار: هذه مجلة تحقيقات، وليست رواية... لكنها تُقرأ كرواية. لا تتخلى عن السخرية والكاريكاتور حتى وهي تغطي أكثر الحروب دموية. قررت مجلة The New Yorker أن تكون ذاتها، لا نسخةً شبيهةً بشيء آخر. كل سنة، لا يسأل الصحافيون: هل حازت المجلة على جائزة بوليتزر؟ بل يسألون: لماذا لم تحطّ الجائزة هذا العام رحالها في غرفة تحريرها؟! احتفلت المجلة النيويوركية هذا العام بقرنها الأول (تأسست سنة 1925 على يد صحافي موهوب، ابن الليل، يدعى هارولد روس وصف أحد زملاء روس وجهه حين أسس المجلة : إنه يبدو كما لو كان "خريطة بعد الحرب"، فقد كانت أسنانه معوجة، وشعره دائم الفوضى، وحديثه مشبع بالألفاظ البذيئة. كان روس قد عاد من الخدمة في الحرب العالمية الأولى، ليعمل في مجلة للمحاربين القدماء، وبعد أن أُغلقت المجلة، وجد نفسه ضائعًا في نيويورك،فاقدم على أجمل مغامرة .). احتفلت المجلة بعيد ميلادها المائة بتنظيم مهرجان خاص، وعدد خاص من المجلة، ووثائقي خاص عن مطبخها الداخلي وكواليس صناعتها، من إنتاج «نتفليكس»... ماذا تريد أكثر من هذا؟ قبل أسابيع كتبت عن عيد ميلاد جريدة لوفيغارو، le figaro وعن ظروف ولادتها، وأخطائها، ومكانتها في المشهد الإعلامي الفرنسي. واليوم أكتب عن مجلة تصدر على مسافة 6000 كيلومتر من المغرب، ببساطة لأنني لا أجد ما يُقرأ من صحافة في بلادي. أقولها كناشر سابق، بالكثير من الألم والحسرة. عندما لا يجد الإنسان فرحًا في بيته، يفرح مع بيوت الجيران. هذه عادة قديمة ورثتها مع الذين عاشوا في الأحياء العتيقة في المدينة القديمة (مكناس)، حيث يشترك الجيران في كل شيء...في الفرح كما في الحزن في الشدة كما في الرخاء نحن، إعلاميًا، نعيش اليوم في قرية صغيرة. الإنترنت عولم كل شيء تقريبًا؛ حتى المشاعر صارت عابرة للحدود، وللبحار، وللثقافات...اذن لنشترك مع بلاد تقع مباشرة قبالة شواطئنا على بعد آلاف الكيلومترات من محيط ممتد لا يقطعه شيء. عودة إلى المجلة العريقة التي تُعتبر اليوم أيقونة الإعلام الرصين في العالم، إلى جانب The Economist البريطانية .. أولًا: الأسلوب تُقرأ المجلة كرواية، بأسلوب الحكي الصحافي الذي يبحث عن القصة وراء كل حدث، والذي يروي ما جرى ويجري على لسان الشهود، أو الضحايا، أو المجرمين، أو المقرّرين، أو المنتصرين، وغالبًا بلسان المهزومين. (خصصت المجلة، كما يقول أرشيفها، عددًا كاملًا لناجين من قنبلة هيروشيما التي حسمت حرب أميركا ضد اليابان). فكرة المجلة، أو مساهمتها الأبرز، هي أن الصحافة يمكن أن تكون أدبًا دون أن تخون الحقيقة ان تكون ساخرة وجدية في نفس الوقت، ان تخبر وان تبهر كما تفعل نيويورك بسكانها وزوارها … لهذا ينقسم فريقها إلى صحافيين ومحررين ومدققين كل خبر او تحقيق او نقد او رأي تعاد صياغته وعجنه حتى يبقى الانسجام سيد الموقف ... خيط رابط بين اول صفحة وآخر كلمة في المجلة . ثانيًا: غرفة عمليات تدقيق صحة الأخبار وموثوقية المصادر هذه واحدة من أقوى نقاط هذه المجلة، التي تبلغ اليوم مئة عام. حتى إن طاقمها يفتخر بكونه لا يصنع من الصحافيين نجومًا داخل هيئة التحرير، بل يصنع من المدققين في صحة المعلومات والمصادر والوثائق النجومَ الأوائل في رحلة الصدور الأسبوعي... الفيلم الوثائقي على «نتفليكس» يركّز على هذا الجانب: فريق يكتب، فريق يحرّر، وفريق ثالث يُفتّش في كل رقم، وكل صفة، وكل معلومة، وكل مسافة بين شارعين، إذا ذكر صحافي مدينة صغيرة في المغرب او ايران او إثيوبيا يتبعه المدقق ليخبر القراء بعدد سكانها وموقعها في الخارطة فريق يدقق في كل «قال» و«لم يقل» واردة في تقرير أو تحقيق، حتى لا يخرج النص إلى القارئ وفيه ثقب صغير يتحوّل لاحقًا إلى فضيحة كبيرة. وهذا ليس مجرد كلام دعائي. المجلة نفسها نشرت سنة 2025 مادة عن تاريخ قسم التدقيق لديها، وفيها تفاصيل شديدة الدلالة: المدققون يتواصلون مع المصادر واحدًا واحدًا، بما في ذلك الأشخاص الذين ورد ذكرهم «على الهامش»، لكنهم لا يقرؤون الاقتباسات لطلب «اعتمادها» من المصادر، ولا يمنحون المصدر حق إعادة كتابة النص الذي وضعه الصحافي الهدف الاول هو التأكد ان هناك مصدر اول ومصدر ثاني وهناك معلومة وهناك تصريح . المصدر يمكنه أن يعترض ويقدّم أدلة على الخطأ فيما نُسب إليه، ثم يبدأ النقاش داخل غرفة التحرير بين المدقق والكاتب والمحرر... كأن الأمر مرافعة داخل محكمة، وكل واحد يشهر أدلته وحججه والفائز في الأخير هو الحقيقة والقارئ.. ثالثًا: تتميّز المجلة بتحقيق توازن نادر اليوم بين مداخيل الإعلانات ومداخيل الاشتراكات والمبيعات. بل أحيانًا تتفوّق مساهمة القارئ في اقتصاد المجلة على مساهمة المُعلن. وهذا ما يمنح المجلة مساحة حرية وجرأة لا تتوفر لكثير من الصحف والمجلات، حتى في أميركا. شعار المجلة واضح: ادفع حتى لا تقرأ شيئًا مجانيًا؛ فإذا وجدت أي شيء مجاني أمامك، فاعلم أنك أنت السلعة! النتيجة أن نموذجها الاقتصادي يعتمد أساسًا على إيرادات القرّاء. وهي ترفع باستمرار قيمة الاشتراكات المدفوعة، من أجل الحفاظ على الجودة من جهة، والاستقلالية من جهة أخرى. فالصناعة الإعلامية صناعة ثقيلة. لذلك، فالمجلة، والشركة التي تتبع لها (Condé Nast)، لا تبيع الورق والكتابة فقط ..لقد تحولت إلى «براند»: تبيع حقائب فاخرة بعلامتها (Tote bag)، وأغلفة قديمة للمجلة تُباع كلوحات تذكارية، وأشياء أخرى... إنه الأسلوب الأميركي: لا يبيع مجرد نصوص مكتوبة، بل علامات وماركات. من أبرز التحقيقات التي أنجزتها في أوقات حرجة: – سنة 1945، تحقيق عن الآثار المدمّرة للقنبلة الذرية التي نزلت فوق رؤوس اليابانيين في هيروشيما وناكازاكي، في نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث لم تُخفِ المجلة الليبرالية معارضتها لاستعمال سلاح الدمار الشامل، في جو متوتر كان معبّأ بالكامل وراء الإدارة الأميركية بعد حادث بيرل هاربر. ومع ذلك امتلكت المجلة الشجاعة الأدبية لتقول رأيًا في حرب لم يكن أنصاره كُثُرًا. -في عام 1962، نشرت المجلة تغطية واسعة للمثقفة الألمانية (حنا آرندت) التي تابعت محاكمة القائد النازي أدولف أيخمان في القدس بعنوان "أيخمان في القدس". كتبت أرندت عن "تفاهة الشر"، وهو المصطلح الذي سيستعمل في العلوم الاجتماعية لتفسير كيف يمكن أن تغير البيروقراطية الإدارية من طبائع البشر، وتسمح لهم بارتكاب أبشع الفظائع، لا لسبب سوى الإحساس بأن المسؤولية لا تقع على المنفذ، بل على المقرر . نال آرندت والمجلة هجوما حادا من قبل اللوبي اليهودي في امريكا وأوروبا باعتبارها تقلل من وحشية النازيين . – كما أثار تحقيقها الكبير عن انتهاكات حقوق الإنسان في سجن أبو غريب العراقي (2004)، بتوقيع سيمور هيرش، جدلًا واسعًا، وقاد إلى محاكمات وإعفاءات داخل الجيش ، وخلّف تحقيق نيويوركر آثارًا وخيمة على سمعة الجيش الأميركي في العالم، لكن احدا لم يخونها ولم ينعتها بالطابور الخامس او السادس... الأمريكيون قدروا ان المجرم أمريكي والذي فضحه أمريكي ايضا أي ان في البلاد توازن ،وان الإعلام يراقب ويفضح ومن ثمة ينقذ سمعة البلاد ولا يخفي جرائم العباد . المجلة اليوم لا تركض خلف السبق الصحافي، ولا تطارد الجمهور الواسع، ولا تنافس وسائل التواصل الاجتماعي. إنها تجاهد كي تبقى هي نفسها: مادة صحافية تُقرأ كأدب واقعي موثوق المصادر رفيع المستوى . نقد أدبي، أو سياسي، أو فني، أو اقتصادي، مكتوب بعناية وتدقيق، كأنه خارج من ريشة فنان. خلف الصحافيين فريق عمليات مكلف بتدقيق المعلومات والوقائع والتصريحات، كأنه يفك خيوط جريمة. وقبل هذا وذاك، قارئ يقدّر الجهد، ويحترم الموهبة والمهنية، ويدفع ثمن ما يقرأ، حتى لا يتحول هو نفسه إلى بضاعة. بلا شك، ينتظر بعضكم أن «أسقط الطائرة في حقل نيويوركر»، كما كان يقول الزميل الصحافي الموهوب عبد الكريم الأمراني، في نقده للإنتاج الدعائي لتلفزة الدولة بدار البريهي في جريدة الاتحاد الاشتراكي ( اتحاد زمان وجريدة زمان وقيم زمان ) ، وخاصة خطب مصطفى العلوي، الذي ربّى جيلًا كاملًا على لغة مشاريع النماء والخير والبركات وهو يبيع الوهم لملايين المغاربة الذين افتقده بعضهم اليوم ! لن أفعل.. لن أُسقط الطائرات في حقل مختلف ثقافة وسياسة وتقاليد وعقلية ولن أحرّك السكين في جسد ميت، ما له إيلام. لكنني سأتقاسم معكم تعليقًا أدلى به صحافي وأديب، بعد أن تقاسمتُ معه خبر صدور وثائقي على «نتفليكس» عن مجلة «نيويوركر»، لأن صديقنا هذا مثل جل الصحافيين المغاربة، يحس بمرارة ما نعيشه اليوم من دمار كامل لقطاع الصحافة والإعلام. وبه الختام: «شكرًا جزيلا على اقتسام الخبر أعلاه ...ترى، لو كان علينا أن نختار صحيفة عربية من المحيط إلى الخليج لإنجاز فيلم وثائقي بهذه القوة، هل كنا سنجد ما نضعه أمام الكاميرا دون أن نخجل؟... التشْيطن يا صديقي، التشْيطن!!»