يوم 18 دجنبر الجاري حلت الذكرى الخمسون لاغتيال المناضل والقيادي الاتحادي عمر بنجلون، أحد أبرز الوجوه السياسية والفكرية التي طبعت المغرب في سبعينيات القرن الماضي، ورمزًا من رموز اليسار الديمقراطي الذي دفع ثمن مواقفه السياسية والفكرية في زمن كان الصراع فيه يُدار بالعنف أكثر مما يُدار بالاحتكام إلى السياسة. كان عمر بنجلون، عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، محاميًا ومفكرًا ومناضلًا نقابيًا، ومن الأصوات القليلة التي جمعت بين الصرامة الفكرية والوضوح السياسي، وبين الانغراس الشعبي والقدرة على التأطير والتنظيم. وقد مثّل، في نظر رفاقه وخصومه على السواء، زعيمًا سياسيًا صاعدًا، كان يُنظر إليه في تلك المرحلة باعتباره الخليفة الطبيعي للزعيم التاريخي للحزب عبد الرحيم بوعبيد، وأحد العقول المدبرة لمشروع الاتحاد الاشتراكي كقوة ديمقراطية إصلاحية ذات أفق مجتمعي. وبمناسبة هذه الذكرى، يعيد موقع "لكم" نشر ملخص "آخر حوار" أجراه عمر بنجلون مع جريدة ليبراسيون المغربية في دجنبر 1975، قبل أسابيع قليلة من اغتياله، وهو حوار يختزل مواقفه من الصراع السياسي، والديمقراطية، والعنف، ودور الشعب في الحكم على الخيارات السياسية، ويقدّم شهادة فكرية وسياسية تكتسي اليوم قيمة تاريخية خاصة، في ظل استمرار الأسئلة التي طرحها الرجل حول معنى السياسة وحدودها، وحول كلفة غياب الديمقراطية في المجتمعات. الحوار تضمن مواقف سياسية وفكرية حادة تعكس طبيعة الصراع السياسي والفكري الذي كان يعيشه المغرب في تلك المرحلة، وحمل عنوانًا دالًا: "إذا كنا مخطئين... فالشعوب هي التي ستحكم"، في إشارة صريحة إلى قناعة بنجلون بأن الاحتكام النهائي في الصراعات السياسية يجب أن يكون لإرادة الشعوب، لا لموازين القوة أو منطق الإقصاء. وشدد على أن أي مشروع سياسي لا يمكن أن يفرض نفسه بالقسر أو العنف، بل بقدرته على الإقناع وكسب الشرعية الشعبية. وفي هذا السياق، عبّر بنجلون عن رفضه للجوء إلى العنف في تدبير الخلافات السياسية، معتبرًا أن الإقصاء والقمع لا يحسمان الصراع بقدر ما يعمّقانه، ويقودان إلى إفراغ السياسة من مضمونها الديمقراطي. وأكد أن التاريخ، وليس السلطة أو الجماعات، هو الحكم الحقيقي على صواب أو خطأ الخيارات السياسية. وتوقف الحوار عند مسؤولية اليسار المغربي، حيث شدد بنجلون على أن هذا التيار مطالب بأداء دور تاريخي يتجاوز منطق الضحية، عبر بناء وعي ديمقراطي داخل المجتمع، والدفاع عن الحريات، ورفض ادعاء امتلاك الحقيقة أو تمثيل الشعب بشكل مطلق. وربط مصير اليسار بمدى قدرته على الانغراس الاجتماعي، لا بالاكتفاء بالشعارات أو الخطاب النخبوي. كما تناول بنجلون مفهوم الديمقراطية، معتبرًا أنها ليست منحة ولا قرارًا فوقيًا، بل مسار طويل وشاق، يقوم على قبول التعدد والاختلاف، والاعتراف بحق الخصم في الوجود والتعبير. وحذّر في المقابل من مخاطر تزييف الوعي، سواء عبر توظيف الدين في الصراع السياسي أو اختزال الخلافات في ثنائيات إقصائية تغذي العنف والانقسام. ويُبرز هذا الحوار، الذي كُتب في سياق سياسي مشحون، نبرة هادئة وعقلانية، بعيدة عن التحريض، ما يمنحه بعدًا استشرافيًا، ويجعله أقرب إلى شهادة فكرية موجَّهة إلى المستقبل بقدر ما هي قراءة نقدية للحظة السياسية آنذاك. ويُنظر إلى هذا النص بوصفه وثيقة تاريخية نادرة، تلقي الضوء على فكر أحد أبرز رموز اليسار المغربي في مرحلة مفصلية، وتعيد طرح أسئلة جوهرية حول العلاقة بين السياسة والعنف، ودور الديمقراطية، ومكانة الإرادة الشعبية في تقرير المصير السياسي.