نحن الذين عرفنا معنى الثورة في كلمات بيبي موخيكا، وعشنا لحظات من النضال في قصصه البسيطة العظيمة. قد حول ليلتنا امس الدافئة والجميلة، إلى ليلة كئيبة في قلوبنا، رحل خوسيه موخيكا، الرجل الذي علمنا أن السياسة ليست مجرد لعبة سلطة، بل هي التزام أخلاقي، هي حبٌ للناس، وهي كرامةٌ لا تُشترى. خوسيه موخيكا لم يكن مجرد رئيسٍ دولة عابر، بل كان أيقونة أممية، قادمًا من تلك الأراضي البعيدة، ما بعد المحيط الاطلسي، من الأوروغواي، من الاراضي الأمريكية الجنوبية التي عرفت طعم الديكتاتورية والمقاومة، والتي أنجبت أساطير الثورة من غيفارا و كاسترو الى اورتيغا. لكن موخيكا كان مختلفًا، لم يحمل السلاح فقط، بل حمل قيمًا أخلاقية صلبة، نُسجت من صبر السجون، وعزلة الزنازين، وعرق الفلاحين البسطاء. وُلد في مونتيفيديو، في عائلة بسيطة، لكنه أدرك مبكرًا أن الفقر ليس قدرًا، بل نتيجة لظلمٍ ممنهج. انضم شابًا إلى حركة توباماروس، تلك الجماعة المسلحة التي رفعت السلاح في وجه الديكتاتورية، قاتل بشجاعة، سُجن وعُذب، لكنه لم ينكسر. خرج من السجن محمولًا بحلم العدالة، ودخل السياسة بروح المناضل، لا كسياسي، ودخلها بعقلية الثائر لا المخادع الحزبي، مع تعديل طفيف تجلى في استبدال البندقية بالقلم. لم يكن موخيكا رئيسًا تقليديًا، كان الثائر الذي دخل قصر الرئاسة دون أن يفقد روحه. رفض الإقامة في القصر الرئاسي، عاش في مزرعته البسيطة، قاد سيارته القديمة، وتبرع بمعظم راتبه للفقراء. في عالمٍ يلهث خلف البذخ والاستهلاك، كان موخيكا صوتًا للبساطة، وحياةً تُلهم أولئك الذين أرهقهم سباق المال. في المقاهي بالمغرب، كنا نتحدث عن "بيبي"، عن رئيسٍ لم يخن مبادئه، عن سياسيٍ عاش كما وعظ. في زمنٍ تراجعت فيه القيم، وأصبح السياسيون تجار دين و تجار شعارات، تجار ازمات و تجار غربى على شكل حمامة، كان موخيكا بالنسبة لنا دليلًا على أن النضال لا يزال ممكنًا. لقد ألهمت قصته جيلًا من الشباب المغربي، الباحث عن معنى للسياسة بعيدًا عن المساومات. كنا نرى فيه مثالًا حيًا لمن يختار أن يعيش كإنسان حر، في زمن عبودية السوق والاستهلاك. لم يكن تأثيره مقتصرًا على الكلمات، بل في الروح التي بعثها فينا. عندما انتقد السياسة الاستهلاكية العالمية في خطابه الشهير أمام الأممالمتحدة، كان صوت الشعوب المضطهدة، كان صوت الفلاحين الذين لم يملكوا سوى أرضهم، وصوت العمال الذين حرموا من ثمرة جهدهم. إن كلماته لم تكن مجرد خطابٍ عابر، بل كانت صرخةً في وجه نظام عالمي يُحول البشر إلى أرقام، ويُحيل الأرض إلى سلعة. هنا في المغرب، حيث ما زالت قرانا تعاني من الإهمال، ومدننا تئن تحت وطأة القمع ورأس المال، كنا نجد في موخيكا صوتًا لمن لا صوت له، صوتًا ينطق بحقيقتنا، ويدعونا إلى الصمود والمقاومة ببدائل جديدة. موخيكا لم يكن مجرد زعيمٍ أو سياسي، بل كان رجلًا يعرف كيف يلامس القلوب بكلماته وحركاته البسيطة، يعرف كيف يجعل من حياته مثالًا للثبات على المبدأ، حتى حين كان يمكنه أن يكون جزءًا من نخب الثراء، اختار أن يبقى في منزله الريفي البسيط، وسط أزهار المزرعة. لقد رفض أن يكون مجرد وجهٍ على ملصق، أو اسم في كتب التاريخ. لقد كان حيًا فينا، في طريقة تفكيره، في دعوته إلى أن نعيش ببساطة، وأن نكون أوفياء لقيمنا، حتى لو كان الثمن غاليًا. كنا نراه، من بعيد، لكننا كنا نشعر أنه قريب منا، وكأن كلماته خُطت لنا، وكأن نضاله كان جزءًا من نضالنا. في زمنٍ يتساقط فيه القادة كأوراق الخريف أمام إغراءات السلطة والمال، كان موخيكا شجرة ثابتة، جذورها في الأرض، وأغصانها تظللنا. عندما نودعك، يا بيبي، نعلم أن ذكراك لن تُمحى. سنروي قصتك لأبنائنا كما نحكي لهم قصص فلسطين وعرفات ولينين وتشافيز، لعلهم يتعلمون منك أن الإنسان يمكن أن يظل حرًا، حتى في عالمٍ يشتري كل شيء. سنروي لهم عن الرجل الذي عاش كما وعظ، ومات كما حلم: ثائرًا، حرًا، وصادقًا.