جروح الدلالة وإيقاعات اللون في تجربة التشكيلية العرائش أنفو د. عبد السلام دخان تنطلق هذه الدراسة من فرضية مفادها أن اللوحة التشكيلية، في تجربة فائق العبودي، تفهم كحقل بصري مفتوح على التأويلات المتعددة. يتم إنتاج المعنى داخل العمل نفسه، من خلال علاقاته الداخلية وتكوينه البصري، ويعاد تشكيله باستمرار بتغير أفق التلقي الذي يجعل المتلقي ينخرط في العملية التأويلية، حيث تتفاعل بنيته الإدراكية والنفسية مع بنية العمل، ويتولد الفهم بوصفه حدثا متغيرا. تتأسس تجربة فائق العبودي التشكيلية على رؤية بصرية تنبع من تفاعل كثيف بين الذاكرة والألم. تنجز اللوحة داخل هذا السياق ككائن حساس يتكون من طبقات من الأثر والزمن، ويشتغل كسطح حي يحتضن التشققات والتوترات والانفعالات التي تراكمت بفعل العنف، والمحو، والتاريخ. يتفاعل اللون مع هذا النسيج بوصفه مادة وجودية، ويتخذ حضوره ضمن علاقة مركبة بين الوعي والحالة الإبداعية والمنجز الجمالي. في هذه التجربة، يتقدم الأحمر كمجال للتعبير عن النزيف الداخلي، ويتكثف الأسود كحد بصري للمعنى، ويتوهج الأبيض كوميض للذاكرة المجروحة. ويستخدم اللون وفق ممكنات دلالية متعددة، ويشكل من داخل التجربة لتوليد حالات شعورية، تفتح على مستويات إدراك غير مباشرة. كل لون يشكّل نبضا خاصا في جسد اللوحة، وكل تموج بصري يفتح أفقا من التأمل في الأثر الجمالي. العلامة التشكيلية في أعمال فائق العبودي تؤسس حضورها وفق براديغم الوعي والتجربة حيث تستعاد الرموز من طبقات في الذاكرة الجمعية: الرموز التاريخية بحمولتها الأسطورية، الحروف، الخرائط، الطلاسم… كلها تدخل في علاقات رمزية متشابكة تشتغل ضمن بنية تحيل إلى مرجعيات تاريخية وثقافية متعددة. تُفكك الرموز نسقها الأصلي وتعاد قراءتها داخل فضاء بصري متحول، يعيد رسم العلاقة بين الذات والتاريخ، بين الشكل والمحتوى. تمارس اللوحة عملية حفر أنطولوجي في سطح الزمن. يتقاطع الذاتي بالجماعي، ويتحول الأثر إلى مجال مشترك لإعادة بناء الذاكرة، وسرد محكيات عبر الإيماءة، والطبقة اللونية، والشكل. تتكون اللوحة بوصفها مجالا كثيفا للأثر، تتجاور فيه الصدمات والرغبات والصمت، وتتقاطع فيه المواد مع التوترات التاريخية والحضارية التي تسكنها. يمكن مقاربة هذه التجربة- في تقديري- من داخل الهرمنيوطيقا الجمالية، حيث يفهم العمل الفني بوصفه فضاء مفتوحا للتأويل المتشم بتتعدد إمكاناته بتعدد السياقات، يشتغل النص البصري وفق هذا الأثر الجمالي في انفتاحه على الممكنات الدلالية رغم ثقل الطاقة الرمزية، وتداخلها مع المحكي التاريخي. بيد ان تقاطع المشاهدة مع البنية الجمالية للعمل التشكيلي يجعل الإدراك يتحول إلى ممارسة معرفية وانفعالية يعيد تشكيل العلاقة مع الزمن، ومع الذات، ومع الرموز التي تسكن اللاوعي البصري. يتقاطع هذا الأفق مع تأويلات هانز-جورج غادامر، الذي يرى أن الفهم لا يتكون من تطابق أو انعكاس، وإنما من تفاعل حيّ بين آفاق متعددة، يخلق المعنى من خلال الانخراط في العمل الفني. تعيد اللوحة تشكيل أفق المتلقي، ويصبح حضورها حدثا يتطلب مشاركة، وتفاعلا، وتجددا مستمرا في الفهم. الرموز تبعا لهذا السياق تبقى في حالة توتر دلالي يسمح بإعادة تفكيكها وتأويلها باستمرار. تستدعي تجربة العبودي هذا الانفتاح من خلال إدراج الرموز التاريخية والثقافية في بنية تشكيلية تقوم على التشظي، والتمزق، والانسياب. وتقترح الرموز كعناصر بصرية تنتمي إلى أزمنة مركبة. تشتبك هذه التجربة مع تحولات الفن الذي يوسع من مفهوم المعنى ويحرره من البنية المغلقة، ويعيد بناء العلاقة مع الذاكرة الجماعية. تقنيات التكرار، والتركيب تسهم في خلق طبقات من الرؤية تعيد تشكيل المسافة بين العين والمعنى. و تتجه هذه التقنيات نحو كشف ما يخفيه الشكل. ينتج العمل الفني التشكيلي تجربة تستثمر مكونات طبيعية ورمزية ونتوءات واستثمار الفضاء وتساوق الضوء مع الظلال، فضلا عن محدودية الفراغ. ترتبط تجربة الفنان العراقي فائق العبودي ارتباطا وثيقا بأسئلة الهوية، والتاريخ، من خلال اشتغالها على الذاكرة، وتقترح اللوحة الفنية كفضاء يفتح أفقا للتأمل في البنى التمثيلية التي تشكل الوعي الجمالي. تتأسس جمالية هذه التجربة على التوتر. من خلال تمظهر الانكسارات والجروح، والتخفيف على التفكير في مآلات تقاطع المساحات الفنية مع الحس الإنساني، من دون خضوع لتراتب زمني أو قدسي، وتدخل في شبكة تتقاطع فيها الأزمنة، وتتراكب فيها التجارب، وتُعاد فيها صياغة العلاقة بين الماضي والحاضر. تفتح اللوحة، في هذا التكوين، على فضاء أنطولوجي، حيث يتكوّن الكيان البصري من طبقات من الصمت، ومن طبقات من الزمن المجروح، حيث تتشكل الدلالة على نحو دائري من غير اكتمال، لأنها دائمة الحركة بحثا عن حياة المعنى ليبرون الرمز بوصفه نداء الكينونة، تتكون معانيه من اللقاء، والتجاور، والصدى.