العرائش أنفو بقلم: سعيد ودغيري حسني نحن الذين وُلدنا في زمن أبيض وأسود لكن ذكرياتنا ظلت ملوّنة وزاهية ونابضة بالفرح نحن الذين تعلمنا أن السعادة لا تُشترى وأن البساطة أعظم زينة للحياة لم نكن نملك الكثير لكننا كنا نعيش كل لحظة بصدق كامل ولم نكن ننتظر التصفيق من جمهور غريب بل من ضمائرنا النقية نحن الذين تربينا على دفء القلوب لا على وهج الشاشات كنا نسمع صوت الجدة وهي تحكي حكايات الليل فننام على وقع صوتها لا على ضجيج المسلسلات كنا نستيقظ على أذان الفجر أو على خفقان الديك لا على منبّه الهاتف البارد كنا نرى الشمس صديقة لنا والظل حارسًا لنا والقمر جليسًا في الليالي الطويلة كان الليل مملكة للتأمل لا للتسكع بين الصفحات المضيئة في عوالم افتراضية نحن الذين عرفنا أن اللعب تحت شمس النهار أغنى من آلاف الألعاب الإلكترونية نصنع طائراتنا من ورق الدفاتر ونركض بها في الحقول كأننا نملك السماء نرسم على التراب خطوطًا لنلعب "الحجلة" ونضحك حتى تدمع عيوننا ونبني قصورًا من الرمل على شاطئ البحر ثم نهدمها بأيدينا دون أن نفقد البهجة كانت ألعابنا فقرًا في الوسائل وغنى في الخيال وكانت صداقاتنا وعدًا صادقًا يُحفر في القلب لا اسمًا يُمحى من قائمة افتراضية كنا نكتب رسائلنا باليد ونزينها بقطرات من العطر أو دمعة صامتة كنا ننتظر وصولها أيامًا وأسابيع لكننا كنا نقرأها مئة مرة ولا نمل كل كلمة كانت حقيقية وكل حرف كان ينطق بالصدق أما اليوم فالرسائل تنطلق في ثانية لكنها تُنسى في الثانية التالية سرعة بلا أثر وضجيج بلا صدى نحن الذين عشنا بلا هواتف محمولة لكننا كنا أوفى في المواعيد بلا واي فاي لكننا كنا أوثق صلة وأقوى رابطة بلا فيسبوك ولا إنستغرام لكننا كنا نعرف وجوه أحبتنا أكثر من ملامحنا في المرآة نلتقي فنملأ الدنيا ضحكًا ودفئًا ونفترق على وعد صادق باللقاء لا على زرّ افتراضي مكتوب عليه "إعجاب" اليوم صارت الدنيا مزدحمة بالتقنيات لكنها خالية من الطمأنينة امتلأت البيوت بالشاشات وفرغت القلوب من الدعاء والسكينة كبرت العقول بالحسابات لكن صغرت النفوس أمام أبسط الأزمات تضاعفت الصور لكن ندرت المعاني صار كل شيء متاحًا لكن طعم الأشياء ضاع نحن جيلٌ حملنا الطباشير على أصابعنا والكتب على أكتافنا والأحلام في قلوبنا جيلٌ واجه الأوبئة والمحن لكنه لم يفقد البسمة ولا الرجاء جيلٌ عرف كيف يكون الإنسان إنسانًا قبل أن يصبح رقمًا في عالم رقمي لا يعرف الرحمة جيلٌ بنى حياته حجَرًا حجَرًا وتعلم أن لا شيء يأتي بلا تعب جيلٌ عرف أن قيمة الخبز حين يُكسر مع الآخرين أعظم من قيمة مأدبة فاخرة تُؤكل وحيدًا كنا نغني للحياة ونضحك من أعماقنا نلتقي في الساحات وفي الأزقة وفي البيوت المفتوحة دائمًا للضيوف كنا نأكل معًا في صحن واحد ونتقاسم الخبز كما نتقاسم الحلم كنا نرى في المدرسة طريقًا للمعرفة لا عبئًا يثقل الكاهل وكنا نرى في الأسرة حصنًا متينًا يحمي من التيه لا مجرد عنوان في بطاقة التعريف كان احترام المعلم شرفًا وكان برّ الوالدين قانونًا وكان الجار أخًا لا مجرد ساكن قربنا أيها الأبناء والأحفاد لسنا ضد زمانكم ولا ضد ما بين أيديكم من وسائل ورفاهيات لكننا نقول لكم لا تتركوا الشاشات تسرق منكم بريق الروح لا تجعلوا الافتراضي يطفئ وهج الحقيقي لا تبيعوا قلوبكم في سوق العجالة والسطحية الحياة ليست تغريدة ولا منشورًا ولا قصة عابرة الحياة قلب يخفق ويد تصافح وعين تلمع وروح تحب نحن جيل الذاكرة الحية نصفنا في الماضي ونصفنا في الحاضر لكننا نظل جسرًا يربط بين زمنين وشهادة حية على أن الإنسان حين يختار البساطة والصدق يظل خالدًا مهما تغيرت العصور لسنا أفضل منكم لكننا عشنا بصدق أكثر ولسنا أذكى منكم لكننا تعلمنا أن الحكمة في التجربة لا في سرعة الإنترنت قد نرحل بعد حين لكننا نترك لكم إرثًا من القيم لو عرفتم كيف تحافظون عليه لكان أثمن من كل ثروات العالم فلتسمعوا منا قبل أن يصمت صوتنا ولتأخذوا من حياتنا دروسًا قبل أن تصبح مجرد حكايات لا تتركوا الإنسانية تضيع من بين أيديكم فالتقنية وسيلة لكن القلب هو الغاية والإنسان بلا قلب حيّ هو مجرد ظل يمشي في طرقات الحياة