أمين أحرشيون فوزٌ مستحق لأسود الأطلس، منتخب المغرب، الذي بات حضوره القوي يُربك بعض الخطابات السائدة في الفضاء العربي، ويؤكد مرة أخرى أن كرة القدم ليست مجرد لعبة، بل مرآة تعكس صراعات الهوية وتمثلاتها في المجالين الثقافي والديني. خلال أحد البرامج المخصصة لتغطية كأس العرب، دار نقاش حاد بين متدخلين من شمال إفريقيا وآخرين من دول الخليج، حيث برز خطاب يعتبر نفسه «سيد العروبة» ويمنح لنفسه حق الوصاية على تعريف الهوية العربية وحدودها. تاريخيًا، لم تكن «العروبة» مفهومًا ثقافيًا أو إنسانيًا جامعًا كما يُقدَّم اليوم، بل ارتبطت في الجاهلية بقبائل عربية محددة، وكان لها بعد اقتصادي وتجاري بالأساس. هذا الفهم القبلي ما زالت بعض امتداداته حاضرة، حين يُنظر إلى العرب بوصفهم «أفضل الشعوب» أو «أذكاها»، وهي تصورات يدحضها التاريخ وتفككها الوقائع. كما أن ربط التفوق أو الاصطفاء الديني بالانتماء العرقي يظل طرحًا إشكاليًا، خاصة أن الرسالات السماوية، ومنها رسالة النبي محمد عليه السلام، جاءت في سياق جغرافي محدد، بينما كان كثير من الأنبياء والمرسلين من غير العرب أصلًا. العرب، في هذا السياق، قبيلة تاريخية، والعروبة انتشرت عبر سياسات ممنهجة ومتعددة الوسائل، من بينها الدين واللغة والسلطة. إفريقيا لم تكن يومًا عربية، لكنها تعرّبت، خصوصًا في شمالها، بفعل الاحتكاك التاريخي. ومن هذه المنطقة بالذات انطلقت حضارات غير عربية ساهمت في تشكيل تاريخ جنوب أوروبا ووصل تأثيرها إلى أقصى آسيا. إن فوز المنتخب المغربي بكأس العرب ليس مجرد إنجاز رياضي، بل رسالة رمزية تؤكد أن إفريقيا، بهويتها المتعددة وأبعادها الأمازيغية والإفريقية، قادرة على فرض وجودها دون الحاجة إلى خطاب ديني أو تجاري أو جاهلي. إنه فوز يعيد الاعتبار للتنوع، ويضع الأداء والجدارة فوق كل ادعاء هوياتي ضيق. في هذا السياق، يكشف الجدل الذي رافق تتويج المنتخب المغربي عن أزمة أعمق من مجرد منافسة كروية، إذ يتعلق الأمر بصراع سرديات حول من يملك حق تعريف العروبة ومن يُقصى منها. فحين يتحول الانتماء اللغوي أو الديني إلى أداة إقصاء رمزي، تصبح الرياضة ساحة لتفريغ توترات تاريخية غير محسومة. المنتخب المغربي، بتعدده الثقافي واللغوي، يمثل صورة مصغّرة للمجتمع المغربي والإفريقي عمومًا: أمازيغي، إفريقي، متوسطي، ومنفتح تاريخيًا على روافد متعددة. هذا التعدد لم يكن يومًا مصدر ضعف، بل عنصر قوة مكّنه من بناء هوية مرنة قادرة على التفاعل دون ذوبان أو ادعاء التفوق على الآخر. كما أن ربط النجاح الرياضي بالانتماء العرقي أو «النقاء الثقافي» يفرغ الإنجاز من معناه الإنساني. فالفوز في كرة القدم هو ثمرة العمل، والانضباط، والتخطيط، والاستثمار في الإنسان، لا نتيجة خطاب هوياتي مغلق أو تاريخ متخيَّل. إن الدرس الأهم من هذا التتويج يتمثل في إعادة الاعتبار لفكرة أن إفريقيا، بثقافاتها المتنوعة، ليست هامشًا تابعًا، بل فاعلًا تاريخيًا وحضاريًا. وهي حين تنتصر، فإنها تفعل ذلك بذاتها، لا كامتداد لأحد ولا كظلّ له. هكذا، يصبح فوز المغرب في كأس العرب لحظة رمزية لإعادة طرح سؤال الهوية خارج منطق الوصاية، وفتح نقاش عقلاني حول العروبة، والدين، والتاريخ، بعيدًا عن التعصب والادعاءات الجاهزة. فالهويات لا تُفرض بالقوة، ولا تُقاس بالصوت العالي، بل تُبنى بالعمل، والاعتراف المتبادل، واحترام التعدد.