بعد 17 سنة على مناظرة الصخيرات.. كرة القدم تصنع مجد الرياضة المغربية    الدار البيضاء… توقيف مواطن فرنسي من أصول جزائرية يشكل موضوع أمر دولي بإلقاء القبض صادر عن السلطات القضائية الفرنسية    دوري أبطال إفريقيا: الجيش الملكي يتأهل إلى دور المجموعات بانتصاره على حوريا كوناكري الغيني    الجيش يهزم حوريا كوناكري بثلاثية    المنتخب الوطني المغربي لأقل من 17 سنة يتعادل وديا مع نظيره الفنزويلي ( 3-3)    "حماة المستهلك" يطالبون بتشديد الخناق على زيت الزيتون المغشوشة    الملك يهنئ رئيس جمهورية كازاخستان    مشجعون من 135 دولة يشترون تذاكر نهائيات كأس إفريقيا في المغرب    حكيمي يقود سان جرمان إلى الفوز    الأمين العام للأمم المتحدة يثمن التعاون النموذجي للمغرب مع "المينورسو"    شرطي يصاب في تدخل بسلا الجديدة    الأزمي: التراجع عن التغطية الصحية الشاملة في مالية 2026 دليل على إخفاق حكومة أخنوش    ترامب منفتح على لقاء كيم ويصف كوريا الشمالية بأنها "قوة نووية نوعاً ما"    البرنامج الجديد للنقل الحضري العمومي للفترة 2025-2029.. استلام 70 حافلة جديدة بميناء أكادير    مسيرة في بروكسل تخليدًا لذكرى والد ناصر الزفزافي ومحسن فكري وإحياءً لذاكرة "حراك الريف"    وفاة الملكة الأم في تايلاند عن 93 عاما    فيتنام: المغرب يوقع على المعاهدة الدولية للأمم المتحدة لمكافحة الجرائم السيبرانية    الأمين العام للأمم المتحدة يبرز التنمية متعددة الأبعاد لفائدة ساكنة الأقاليم الجنوبية للمملكة    عجز سيولة البنوك يتراجع بنسبة 2.87 في المائة خلال الفترة من 16 إلى 22 أكتوبر    شركة فرنسية تطلق خطا بحريا جديدا يربط طنجة المتوسط بفالنسيا وصفاقس    قبل أسابيع من انطلاق كأس إفريقيا للأمم.. فشل ذريع للمكتب الوطني للسكك الحديدية في التواصل مع المسافرين بعد عطل "البراق"    أمطار مرتقبة بالشمال وانخفاض في درجات الحرارة الأسبوع المقبل    مصرع دركي في حادثة سير مروّعة بضواحي القصر الكبير    السوق الأوربية للفيلم... المركز السينمائي يدعو المهنيين لتقديم مشاريعهم حتى 24 نونبر المقبل    زينة الداودية عن صفقة زياش التاريخية: إنها الوداد يا سادة    نور عيادي تفتتح الدورة ال15 لمسابقة البيانو للأميرة للا مريم بأداء مبهر    الكوميديا والموسيقى في جديد هاجر عدنان "طاكسي عمومي"    المدرب مغينية: مستوى لاعبات المنتخب المغربي يتطور مباراة بعد أخرى    افتتاح متميز لمعرض الفنان المنصوري الادريسي برواق باب الرواح    مساعد مدرب برشلونة: الانتقادات ستحفز لامين جمال في الكلاسيكو    إسبانيا.. العثور على لوحة لبيكاسو اختفت أثناء نقلها إلى معرض    قمة صينية أمريكية بماليزيا لخفض التوتر التجاري بين البلدين وضمان لقاء ترامب ونظيره شي    المهرجان الوطني للفيلم بطنجة يعالج الاغتراب والحب والبحث عن الخلاص    طنجة... تتويج الفائزين بجوائز القدس الشريف للتميز الصحفي في الإعلام الإنمائي    تصريحات لترامب تعيد مروان البرغوثي إلى الواجهة (بروفايل)    تركيا تتوسط بين أفغانستان وباكستان    وزارة المالية تخصص مبلغا ضخما لدعم "البوطة" والسكر والدقيق    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    التوقعات المبشرة بهطول الأمطار تطلق دينامية لافتة في القطاع الفلاحي    حدود "الخط الأصفر" تمنع نازحين في قطاع غزة من العودة إلى الديار    من التعرف إلى التتبع.. دليل يضمن توحيد جهود التكفل بالطفولة المهاجرة    عامل طاطا يهتم بإعادة تأهيل تمنارت    تقرير يقارن قانوني مالية 2025 و2026 ويبرز مكاسب التحول وتحديات التنفيذ    الأمم المتحدة: ارتفاع الشيخوخة في المغرب يتزامن مع تصاعد الضغوط المناخية    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    من العاصمة .. حكومة بلا رؤية ولا كفاءات    إلى السيد عبد الإله بنكيران    من وادي السيليكون إلى وادي أبي رقراق    عبد الإله بنكيران والولاء العابر للوطن    المجلس العلمي الأعلى يضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    المخرج نبيل عيوش يغوص في عالم "الشيخات ". ويبدع في فيلمه الجديد الكل "يحب تودا "    وزارة الأوقاف تعمم على أئمة المساجد خطبة تحث على تربية الأولاد على المشاركة في الشأن العام    طب العيون ينبه إلى "تشخيص الحول"    أمير المؤمنين يطلع على نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة ويأذن بوضعها رهن إشارة العموم    علماء يصلون إلى حمض أميني مسبب للاكتئاب    أونسا: استعمال "مضافات الجبن" سليم    مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    دراسة: مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل المقال، فِيما عَانَاه أهل الرِّيفِ من الغازاتِ السامّة من أهوال
نشر في ناظور سيتي يوم 23 - 02 - 2015

جاء فى مقالٍ إخباري للسيّد أمين الخياري نشرته "هسبريس" بتاريخ 20 فبراير 2015 أنّ وزير الصحّة السيد الحسين الوردي "شدّد على أنّه ليس هناك أيُّ دراسةٍ علميةٍ تؤكّد إرتفاع عدد الإصابات بالسّرطان في الرّيف مقارنة مع مناطق أخرى في المغرب" ، مضيفاً "من يتوفّر عليها فليأتني بها".
ونقرأ فى ذات المقال أنّ " السّيد الوردي عاد ليؤكد أنّ "الكلامَ ليس نهائياً في الموضوع، ولا يعني نفي ما يروج عن كون الغازات السامّة التي قصفت بها المنطقة من مسببات إرتفاع عدد المصابين بالسرطان"، مشيراً "على أنّ هناك لجنة يرأسها شخصياً تعمل على إنجاز مسح وطني حول المرض بالمغرب، وسيتمّ إعلان نتائجه فور الانتهاء منه".
ويفيد نفس العرض أنّ موضوع السّرطان، وإنشاء مستشفى لعلاجه كان محوراً أساسياً في تدخّل البرلمانيين وفعاليات المجتمع المدني بالناظور، حيث أكّدوا على ضرورة العمل على إخراج المشروع للوجود باعتباره مطلباً ملحّاً لجميع الفئات المجتمعية بالريف"، وقد عبّر الوزير عن إستعداده لإخراج مستشفى للتكفل بمرضى السرطان للوجود، وذلك عبر البحث عن الوعاء العقاري كخطوة أولى". خلال تشخيص الواقع الصحَي أجمع الكلّ على أنّ النقص الكبير في الموارد البشرية وضعف التجهيزات من أكبر المُعيقات على تقديم خدمات جيدة للمرضى".
وبغضّ النّظر عن هذه المواضيع برمّتها على أهميتها، فإنّ الذي يعنينا فى المقام الأوّل هي تصريحات السيد الوزير حول مرض السّرطان بالرّيف الذي ألهبت حماسَ المتتعبّين، والمتدخّلين من مختلف الجهات والمناطق، سواء على صفحات التعاليق فى " هسبريس" نفسها"، أو التعاليق، والمداخلات ،والإستفسارات، والتساؤلات التي لا حصر ولا عدّ لها التي نُشرت بشكل كبير، ومُلفتٍ للنظر على مواقع التواصل الإجتماعي على إثر نشر هذه التصريحات مباشرة، وذلك نظراً للحساسية المفرطة التي يثيرها هذا الموضوع فى مختلف الأوساط المغربية على وجه العموم، والريفيّة على وجه الخصوص، بعد الدراسات، التي نُشرت فى هذا القبيل، أو الندوات، واللقاءات، والتظاهرات العلمية، والتاريخية التي نُظمت بشأنه،أو الكتب والبحوث التي نُشرت حوله مؤخراً داخل المغرب وخارجه .
لقد أصبح موقف إسبانيا من إستعمالها للغازات السامّة، والأسلحة الكيمياية المحظورة فى حرب الرّيف يُثار بإلحاح وإمعان فى المدّة الأخيرة داخل المغرب وخارجه ،بل إنّه قد أمسى يُثار حتى داخل إسبانيا نفسها ، التي طالبت العديد من قواها السياسية بغضّ النظر عن لونها، أو ميولاتها، أو مشاربها الحزبية، طالبت من الحكومة الإسبانية ضرورة الإعتراف بهذا الخطأ التاريخي الحربي الجسيم، فهل فى مقدور- جارتنا الأوربيّة وأقربها إلينا تاريخاً، وجغرافيةً ، وثقافةً،وإرثاً، وفكراً ،بل وجينيّاً – هل فى مقدورها اليوم الإقدام على إتّخاذ خطوة تاريخية جريئة للمصالحة النهائيّة مع ماضيها المعتم، والمؤلم فى المغرب، جارها ( غير الجَارّ ) ! فى الجنوب بتقديمها إعتذارٍ شجاع للشّعب المغربي، بشكلٍ عام، ولأهلِ الرّيف على وجه الخصوص، أيّ للمتضرّرين الفعلييّن، من السكّان الآمنين، وتعويضهم معنوياً، وإنسانيًّا،وحضاريّاً،ومادياً – حسب ما تمليه القوانين اللدّولية فى هذا القبيل- عن هذه الجريمة النّكراء البغيضة ، لقد أصبح هذا الموضوع الحيوي الهامّ بالفعل يستأثرُ بحدّة بإهتمام الرّأي العام المغربي والإسباني على حدّ سواء، والمتعلق بالتظّلم المُجحف، والأضرار الجسيمة التي حاقت، ولحقت بالعديد من الأسر والعائلات التي ما زالت تُعاني فى مختلف مناطق الرّيف ونواحيه من الآثار الوخيمة (أوبئة السرطان اللعين بشكلٍ خاص) من جرّاء السّموم الغازية،والخردلية، والقنابل العنقودية، والأسلحة الكيمياوية الفتّاكة التي إستُعمِلت ظلماً وعدواناً ضدّ الأهالي الآمنين من طرف إسبانيا بعد الهزائم المُنكرة التي تكبّدتها فى حرب الرّيف التحرّرية الماجدة .
ولا جَرَمَ أنّ السيّد وزير الصحّة يعرف أنّ هذا الموضوع الذي أدلى فيه بدلوه، يكتسي أهميةً بالغة، وهو ينطوي على مسؤولية جسيمة، بإعتباره المسؤول الأوّل عن قطاع الصحّة فى هذا البلد الأمين،وهو المَعْنِىّ بهذه المَسألة، أو المُعضلة أكثر من سواه .
تصريحات السّيد الوزير عن هذه المأساة الفادحة، يمكن أن يكون لها تداعيات هامّة، وآثار بليغة، ذلك أنّ هذه القضية ما فتئت تقلقُ مَضجعَ العديد من العوائل، والأسر فى الرّيف إلى يومنا هذا،وما إنفكّت هذه النازلة تمزّق نِياطَ أفئدتها، وتهدّ كِيانها،وتسلّمها لعذابٍ مقيم .
لعلّ السيد الوزير يَذْكُر أو يَتَذكّر فاجعةَ وفاة المشمولة برحمة الله تعالى ومغفرته فاطمة أزهريو فى الرّيف بالذّات، وليس فى جهةٍ أخرى من البلاد ، لعلّه يَذكر أو يَتذكّر المعاناة الشّديدة التي عانتها هذه المواطنة الصّالحة التي كانت لمّا تزلْ فى عُمْر الزّهور، ولعلّه يذكر أو يتذكّر مدى الإهمال الذي لقيته قيد حياتها وهي تذهب،وتجيئ صحبة والدها المُعَنّى ،وباقي أفراد أهلها إلى قسم المستعجلات، حيث تمّ فيما بعد تحديد، وحصر المسؤوليات عن النّقص الذّريع الذي كان يعانيه المستشفى فى الحصول، أو العثور على فصيلة دم المرحومة ، ولعلّه يَذكُر أو يتذكَّر البحث، والتحرّي والتحقيق الذي بادر، وأمر به الوزير نفسه، والذي وعد بالذهاب لمدينة الحسيمة لهذه الغاية للوقوف بشكلٍ شخصي، وعن كثب على هذا الأمر، وأوفىَ الوزيرُ بوعده مشكوراً، وجميعنا يتذكّر (التوقيف) الذي طال بعضَ المسؤولين عن قطاع الصحّة فى هذا الإقليم على إثر ذلك.، لعلّ السيد الوزير يذكر أو يتذكّر بعد ذلك الكلمات المُنهمرة،والآهات،المُنفطرة، والتأوّهات،والدموع الحرّى السّاخنة التي أُذْرِفت على روح الفقيدة الطاهرة، هذه الآهات المُنسكبة من مآقي ميازيب الدّموع لم تتفجّر فقط لدي أهل المشمولة برحمة الله وحسب، بل إنها تفجّرت فى مآقي جميع ساكنة هذه المنطقة برمّتهم،لا بأسَ إذن أن نتذكّر أو نُذكّر بمأساة هذه الطفلة البريئة فى المستشفى الجهوي بمدينة الحسيمة، والتي خلّفت حالةً غير مسبوقة من الذّعر، والهلع، والسّخط والتذمّر، والإستياء،والإمتعاض،ولقد أقامت هذه النازلة الدّنيا وأقعدتها ، وكانت لها- ولا تزال – آثار، وتداعيات،وتبعات، وظلال وخيمة ليس فقط فى مدن إمزورن، أوبني بوعياش،أو أجدير، أوالحسيمة،أو المنطقة وحسب، بل تعدّتها إلى مجموع التراب الوطني، وإلى العديد من البلدان الأوربية كذلك حيث توجد أعداد هائلة من جاليتنا المهاجرة،الصّابرة .
كانت هذه الفتاة الطّفلة البريئة قبل أن تصاب بهذا المرض اللعين كالفراشة الحائمة، تذرع شوارعَ مدينتها الآمنة ذهاباً وإيّاباً إلى المدرسة، وهي بعد فى عزّ صحّتها ،وبهاء شبابها، ورونق نضارتها، سالمةً، غانمةً معافاة ، ضاحكة، باسمة، هاشّة، باشّة ، وبعد أن داهمها الدّاء الخبيث أخذت حياتها طريقاً ذا إتجاهات ملتوية ، وسبلاً ذات متاهات منعرجة غير مرغوبة، أصبحت فاطمة تغدو، وتروح بدون إنقطاع إلى المستشفيات، والمصحّات، والمستوصفات، فى مدينتها، وفى منطقتها، ثمّ فى المدن المجاورة ،وبعد ذلك طفقت رحلة المكابدة، والعذاب، والآلام فى كبرى حواضر هذا البلد الأمين، إلى أن إختطفتها يد المنون فى عزّ شبابها، وشرخ عمرها، وربيع حياتها، وإشراقة أيّامها، وريعان سنيها، وهي لم تكن قد تجاوزت بعد الخامسة عشرة من عمرها المعنّى، رحلتْ عن عالمنا قهراً، وقسراً، وغصباً،وعبثاً،وجزافاً، وإعتباطاً، حتى لو نادى منادٍ، وصاح هاتفٌ من وراء الغيب، يرجع ما حدث إلى "المقدّر" أو" المكتوب" أو إلى حكم الله سبحانه وتعالى، وإلى قضائه المحتوم الذي لا مردّ له . فارقت فاطمة المسكينة هذه الدنيا الفانية، وهي بعد تتنسّم أولى نسائم الحياة، وتتسنّم أولى سلاليم مداخل، ومسالك شعابها المستعصية، وتتسلّق أخاديد تضاريسها الوعرة. وتهيم فى متاهاتها المعتمة، ودروبها الحالكة .
ولحدّ اليوم، ما إنفكّت الغصّة عالقة كالعلقم فى الحلق ،وما برحت الحرقة ملازمةً للجوف،ولصيقة بجدران التراقي .وما برح الألمُ المُمضّ يعصر الأفئدة، كلّ الأفئدة الشريفة، ويقضّ مضاجع القلوب، كلّ القلوب الرّحيمة المحبّة للخير والبِرّ والإحسان، وما فتئت مأساتها تنهك الأنفس المكلومة،وتفتك بالضلوع المعذّبة بدون إنقطاع إلى يومنا هذا المشهود ، متألمة، متحسّرة، متأوّهة،تائهة، مشدوهة، مندهشة،مذهولة، مروّعة لهَوْل ما حدث، وثقل عبئه على كاهل أهلها،وأخواتها، وأحبّابها، وذويها، وأسرتها، ومعارفها، وأقاربها، وجيرانها، وصديقاتها،ورفيقاتها فى صفوف الدّرس والتحصيل، وأساتذتها ،ومعلّميها، وأبناء وبنات حيّها، وقريتها، ومدينتها، ومدشرها، وضيعتها ،وجهتها، ومنطقتها، ووطنها الواسع، وبلدها الشاسع الكبير بسكّانه الأوفياء،وأناسه البسطاء،وقاطنيه الطيّبين الذين تضامنوا معها،وتآزروا، وتعاطفوا مع محنتها،ومعضلتها، ومصابها الجلل بشكل منقطع النظير .
كوردةٍ نديّةٍ، كباقةِ عطرٍ طريّة، جاءت إلى أهلها كملاك طاهر نزل من السّماء تغسل الأحزانَ، وتمسح الأدرانَ عن أفراد عائلتها ،وتذهب اللوعة، والأسى،والكآبة عن قلوبهم، وأنفسهم. فى عينيها بريق غريب غامض، جاءت ضيفة خفيفة الظلّ، حلوة الملامح، دقيقة التقاطيع ، جاءت لسنوات قليلة معدودة، ثم إلى السّماء عادت.
كان أهلها ينظرون إليها، وهي تعاني آلام المرض الفتّاك، وهي تقاسي تباريحَ الأسى والمعاناة، ثمّ أخيراً وهي تواجه سكرات الحِمَام ، فكانوا يحدّقون فيها فى ذُهول ، وهم يسألون، ويتساءلون .. ما بها..؟ ولا من مجيب ؟!.
كفراشةٍ بيضاء حالمة، كانت تنتقل بين ربوع ،وأحضان ذويها، وأهلها، ثمّ سرعان ما توارت عنهم صغيرة.. توارت عن الأنظار.. وهي بعدُ صغيرة، طريّة العود، غضّة الإهاب،كما جاءت، فخلّفت وراءها فى عائلتيها الصغيرة، والكبيرة آلاماً كبيرة مبرحة..وكِلاَماً عميقة جارحة،من أين جاءت ..؟ أيّ هراء هذا الذي نراه ونرمقه..؟ أيّ عُجْبٍ هذا الذي نسمعه..؟ نراه ونسمعه.. !؟ جاءت..؟ وكيف جاءت..؟ لماذا جاءت...؟ وكيف ذهبت...؟ ولماذا ذهبت...؟بهذه السّرعة الخاطفة ذهبت، فخطفت معها البريق من أعيننا ،ونزعت السّكينة والطمأنينة عن قلوبنا،وزرعت فيها الحيرةَ، والقلقَ، والوساوسَ، والشكّ، والتساؤلَ والذهول.ربّاه..أيّ عذابٍ هذا الذي نسومه، ولكن إنّه حُكْمُك ..إنه أمرُك..إنه قضاؤك.. فلا مردّ له، ولا غالب له، أو عليه.
فاطمة.. يا نفحة من رياض الخلد،هلّت على أهلها فى ليالٍ شتويةٍ قارصةٍ قاسية، فمنحتهم الدّفءَ، والسعادةَ ، والهناءةَ، والسكينةَ، والوفاءَ، وبسطت عليهم رداءَ الطمأنينة، وألبستهم ثوبَ الهناءة ، وقلّدتهم سربالَ الحبور..ولو إلى حين !.
يا خليلةَ الملائكة ،وبنتَ النّور، وتوأمةَ الرّوح الخالدة، كيف ضنّت عليكِ، وعلى أهلك أيامكِ..؟ وشحّت عليكِ وعليهم لياليك..؟ ،كحلم عابر عشتِ بين أناسك، وذويك، ثمّ.. أهذا هو المآل...؟ لقد غاض نبعُ المُنى فى أنفسهم، ولم يجدوا للسّعادة بعدك طعماً، ولا للفرح مذاقاً، ولم يكن لهم من المصير المحتوم أيَّ ملاذ، ولا هروب، ولا فرار، ولا مناص .
كان قدومها إلى ذويها عيداً ، وأبت إلاّ أن تودّعيهم يومَ عيد..حيث الشّموع مُشتعلة، والقناديل مُوقدة، والمصابيح مُضاءة ،وحيث نور الله الوهّاج يسطع فى قلوب المؤمنين ،وأفئدة القانتين، ويشعّ فى دنياه الواسعة، وفى سمائه الشّاسعة، وفى ملكوته اللاّنهائي...إنها فيهم ما بقوا، إنها فيهم ما حيوا، فلئن غاب جسمُها، وتوارى عنهم، فرسمُها، وإسمُها، ساكنان فى مخادع كلّ القلوب ، وإنّ ذكرياتك الصغيرة الهادئة، ستظلّ عالقة بجدار كلّ ذاكرة، وساكنة على ثبج كلّ لسان، وبين مضغة كلّ جَنَان.. كلّ من رآها ، كلّ من رمقها ، وتلظّى بآلامها وعذابها، ستظلّ ذكراك عنده ساطعة، ناصعة، حيّة متجدّدة.
أيُّ سرٍّ سرمدي أنتِ أيّتها البريئة..؟ أيُّ قبسٍ قدسيٍّ أنت أيتها الطاهرة...؟ ،أيّ جُرْمٍ ماردٍ حلّ بك...؟، أو أيُّ سهمٍ مارقٍ أصابك..؟ ،أيُّ إعصارٍ عتيّ هبّ على حياتك الهادئة الوديعة...؟،كيف حاق بك ما حاق بنبيّ الله أيّوب...؟، كنت تملئين البيتَ نوراً وحبوراً ببسمتك النديّة، الحلوة، وبضحكتك الوردية العذبة،بلَغْوِك الطفولي البريئ ، وبدروسك الأولى، وبهمساتك الخافتة ،وصخبك الصّارخ، وبكائك المرير الكتيم، وعِطرك الشجيّ،وطيفك البهيّ، وظلّك النقيّ ، وبكلّ ما كان فيك، أومنك، أو لك، أوإليك.
أيّةُ يدٍ إمتدّت إليكِ من وراء الغيب، وإختطفتكِ فى لمحٍ من العين ،أجاءت لتنتشلك ممّا أنت فيه، ومِمّا كنتِ تعانينه، وتقاسينه، وتسومينه فى دنياكِ من أسىً، ونكدٍ،ومرارةٍ، ومضضٍ، وضَنكٍ، وألمٍ، وعذاب...؟، سنواتٌ قليلةٌ، معدودة،عِجاف، قاسية، مُظلمة، ظالمة، رهيبة هي كلّ نصيبك من هذه الحياة الدّنيا، أيُّ حيفٍ حاقَ بكِ يا أختَ النّور، وسليلةَ الزّهور... ويا باقة، ويَرَقةً من عِطرٍ طريّ، غيبيّ، سرمديّ، سديميّ.
كضياء الشّمس السّاطعة فى يوم ملبّد، مكفهرّ،عبوس أطلّت على أهلها، وأخواتها، وذويها، وأصدقائها، وصديقاتها، وزميلاتها في المدينة، والحيّ، والجماعة، والمدرسة، ولكنّها سُرعان ما خفتت،وخبت، وإختفت، وتوارت عن أنظارهم جميعاً،وتركتهم للغيوم، والظلام، والعذاب المقيم .
كشُعاعٍ من قمرٍ مضيئ فى ليلةٍ شتويةٍ حالكة أنارت دياجيَهم، ثم غابت عن الأنظار بين طيّات السُّحب الدّاكنة، المُتراكمة، فغاضت الضِّياء، وخَبَا بريقُها فى أعين وقلوب أهها، وتلاشى الشّعاع وتبدّد، وضاعت،وتناثرت،وإنتشرت أنوارُه فى الأفق النّائي البعيد، وتبخّرت، وغابت ،وإمّحت فى سديم الزّمن الغادر الآثم الذي لا يني ولا يرحم.
أيّتها الصّغيرة البريئة ..قرّي عيناً فى تُربتك الفيحاء، وصبراً جميلاً لأهلك، وذويك، ومعارفك، ومدينتك، ووطنك. فوالداك جَابَا بكِ الدّنيا طولاً وعرضاً، طمعاً فى شفاء، أو بحثاً عن ترياق، أو دواء..أو خلاص، أو أملٍ فلم يفلحا..أجل والدك المعنّى، ووالدتك الرّؤوم لم يذوقا طعماً للنّوم والكرى،ولا فسحةً للرّاحة والهناءة، منذ أن داهمكِ ذلك الدّاءُ المشؤوم .. ساهريْن،ساهديْن، باكييْن، شاكييْن، متوسّليْن، ضارعيْن،رافعيْن أكفَّ الرّجا،والضراعة، داعين السّماءَ علّها تتلطّف، وتخفّف عنكِ ممَّا ألمّ بكِ،وحاقَ بكِ، وما أصابك...وجاءَ المَنُون، لينتشلك ممّا أنتِ فيه من عذابٍ مقيم ..ويسلّمك للسّلام الأبدي الخالد.
أيّها الصغيرة البريئة ..ماذا نملك أن نقول...؟، وماذا بقي لنا أن نقول..؟ وماذا يُمكننا أن نقول..؟ وماذا فى وسعنا أن نفعل...؟ عليكِ، وعلى روحكِ الغضّة، الزكية، الطاهرة ألفَ رحمةٍ واسعة ..وداعاً أيتها الصغيرة البريئة ..وسلامٌ عليكِ إلى يوم تُبعثين. و" ذكّر فإنّ الذّكرى تنفعُ المؤمنين" ، صدق الله العظيم .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.