جنوب إفريقيا تتشدد ضد فلسطينيين    تحطم مقاتلة يصرع طيارين في روسيا    الجيش الأمريكي ينفذ "الرمح الجنوبي"    رئيسة ميناء خليج قادس ترغب في تعزيز خطوط بحرية جديدة مع المغرب    العامل حشلاف يقف على كل ورشات مشاورات التنمية المندمجة بشفشاون وسط تنويه بحرصه وبدايته الموفقة    الركراكي ينهي الاستعدادات للموزمبيق    وزارة الصحة ترد على انتقادات بووانو وتوضح موقفها من "صفقات الأدوية" والممارسات داخل المصحات الخاصة    باك ستريت بويز في قُبّة Sphere لاس فيغاس: جيل الألفية وتحوُّلات العالم بين الحنين والإلهاء    الكونغو الديمقراطية تفاجئ الكامرون    باها: "منتخب U17" جاهز للقاء أمريكا    "أنفاس شعرية" في بيت الشعر في المغرب    580 ألف مستفيد من الدعم المباشر لمربي الماشية توصلوا بأزيد من 2 مليار درهم وفقا للوزير بايتاس    مقاييس التساقطات المطرية المسجلة خلال 24 ساعة الماضية    المنتخب المغربي يحط الرحال بطنجة استعدادًا لمواجهة الموزمبيق وديا    السفير عمر هلال لقناة الغد: موقف المغرب بعد قرار 2797 واضح «الحكم الذاتي هو الأساس ولا شيء غيره» و سيادة المغرب «خط أحمر»    النيابة العامة بطنجة تضع «التيكتوكر آدم ووالدته» تحت الحراسة النظرية    أنظار جماهير الكرة تتجه إلى ملعب طنجة غداً الجمعة وسط توقعات بحدث "استثنائي"    أموال ومخدرات.. النيابة تكشف "العلاقة الوطيدة" بين الناصري و"إسكوبار الصحراء"    علم الوراثة الطبية.. توقيع اتفاقية شراكة بين مركز محمد السادس للبحث والابتكار والجمعية المغربية لعلم الوراثة الطبية    تداولات بورصة البيضاء تنتهي خضراء    "أرسل صوراً لك ولطفلك، اجعلني أبتسم".. رسائل تكشف علاقة ودية جمعت توم براك وإبستين    بايتاس: "النفَس الاجتماعي" خيار استراتيجي.. و580 ألف "كسّاب" توصّلوا بالدعم    إطلاق بوابة «ولوج الملعب» لتقديم معلومات آنية بشأن ملعب طنجة الكبير    بنعليلو يقارب الفساد بالقطاع الخاص    بوعلام صنصال.. انتصار الكلمة على استبداد النظام الجزائري    الاتحاد الأوروبي يستعد لإعادة التفاوض حول اتفاق الصيد البحري مع المغرب بعد قرار مجلس الأمن الداعم للحكم الذاتي    بنك المغرب: تحسن في النشاط الصناعي خلال شتنبر الماضي    الاتحاد الجزائري يتحرك لضم إيثان مبابي…    المصادقة على تعيينات جديدة في مناصب عليا    على هامش تتويجه بجائزة سلطان العويس الثقافية 2025 الشاعر العراقي حميد سعيد ل «الملحق الثقافي»: التجريب في قصيدتي لم يكن طارئاً أو على هامشها    قصيدتان    سِيرَة الْعُبُور    الفريق الاستقلالي بمجلس النواب يشيد بالقرار الأممي حول الصحراء ويؤكد دعمه لقانون المالية 2026    المسلم والإسلامي..    سقطة طبّوخ المدوّية    الترجمة الفلسفية وفلسفة الترجمة - مقاربة استراتيجية    اختبار مزدوج يحسم جاهزية "أسود الأطلس" لنهائيات كأس إفريقيا على أرض الوطن    امطار متفرقة مرتقبة بمنطقة الريف    نجاح واسع لحملة الكشف المبكر عن داء السكري بالعرائش    ثَلَاثَةُ أَطْيَافٍ مِنْ آسِفِي: إِدْمُون، سَلُومُون، أَسِيدُون    وزير الداخلية يدافع عن تجريم نشر إشاعات تشككك في نزاهة الانتخابات.. لا نستهدف تكميم الأفواه    تقرير رسمي يسجل تنامي الجريمة في المغرب على مرّ السنوات وجرائم الرشوة تضاعفت 9 مرات    المغرب يستأنف الرحلات الجوية مع إسرائيل اليوم الخميس    موريتانيا تُحرج البوليساريو وترفض الانجرار وراء أوهام الانفصال    قمة المناخ 30.. البرازيل تقرر تمديد المحادثات بشأن قضايا خلافية شائكة    كيوسك الخميس | المغرب يضاعف إنتاج محطات تحلية المياه عشر مرات    افتتاح مركز دار المقاول بمدينة الرشيدية    بالصور .. باحثون يكتشفون سحلية مفترسة عاشت قبل 240 مليون عام    دراسة: لا صلة بين تناول الباراسيتامول خلال الحمل وإصابة الطفل بالتوحد    انبعاثات الوقود الأحفوري العالمية ستسجل رقما قياسيا جديدا في 2025    برنامج طموح يزود الشباب بالمهارات التقنية في مجال الطاقة المستدامة    تعاون أمني مغربي–إسباني يُفكك شبكة لتهريب المخدرات بطائرات مسيرة    مرض السل تسبب بوفاة أزيد من مليون شخص العام الماضي وفقا لمنظمة الصحة العالمية    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأسود العنسي
نشر في نون بريس يوم 26 - 09 - 2018


ظهور الأسود العنسي
يبدو أنَّ الوجود الإسلامي وجمع الزكاة واجها معارضةً من قِبَل بعض زعماء القبائل، وأشارت الروايات إلى وجود تحرُّكٍ معارضٍ في منطقة حِمْيَر، وأنَّ معاذًا قاتلهم وانتصر عليهم.
في الوقت الذي كان فيه العمَّال المسلمون يُنظِّمون شئون ولاياتهم ويجمعون الصدقات، جاءتهم كتب الأسود العنسي يُنذرهم فيها أن يردُّوا ما بأيديهم فهو أولى به: “أيُّها المتورِّدون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا ووفِّروا ما جمعتم؛ فنحن أولى به، وأنتم ما أنتم عليه”[1]. وأعلن حركته الانفصالية، وكانت تلك أوَّل ظاهرة لفتنته[2]، ومعنى هذا أنَّ الحركات الانفصاليَّة انطلقت من بلاد اليمن وأنَّ خروج الأسود العنسي يُمثِّل الشرارة الأولى لتلك الحركات.
تتضمَّن محتويات كتب الأسود العنسي اتجاهين:
الأوَّل: سياسي إقليمي: “أيها المتورِّدون علينا” فعدَّ عمَّال النبيِّ صلى الله عليه وسلم دُخلاء على اليمن مغتصبين لأرضهم، وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه عامل النبيِّ صلى الله عليه وسلم على اليمن قد نفَّذ سياسةً تخدم السلطة المركزيَّة التي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد حدَّد قواعدها في المدينة، ويبدو أنَّ هذه السياسة كانت تتعارض مع النزعات الاستقلاليَّة التي تتحكَّم بأهل اليمن.
الثاني: اقتصادي: “أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا” ذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حدَّد السياسة الاقتصاديَّة الإسلاميَّة العامَّة في اليمن من خلال المباحثات التي أجراها مع رسل ملوك حمير؛ إذ على المسلمين أن يؤتوا الزكاة، ويُعطوا خمس الله من المغانم، وسهم نبيِّه وصفيِّه[3]، وما كُتب على المؤمنين من الصدقة من العقار[4] عشر ما سقت العين وما سقت السماء، وكل ما سُقي بالغَرْب[5] نصف العشر، وفي الأربعين من الإبل ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كلِّ خمسٍ من الإبل شاة، وفي كلِّ عشرٍ من الإبل شاتان، وفي كلِّ أربعين من البقر بقرة، وفي كلِّ ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة، وفي كلِّ أربعين من الغنم سائحة وحدها شاة، وإنَّها فريضة الله التي فرضها على المؤمنين في الصدقة[6].
يبدو أنَّ هذه السياسة الاقتصاديَّة ضايقت بعض الفئات اليمنيَّة وبخاصَّةٍ الأعراب الذين شعروا بعدم قدرتهم على تحمُّلها؛ لذلك تكتَّلوا وراء الأسود العنسي.
كان الأسود العنسي كاهنًا، مشعوذًا، قويَّ الشخصية، يُقيم في جنوب اليمن في كهف خبَّان من بلاد مذحج، يُري الناس الأعاجيب بفنونٍ من الحيل، ويستهوي الناس بعباراته، فتنبَّأ ولقَّب نفسه “رحمان اليمامة”[7]، وكان يزعم أنَّ سحيقًا وشقيقًا ملكيْن يأتيانه بالوحي، ولم يُنكر نبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم[8].
حظيت حركته بتأييدٍ واسع خاصَّةً أنَّها نَحَتْ اتجاهًا قوميًّا بتصدِّيها للنفوذ الفارسي وللمسلمين الذين ليسوا من أصولٍ يمنية -ذلك بعد انتشار الإسلام في ربوع اليمن- واستمدَّت قوَّتها من الحلف القديم بين مذحج و بعض قبائل خولان والأزد، وانضمَّ إليه بعض المقاتلين من حِمْيَر، وأيَّدته نجران.
تنبُّؤ الأسود العنسي
هاجم الأسود العنسي -بعد أن وثق من قوته- مدينة نجران واستولى عليها وطرد منها عمرو بن حزم رضي الله عنه عامل المسلمين عليها، وانضمَّ أهل نجران إليه، ثُمَّ سار إلى صنعاء واصطدم فيها بشهر بن باذان وانتصر عليه وقتله واستولى على المدينة، وفرَّ المسلمون منها ومن بينهم معاذ بن جبل رضي الله عنه[9].
أخذ الأسود العنسي يدعو إلى نفسه بعد هذه الانتصارات، وسرعان ما قوي أمره واشتدَّ ساعده بمن التفَّ حوله من الأتباع، وسيطر على منطقةٍ واسعةٍ تمتدُّ من حضرموت جنوبًا حتى حدود الطائف بما فيها قبيلة عك في تهامة غرب الحجاز، ومن الشواطئ اليمنيَّة على البحر الأحمر غربًا حتى الخليج شرقًا، وكانت جميع المدن الكبرى في هذه المنطقة كعدن وصنعاء وغيرهما واقعةٌ تحت حكمه، ثُمَّ أخذ يُعيِّن الولاة ليحكموا باسمه ويُسمِّي قادة فرقه العسكريَّة، فعيَّن قيس بن هبيرة المرادي قائدًا لعسكره، وفيروز وداذويه الفارسيين وزيرين، وتزوَّج من امرأة شهر بن باذان[10].
كانت مذحج السند القَبَلي الأساسي الذي اعتمد عليه وانطلق منه وبمساعدتها تمكَّن من إخضاع اليمن لسلطته، والتحق به عشرات البطون والوحدات القَبَلية التي كانت قبل مدَّةٍ وجيزة قد أرسلت وفودها إلى المدينة.
يبدو أنَّ معارضي الوجود الإسلامي من مختلف القبائل أيَّدوا حركته ورأوا فيه ممثِّلًا لمصالحهم، ومع ذلك فقد واجه معارضةً تمثَّلت في الجماعات المسلمة من مذجح التي انسحبت مع فروة بن مسيك المراديِّ إلى الأحسية[11]، أمَّا في منطقة حِمْيَر فقد كان لجهود ذي الكلاع وآل ذي لعوة الهمدانيين دورٌ في الاحتفاظ بالنفوذ الإسلامي، وقد وقفوا ضدَّ عك بتهامة.
ظلَّ الأسود العنسي مدَّعيًا النُّبُوَّة مدَّة ثلاثة أشهر وفي رواية أربعة أشهر، ارتكب خلالها الحماقات، وفضح النساء، وأنزل الرعب والخوف في قلوب اليمنيين خاصَّةً الأبناء[12].
النبيُّ محمَّد صلى الله عليه وسلم وتصدِّيه للأسود العنسي
لم يركن النبيُّ محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى الهدوء وهو يرى جهوده الرَّامية إلى نشر الإسلام في اليمن وتوحيد قبائله تتعرَّض للنكسة، وكان يتجهَّز لغزو البيزنطيِّين للانتقام من هزيمة مؤتة، فواجه حركة الأسود العنسي بالحزم ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله والدفاع عن دينه، فأرسل الرسل إلى اليمن يأمر اليمنيين بالقضاء على الأسود العنسي ويستنهضهم للمواجهة الذاتيَّة معه، ومعنى هذا أنَّه لم يُرسل جيوشًا من المدينة للقضاء عليه، وإنَّما اعتمد على القوى المحليَّة. كما أرسل إلى عمَّاله في تلك الجهات يحثُّهم على الاستعانة بالثابتين على الإسلام، والصمود أمام المنشقِّين، والقضاء على رءوس الفتنة، وكتب إلى زعماء اليمن أمثال ذي الكلاع الحميري، وذي عمرو، وذي ظليم مع جرير بن عبد الله البجلي، وأرسل الأقرع بن عبد الله الحِميري إلى ذي زود وذي مران فاستجاب هؤلاء لدعوته وأعلنوا ثباتهم على الإسلام، كما كتب إلى أهل نجران وإلى عربهم وساكني الأرض من غير العرب -الأبناء- فانضمَّ جماعةٌ منهم إلى دعوته، وأرسل الحارث بن عبد الله الجهنيِّ إلى اليمن بمهمَّةٍ تتعلَّق بأحداثه[13].
لكنَّ جهود هؤلاء لم تُثمر في وضع حدٍّ لانتفاضة الأسود العنسي، ولا تُعطي المصادر صورةً واضحةً عن جهودهم ومحاولاتهم للقضاء عليه، وكان آخر من أرسله النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو وَبْر بن يُحَنِّس الأزدي رضي الله عنه ومعه كتابٌ إلى المسلمين في اليمن يأمرهم فيه بالقيام على دينهم والنهوض في الحرب والقضاء على الأسود العنسيِّ إمِّا غيلة أو مصادمة، وأن يستعينوا على ذلك بمن يرون عنده نجدةً ودينًا[14]، واكتفى من أمر اليمن بهذا، ووجَّه معظم اهتمامه لتنظيم جيش أسامة رضي الله عنه وإرساله إلى بلاد الشام.
انقسام المتنبِّئة
سرعان ما ضايقت تحرُّكات المسلمين الأسود العنسي فشعر بالهلاك، على أنَّ الخطر الذي عصف به وقضى عليه جاء من الداخل؛ فقد اتَّصل وَبْرُ بن يُحَنِّس رضي الله عنه فور وصوله إلى اليمن بالأبناء ليُبلِّغهم طلب النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ولم يتوجَّه إلى المسلمين من حِمْيَر وغيرها، علمًا بأنَّ معظم هؤلاء الأبناء كانوا لا يزالون على المجوسيَّة ولم ترد إشارة إلى إسلامهم قبل هذا التاريخ، حتى إنَّ الروايات التاريخيَّة تذكر أنَّه نزل عند داذويه وكان من حاشية الأسود العنسي، يُضاف إلى ذلك، لم يكن الأبناء مؤهَّلين لأن يُؤدُّوا دورًا فاعلًا ضدَّ الأسود العنسي؛ بعد أن فقدوا قوَّتهم عندما فشلوا في الدفاع عن صنعاء. ويُحدِّد ابن سعد تاريخ إرسال وَبْر بن يُحَنِّس في عام (10ه/ 630م)، أمَّا الطبري فيذكر أنَّه أُرسِل في عام (11ه/ 632م)[15].
الراجح أنَّ هذا المنحى الذي انتهجه وَبْر بن يُحَنِّس رضي الله عنه للتخلص من الأسود العنسي مردُّه إلى عدَّة أسباب لعلَّ أهمها:
– أراد أن يحيك مؤامرةً للتخلُّص منه بوساطة مستشاريه وأعوانه المقرَّبين منه.
– استبعد الخيار العسكريَّ بعد أن خشي نتيجة الصدام المسلَّح نظرًا إلى عدم توازن القوَّتين؛ إذ كان الأسود العنسي متفوِّقًا عسكريًّا.
– لقد وقع في ذلك الوقت نفورٌ بين الأسود العنسيِّ ومستشاريه بفعل اعتداده بنفسه واستخفافه بقيس بن هبيرة وفيروز وداذويه، كما شَكَّ في ولائهم له، ورأى في سائر الفرس أنَّهم أعداؤه ويأتمرون لقتله، فاستغل وَبْر بن يُحَنِّس رضي الله عنه هذا التطوُّر للقضاء عليه.
ولأنَّ الجيش كان أشدَّ ما يحذر ويخاف دَعَا الأسود العنسي قائد جيشه قيس بن هبيرة وأخبره بأنَّ شيطانه أوحى إليه، يقول: “عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منك كلَّ مدخلٍ، وصار في العزِّ مثلك، مال ميل عدوِّك, وحاول ملكك، وأضمر على الغدر”. وأجاب قيس: “كذب وذي الخمار، لأنت أعظم في نفسي وأجلُّ عندي من أن أُحدِّث بك نفسي”. وأجال الأسود العنسي نظرةً في قيسٍ وقال له: “ما أجفاك! أتُكذِّب المَلَك، قد صدق المَلَك، وعرفت الآن أنَّك تائبٌ ممَّا اطَّلع عليه منك”[16].
خرج قيس من عنده مرتابًا في ما يُضمر له، واجتمع بفيروز وداذويه وذكر لهما ما جرى بينه وبين الأسود العنسي وسألهما رأيهما، فقالا: “نحن في حذر”. ويبدو أنَّ الأسود العنسي علم بهذا الاجتماع فأرسل إليهما يُحذِّرهما ممَّا يأتمران به، فخرجا من عنده ولقيا قيسًا وهم جميعًا في ارتيابٍ وخطر[17].
علم المسلمون في اليمن بما يجري في بلاد الأسود العنسي، كما وقفوا على فحوى رسالة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم فأرسلوا إلى قيسٍ وأصحابه يُشجِّعونهم على التخلُّص من الأسود العنسي.
مقتل الأسود العنسي
استطاع وَبْر بن يُحَنِّس أن يستقطب عددًا من زعماء الأبناء؛ أمثال: فيروز، وداذويه، وجشيش، وغيرهم، وقرَّر الجميع اغتيال الأسود العنسي فاستعانوا بامرأته آذاد التي كانت تحقد عليه؛ لأنَّه قتل زوجها شهر بن باذان من قبل، ثُمَّ تزوَّجها بعد ذلك[18].
حانت فرصة التحرك لتنفيذ المؤامرة عندما أرسل الأسود العنسي قوَّاته في مهمةٍ عسكريَّةٍ بين صنعاء ونجران، فدخل المتآمرون حجرة نومه بعد أن مهَّدت لهم آذاد الطريق، فقتله فيروز واحتزَّ قيسٌ رأسه وألقاه في باحة القصر، وتنادى الناس في المدينة فخرجوا صباحًا، واضطرب الوضع ثُمَّ استقرَّ على أن يتولَّى الأمر معاذ بن جبل رضي الله عنه[19].
لا بُدَّ لنا من الإشارة أخيرًا إلى التاريخ الذي قُتل فيه الأسود العنسي، فهل جرت حادثة القتل قبل وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أم بعد وفاته؟ يذكر اليعقوبي أنَّ الأسود العنسي تنبَّأ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا بُويع أبو بكر ظهر أمره واتَّبعه على ذلك قومٌ، فقتله قيس بن هبيرة المرادي وفيروز الديلمي، دخلا منزله وهو سكران فقتلاه[20]. أمَّا الطبري فيروي -نقلًا عن سيف- أنَّه قُتل قبل وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّه صلى الله عليه وسلم أُوحي ذلك إليه ليلة حدوثه فقال: “قُتِلَ العَنْسِيُّ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مُبَارَكِينَ“. قيل: من قتله؟ قال: “فَيْرُوزُ، فَازَ فَيْرُوزُ“[21]. وفي روايةٍ أخرى نقلًا عن عمر بن شبَّة أنَّ خبر موت العنسي وصل إلى المدينة بعد أن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمضى أبو بكر رضي الله عنه جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه في آخر ربيع الأوَّل، وأتى مقتل العنسي في آخر ربيع الأوَّل بعد مخرج أسامة؛ وكان أوَّل فتحٍ أتى أبا بكر وهو في المدينة[22].
الراجح أنَّ مقتل الأسود العنسيِّ تَمَّ قبل وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بيومٍ أو بليلة، وورد الخبر من السماء بذلك، وأعلم أصحابه به، ولكنَّ الرُّسل وصلت في خلافة أبي بكرٍ في (آخر شهر ربيع الأول عام 11ه/ شهر يونيو عام 632م)[23].
مهما يكن من أمرٍ فقد استقرَّ الوضع الداخلي في اليمن بعد مقتل الأسود العنسي، وتراضى المسلمون على معاذ بن جبل رضي الله عنه فصلَّى بهم في صنعاء، حتى إذا جاء خبر موت النبيِّ صلى الله عليه وسلم عمَّ الاضطراب مجدَّدًا ربوع اليمن، وسنتناول أسباب ذلك ونتائجه في موضعه من جهاد أبي بكرٍّ أهلَ الرِّدَّة؛ لأنَّها تتخطَّى الأسود العنسي وثورته ومقتله.
المصدر : كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسيَّة.
[1] الطبري: ج3 ص228، 229. والجند من أرض السكاسك في اليمن بينها وبين
صنعاء ثمانية وخمسون فرسخًا. الحموي: ج2 ص169.
[2] الطبري: المصدر نفسه: ص229.
[3] هيكل: ص82.
[4] الصفي: نصيب الرئيس من الغنيمة.
[5] العقار: الأرض التي تزرع.
[6] الغرب: الدلو.
[7] الطبري: ج3 ص121، ورواه أبو داود في الزكاة.
[8] البلاذري: فتوح البلدان ص113.
[9] البلخي، أبو زيد أحمد بن سهل: كتاب البدء والتاريخ: ج2 ص192.
[10] الطبري: ج3 ص229، 230.
[11] الطبري: ج3 ص230، لم ترد إشارة إلى أنَّ فيروز وداذويه قد اعتنقا الإسلام في
هذه المرحلة، كما ظلَّ كثيرٌ من الأبناء على ديانتهم المجوسية، وأنَّ استعانة عيهلة بهما حتمها
واقع الظروف السياسيَّة والإداريَّة.
[12] الحموي: ج1 ص112، والأحسية موضع باليمن.
[13] البلاذري: ص114، والطبري: ج3 ص239، 240.
[14] الطبري: ج3 ص187.
[15] المصدر نفسه: ص231.
[16] المصدر نفسه، وطبقات ابن سعد: ج5 ص388.
[17] الطبري: ج3 ص231، 232.
[18] المصدر نفسه: ص232.
[19] البلاذري: ص114.
[20] الطبري: ج3 ص235.
[21] تاريخ اليعقوبي: ج2 ص15.
[22] تاريخ الطبري: ج3 ص236.
[23] المصدر نفسه: ص240.
أ.د: محمد سهيل طقوش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.