لم يكن أكثر المراقبين استشرافا لحادثة سقوط الطفل ريان في قرار بئر بمدشر "إغران" بإقليم شفشاون، في فبراير الماضي، يتوقع أن تأخذ المأساة أبعادا دولية، لتحظى بمتابعة عالمية غير مسبوقة. لكن القضية بالفعل، أخذت هذا المنحى بفضل ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، التي حولت مدشرا صغيرا لقبلة توجهت نحوها أنظار العالم. ريان أورام.. طفل في ربيعه الخامس قادته الأقدار للسقوط في بئر عمقه 32 مترا لمدة خمسة أيام، تخللتها عمليات إنقاذ حثيثة شارك فيها أفراد الوقاية المدنية وخبراء الإنقاذ والتربة والطبوغرافيا. حدث كهذا كان من الممكن أن يمر مرور الكرام الا أن صورا وفيديوهات انتشرت على مواقع التواصل الإجتماعي حولته لحدث عالمي.
ميكانيكي بسيط يوصل الحادث للعالمية "فور سماعي خبر سقوط طفل في بئر لم أتمالك نفسي وتوجهت مباشرة الى عين المكان من أجل إيصال المعلومة لأكبر عدد ممكن من الأشخاص.." بهذه الجملة العفوية يصف عبد المجيد أحارز (42 سنة) الذي يشتغل كميكانيكي بمنطقة باب برد القريبة من دوار إغران، اللحظات الأولى من مأساة عاشها المغرب والعالم بأسره لمدة خمسة أيام متواصلة وما زال صداها يتردد الى غاية اليوم. فلم يكن عبد المجيد أحارز يعلم أن اهتمامه بالعمل الجمعوي والميدان الحقوقي، سيحوله في ظرف ساعات قليلة من شخص عادي لمصدر معلومة بالنسبة لمئات المنابر الإعلامية الوطنية والدولية، وسيشكل البث المباشر الذي نشره على صفحته الخاصة بموقع التواصل الإجتماعي فايسبوك، نقطة انطلاق لأحد أهم الأحداث التي شهدها العالم خلال سنة 2022. قربه من مكان وقوع الحادث ووعيه الكبير بقوة التكنولوجيا، مكنا عبد المجيد من استغلال الموقف ونشر المعلومات في حينها لمساعدة وسائل الإعلام التي لم تتمكن من الوصول لعين المكان بسبب وعورة التضاريس وبعد المنطقة، متحديا ضعف صبيب الأنترنت وافتقاد الدوار لأبسط متطلبات الحياة الكريمة.
مليار و760 مليون متابع على الرغم من أن دوار إغران مكان معزول جدا ولم يكن أحد يعلم بمكانه في السابق، إلا أن أزمة الطفل ريان وبمجهودات عبد المجيد وشباب آخرين، تسببت في جعله على كل لسان وتحوله لأشهر مكان في العالم حينها، بعد وصول الخبر لأزيد من مليار و760 مليون شخص، وقف دراسة أعدها مرصد الرأي العام الرقمي. وأوضحت الدراسة أن قضية الطفل المغربي ريان تسببت في خلق موجة غير مسبوقة من التفاعل الرقمي، وصل صداها لقرابة الملياري شخص في كافة ربوع العالم، حيث أن اهتمام المتفاعلين في الشبكات الاجتماعية الرقمية أخذ طابعا جديا ابتداء من ال3 من فبراير، قبل أن يصبح الحديث عن مأساة ريان موضوعا عالميا يوم الجمعة 5 فبراير من سنة 2022. ونشر رواد مواقع التواصل الإجتماعي ما يزيد عن 127 ألف تدوينة أو صورة أو فيديو عن المأساة، في ظرف أربعة أيام فقط. لتصل نسبة التفاعل مع مأساة ريان ل 3.5 بالمائة من مجموع التفاعلات الرقمية، علما أن نسبة التفاعل العادي مع مواضيع الانترنيت عالميا لا يتعدى 0.1 بالمائة في أفضل الأحوال. وتصدر الفايسبوك قائمة المنصات التي تداولت الموضوع، بنسبة 32 بالمئة مقارنة بباقي شبكات التواصل الاجتماعي، مؤثرا في أزيد من 54 بالمئة من المهتمين بالموضوع، يليه تويتر بنسبة 32 في المائة، ثم باقي التطبيقات كإنستغرام ويوتيوب. وأظهر تحليل اللغات، الذي كشفت نتائجه الدراسة، الصدى الدولي الذي اتخذه الحادث، فعلى الرغم من كون اللغة العربية هي اللغة هيمنت على التفاعل مع الحدث، فقد شكلت كل من اللغة الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية أكثر من 40٪ من المنشورات التي تحدثت عن الموضوع.
أسباب انتقال الحادث من المحلية للعالمية من جهته اعتبر الكاتب والأستاذ الجامعي أحمد شراك، أن عاملان أساسيان كان وراء اكتساب مأساة الطفل ريان لتضامن عالمي واسع، أولهما كون المحلي هو مدخل إلى الكوني وليس العكس، ويعود الفضل في ذلك إلى تسويق الحدث وكيفية تسويقه، إذ إن خبر سقوط ريان في البئر انتشر من الهامش إلى المركز وإلى الكون، أما العامل الثاني هو الوضع السيوسيوثقافي (الاجتماعي الثقافي) للقضية، انطلاقا من كونها وقعت في بادية (قرية) مغربية مهمشة، وفي كونها تنتمي إلى طبقة اجتماعية هشة وهامشية، وفي كونها أيضا مرتبطة بوضعية الطفولة المغربية بشكل عام. وأضاف أستاذ علم اجتماع بجامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس، في تصريح سابق لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن قضية ريان استطاعت أن تُدهش الإنسان في العالم، وأن تصدمه في آن واحد، حيث أن الحديث عن الطفل لم يكن مغربيا فقط، ولا عربيا فقط ولا إسلاميا فقط، وإنما كان إنسانيا كونيا بعيدا عن العقدية أو العرقية أو القطرية أو القومية وغيرها. وأكد الأكاديمي أن "قصة ريان وبقائه عالقا في البئر كان لها صدى أو ربما رجع صدى لما تعيشه الإنسانية الآن بعد اكتساح جائحة كورونا للإنسان، حيث بقي عدد كبير عالقا لمدة قد تطول أو تقصر بحسب مزاج الجائحة"". واعتبر المتحدث ذاته أن "الطفل ريان سيمتد حضوره في الخيال الجمعي وفي الديمغرافيا عالميا، حيث نال حبا كونيا سيمتد حضوره في الخيال الجمعي، ليس في المغرب فقط بل وفي العالم، بدءا من مواليد الشهر الذي يتصادف مع عيد الحب 14 فبراير".
العطش للمعلومة في غابة من الإشاعات والأخبار المضللة وتسببت متابعة الملايين لحادث سقوط الطفل ريان، في انتشار شائعات عكرت في بعض الأحيان صفو عمليات الإنقاذ وساهمت في الترويج لمعطيات خاطئة وأخبار مضللة، تنوعت ما بين صور ومقاطع فيديو، في حين ذهب البعض الآخر لأبعد من ذلك عبر نشر تصريحات مفبركة مرتبطة بهذا الموضوع. وحسب تقرير لمنصة "مسبار" المتخصصة في فحص الأخبار وتقصي الحقائق، فإن عددا كبيرا من الصور والفيديوهات انتشرت على مواقع التواصل الإجتماعي تضم معطيات كاذبة، تم ربطها بعملية إنقاذ الطفل ريان، الا انها كانت تعود لحوادث قديمة لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد به. و من أبرز المواد المرئية التي انتشرت عن الحادثة، وفق التقرير ذاته، كانت الصور المضللة التي ادعى متداولوها أنها لريان بعد خروجه من البئر، قبل أن يتبين انها صور قديمة ومرتبطة بحادثة سقوط طفل عراقي في بئر في الموصل، في حين تداول مستخدمون صورة أخرى، ادّعوا أنها لريان وهو في المستشفى بعد إنقاذه من البئر، لكن بالتحقق تبين أنها قديمة ومتداولة منذ عام 2018 وليس لها علاقة بالطفل المغربي. وفي السياق ذاته، انتشرت صورة لطفل يمني في مستشفى، كان قد توفي بسبب خطأ طبي، لكنّ متداولو الصورة نسبوها لريان وادعوا أنها التُقطت بعد خروجه من البئر. أما بخصوص الفيديوهات المصورة، فقد أكد التقرير، الذي حصلت "طنجة 24" على نسخة منه، تداول مقطع على أنّه لعمليّة إنقاذ ريّان، تبيّن فيما بعد أنّ مديرية الدفاع المدني العراقية نشرته بتاريخ 31 ديسمبر من عام 2021، وذكرت أنه ل"عملية إنقاذ طفل تركماني من ذوي الاحتياجات الخاصة، بعد أن سقط في بئر ارتوازي ضيق"، كما انتشر مقطعا فيديو ادعى متداولوهما أنّهما لرجال الإنقاذ وهم يحفرون يدويًّا لإخراج ريان من مكان احتجازه، ولكن بالتحقق تبيّن أنّ المقطعين قديمان ولا علاقة لهما بالحادثة. وأدى انتشار بعض الفيديوهات في تشكيك البعض بالأخبار والمقاطع المبثوثة من عمليات إنقاذ ريان في شفشاون، حيث ، انتشر مقطع فيديو مضلّل، ادعى متداولوه أنّه يُظهر انتشال ريان من البئر بجهد أحد أعضاء فريق الإنقاذ، وظهر في المقطع أنّ سحب الطفل تمّ دون إجراء أي عملية حفر يدويّ أو آلي، الا أن فريق مسبار تحقق منه حينها وأكد ارتباطه بحادثة سقوط طفل صيني يبلغ من العمر خمس سنوات، سقط في بئر في بلدة تشينغيي في شهر سبتمبر عام 2016، وأنقذه رجل إطفاء نزل إلى البئر وأمسك به وسحبه باستخدام حبل. ولم يسلم المسؤولون أيضا من الأخبار المفبركة، حيث تداول مستخدمون تصريحًا منسوبًا إلى رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية حينها، عبد الحميد الدبيبة، جاء فيه "سنخصّص مبلغًا من المال لرعاية الطفل ريان وعائلته إذا تم إنقاذه من البئر"، قبل أن يكتشف أنّ التصريح زائف، إذ لم يصدر أي تصريح عن الدبيبة أو حكومته بشأن قضية الطفل ريان.
ما بعد المأساة التفاعل مع مأساه الطفل ريان كان سببا في إطلاق مجموعة من المبادرات الرامية لحماية أبناء جيله من الوقوع في نفس الموقف، حيث شرعت وكالات الأحواض المائية بجرد مائي بمعية السلطات المحلية، من أجل إغلاق أزيد من 3000 بئر وحفرة، لكونها تشكل خطر على المتواجدين بمحيطها. وراسل كل من وزير الداخلية ووزير التجهيز والماء، دورية مشتركة لولاة الجهات وعمال العمالات والأقاليم وعمالات المقاطعات، ورؤساء الجماعات ومديري وكالات الأحواض المائية، والمديرين الجهويين والإقليميين للتجهيز والماء، بهذا الخصوص. وشددت الدورية على ضرورة الحد من ظاهرة انتشار الآبار والأثقاب غير المجهزة بوسائل السلامة الضرورية، والسعي لتوعية وتحسيس كافة المواطنات والمواطنين بالمخاطر الناجمة عن تواجدها. من جهة أخرى ساهمت وفاة الطفل المغربي في إطلاق مبادرات تخطت حدود المغرب الى دول عدة حول العالم، حيث قامت مجموعة شبابية في منطقة "البهاليل"، في نواحي مدينة فاس، بإطلاق مبادرة سمّتها "لمسة دفء" على روح ريان استهدفت الحملة توزيع عشرات الأغطية والملابس الشتوية، والتي طبع المنظمون على أغلفتها صور للطفل المغربي الراحل. ولم تقتصر المبادرات الخيرية والحملات ، التي نظمها أصحابها إحياءً لذكرى الطفل ريان، على حدود المغرب، بل تعدتها إلى عدد من الدول العربية، حيث قام عدد من الشباب الأردنيين في العاصمة عمان بتوزيع "المنسف" على روح ريان، ورفع المنظمون أثناء توزيع الطعام لافتة طبعت عليها صورته كتب عليها: "سبيل لله تعالى عن روح المرحوم الطفل المغربي ريان"، وفي تونس، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور لتوزيع الخبز مجانا عن روح ريان. وأظهرت الصور لافتة كتب عليها: "الخبز اليوم بلاش (مجانا) على رحمة ريان المغربي"، وغير بعيد عنها، أظهرت صور مشهدا مشابها في مدينة تلمسان الجزائرية لبسطة خبر كتب عليها: "خبز باطل (مجانا) على المرحوم ريان".
بعد أزيد من 100 ساعة من الإنتظار والترقب، مأساة ريان انتهت وانتهى معها حادث وحَد العالم بأسره، وأكد أن مواقع التواصل الإجتماعي قوية والتفاعل بها له تأثير على أرض الواقع، وأن الجماهير بإمكانها تحريك جبل بأكمله من أجل انقاذ طفل علق داخل حفرة.