حين تنظر من أعلى جبل درسة، تبدو تطوان كلوحة أندلسية مرسومة بعناية السماء، ببياضها الذي يلامس الأزقة، وحدائقها المتفرقة كفواصل موسيقية وسط جدران الزمن. لكنها، من أسفل، مدينة منهكة، تختنق بين عبء التاريخ وندرة الفرص، وتعيش منذ سنوات على ذكريات الازدهار دون أن تُطعم أبناءها سوى الأمل المؤجل. في المدينة التي ظلت لعقود وجهة للعلماء والحرفيين والفنانين، لا يجد كثير من الشباب ما يبرر البقاء. تشهد الأرصفة كل صباح موجة بشرية من الباعة المتجولين، الحرفيين العاطلين، وخريجي المعاهد الذين يتكتمون على شهاداتهم كي لا يُنظر إليهم كمحبطين. لا شيء يشي بأن تطوان كانت ذات يوم ميناء ثقافيا ورافدا تجاريا في شمال المغرب. المدينة الجميلة لا تأكل من جمالها، ولا من رزقها، بل تراقب كيف تمر خيرات الإقليم دون أن تطرق أبوابها. بعد إغلاق المعبر البري مع مدينة سبتةالمحتلة، والذي شكل لعقود شريانا اقتصاديا للمدينة وضواحيها، وجدت تطوان نفسها أمام فراغ لم تستطع البدائل التنموية سده. فقد فقدت الآلاف من النساء مورد رزقهن من "التهريب المعيشي"، وانهارت سلسلة كاملة من أنشطة النقل، الشحن، الخياطة، والبيع بالتقسيط، كانت تغذي أسرا بكاملها. كانت الفنيدق مركز الثقل، لكنها لم تكن وحدها من تأثرت، فالأحياء الهشة في تطوان، من كيش الوداية إلى حي الملاح، تلقت الضربة بصمت، وابتلعت تبعاتها اليومية دون احتجاجات أو صور صادمة. وتحاول الدولة ترميم الوضع ببعض المبادرات، لكن تطوان لا تزال تبحث عن بديل حقيقي للرزق الذي انقطع بعد إغلاق باب سبتة. أما المنطقة الصناعية بحي كويلمة، فهي قديمة ومتهالكة، وكانت تضم في الماضي عددا من المعامل المتخصصة في النسيج والصناعات الغذائية، لكن معظمها اليوم متوقف أو أغلق أبوابه لأسباب مالية أو تنظيمية. ورغم الحديث عن مشاريع جديدة، إلا أن الثقة في النجاعة التنفيذية ظلت ضعيفة لدى السكان الذين لا يرون تحسنا فعليا في واقع التشغيل والإنتاج المحلي. وفي الأسواق الجماعية، مثل باب النوادر والحي المدرسي، تبدو الصورة أشبه بسوق ينتظر زبونا ضائعا. التجار القدامى يتذمرون من الركود ومن ضغط الضرائب، في حين ينافسهم القطاع غير المهيكل بقوة. فقد اختفت معالم النظام التجاري التقليدي لصالح فوضى بصرية وإنسانية، تترجم يوميا من خلال المشادات، الإغلاقات المؤقتة، والفرار من أعوان السلطة. وتبقى النتيجة واحدة: المدينة لا تبيع ما يكفي لتعيش، ولا تستهلك ما يكفي لتحرك السوق. في تطوان أيضا حي الملاح، الحي الذي تأسس في مطلع القرن التاسع عشر كمجال خاص بالجالية اليهودية، وتحول اليوم إلى مجاز رمزي عن مدينة تآكلت مقوماتها الداخلية، حيث كانت الحياة في الملاح تعج بالحرف، بورش صياغة الذهب، بالخياطة، بصناعة النسيج، وبالتعايش بين الهويات. واليوم، صار الحي عنوانا للأبواب المغلقة، للذكريات، وللجدران المتداعية. حتى البرامج التي تتحدث عن الترميم لا تُقنع السكان بأن المكان سيعود كما كان، أو حتى بأن فيه ما يستحق الإنقاذ أكثر من صورة تذكارية. وتحتضن المدينة التي تُوصف بأنها عاصمة الفن الأندلسي، مؤسسات عريقة كالمعهد الوطني للفنون الجميلة، لكنها لم تحوّل هذا الرأسمال الرمزي إلى قاعدة اقتصادية. فالفنانون يكافحون للعيش، والمنتجون يهاجرون إلى طنجة أو الدارالبيضاء، فيما المسارح نادرة، والقاعات مغلقة، والمهرجانات تتحول إلى مناسبات بلا أثر مستدام. فالثقافة هنا تُعامل كترف، رغم أنها مورد اقتصادي في مدن شبيهة عبر العالم. وفي الصيف، يتضاعف عدد زوار تطوان، لكنها لا تُترجم ذلك إلى عائد سياحي حقيقي، لأن المدينة تصبح ممرا نحو البحر، نحو مرتيل، كابو نيغرو، أو واد لو. فالقليل من الزوار يبقون فيها، والأقل هم من ينفقون. الفنادق محدودة، والمرافق السياحية تكاد تكون موسمية. والمفارقة أن المدينة التي أُدرجت مدينتها العتيقة ضمن التراث العالمي لليونسكو، لم تنجح بعد في توظيف هذا الامتياز في خدمة تنمية محلية حقيقية. ورغم كل هذا، لا شيء يبدو أكثر قسوة من نظرة الشباب إلى مدينتهم. في المقاهي المنتشرة بين ساحة مولاي المهدي وباب العقلة، تتكرر الحكايات ذاتها: "ما كاين والو.. خاصنا نخرجو"، "حتى طنجة ما بقاتش كتجبد، ولكن حسن من هنا"، "انا كنت خدام كنحمل .. زملي تشدت ديوانا بقيت على الله". الهجرة الداخلية نحو طنجة، أو المحاولة المتكررة للعبور نحو سبتة، أو حتى الإقامة الموسمية بإسبانيا بطرق غير شرعية، كلها مظاهر لهروب غير معلن من تطوان، لأن المدينة التي كانت تستقبل الطلاب والفنانين والتجار، صارت تصدر أبناءها نحو أماكن يرون فيها الحد الأدنى من الأمل. غير ان الأزمة في تطوان ليست وليدة اليوم. لكنها تفاقمت خلال العقد الأخير، بتواطؤ الإهمال، وانعدام الرؤية، وثقل الهوية التي لم تُترجم إلى فرص. فلا أحد يُنكر أن تطوان تملك من الجاذبية ما لا تملكه مدن كثيرة في المغرب، لكن الجمال لا يُطعم وحده، ولا التاريخ يُغني عن الاستثمار. وبين ضجيج وسائل الإعلام الرسمية التي تُروّج لبرامج الدعم والتمكين، وسكون الأزقة القديمة التي لم يتغير فيها شيء، يظل الفارق صارخا، ومؤلما. على مستوى الجماعة، تبدو التنمية الحضرية متعثرة، رغم بعض الإصلاحات في الإنارة أو الطرقات. فلا تزال أحياء مثل البساتين وكويلمة وطارق بن زياد تنتظر مشاريع تهيئة وتأهيل، ولا تزال المرافق الاجتماعية (من دور الشباب إلى مراكز التكوين) دون المستوى المطلوب. وغالبا ما يُبرر ذلك ب"الانتظار الإداري"، أو "الموارد المحدودة"، فيما الهدر يتكرر بصيغ متعددة، من المشاريع التي لا تكتمل إلى الصفقات التي لا تُتابع. تطوان، في وجدان سكانها، ليست فقط مدينة مهملة، بل مدينة غير مفهومة. فقدت مكانتها كمركز جهوي بعد ظهور أقطاب جديدة، وتراجعت على خريطة الاستثمار، وتُركت لتواجه أزمتها الاجتماعية بمفردها. ومع ذلك، ما زالت تبتسم في الصور، وما زالت تُغري الزوار بأبوابها المزخرفة وبياضها الناصع، وكأنها ترفض أن تعترف بأن الجمال لا يكفي. وفي غياب رؤية شاملة تُعيد المدينة إلى مسارها الطبيعي، يبقى السؤال معلقا: إلى متى ستظل "الحمامة البيضاء" تحلّق في السماء الرمزية، بينما من يعيش تحت جناحيها لا يجد ما يأكله؟