لم يكن الذهب الذي غادر ميناء طنجة سنة 1787 مجرد شحنة معدنية عابرة. كان رهانا على المستقبل، أودع السلطان محمد بن عبد الله كتل الذهب في سفن متجهة الى مدريد، ليدخل المغرب نادي الدول التي تسك عملتها بمعايير مضبوطة ونقش سيادي واضح. لكن المشروع انتهى في يد وريث لم يشاطره الرؤية، وفي حضن عاصمة اوروبية قررت ان تحتفظ بالذهب دون ان تعيده. في تلك الحقبة، كان المغرب يشق طريقه بصعوبة بين اطماع القوى الاوروبية واضطرابات الداخل. فالسلطان محمد الثالث، احد اكثر سلاطين الدولة العلوية انفتاحا على العالم، راهن على تحديث مؤسسات الدولة دون التفريط في استقلال قرارها. فتح الموانئ، اسس الصويرة، فاوض على قدم المساواة مع بريطانيا وفرنسا، وشرع في اصلاحات مست جوهر النظام النقدي الذي عانى من تداخل العملات وتفاوت الاوزان. ومن بين ابرز مبادراته، محاولة توحيد العملة الوطنية وضمان نقائها وثقة السوق بها. فاختار دار السك في مدريد لما توفره من تقنيات لم تكن متاحة في المغرب حينها. فتم نقل سبائك ذهب من طنجة الى العاصمة الاسبانية في اطار ترتيبات دبلوماسية دقيقة، بهدف سك نحو عشرة الاف قطعة نقدية، من فئة عشرة مثاقيل، تحمل التاريخ الهجري 1201 واسم مدريد، لكنها معدة للتداول داخل المغرب. لكن المشروع توقف فجأة. ففي التاسع من ابريل 1790، توفي السلطان محمد الثالث، وخلفه ابنه المولى اليزيد، الذي تبنى نهجا اكثر تشددا تجاه القوى الاجنبية، ورفض استكمال المسار الذي بدأه والده. وفي مناخ توتر متصاعد، اعدم سفير اسبانيا في المغرب، ورفض استلام النقود التي ضربت في مدريد، مصرا على ان سك العملة لا يتم خارج حدود السيادة. اسبانيا ردت بتجميد العملية، فاحتفظت بالذهب والقطع المسكوكة. انتهى المشروع الى الفشل، وفقد المغرب شحنة كانت ستشكل اول تجربة منظمة لضرب عملة وطنية بمعايير دقيقة. مرت العقود واندثرت القصة، قبل ان يعيد موقع امريكي متخصص في العملات التاريخية احياءها. كشف Coinweek ان معظم تلك القطع الذهبية فقد او اذيب، ولم يظهر منها سوى عشر قطع تقريبا، تداولها هواة جمع نادرون في مزادات خاصة منذ 2013، باثمان مرتفعة تعكس قيمتها النادرة وسياقها السياسي المعقد. ذهب طنجة الذي لم يعد، لم يكن مجرد مشروع نقدي تعثر، بل لحظة رمزية من تاريخ السيادة المغربية، حين تعطلت مسارات الاصلاح تحت ضغط الخلافات السياسية، وبقي الذهب شاهدا على مشروع لم يكتمل.