الأستاذ هشام تهتاه مهما ارتقى الناس في سماوات العلم، ومهما غاصوا في بحور العرفان، ومهما فتّشوا في دفاتر الحكمة، فلن يجدوا بين كلام الله المسطور (قرآنا وسنة) وكتابه المنشور (الكون بجميع تجلياته) تعارضا حقيقيا؛ لأنهما لا يتعارضان، ولعمري ما رأيت حقّا يضادّ حقّا، فإن وقع شيء من ذلك - في الظاهر- فلا يعدوا أن يكون وهمًا وتخيُّلاً سرعان ما يزهقه العلماء والحكماء. والحديث عن ثنائية (العقل والنقل) حديث ذو سجال، لأنه موضوع قديم قدم الإسلام، متجدّد على مرّ الأزمان، تلبسه الأجيال حُلَلاً جديدة، وتسميه بمصطلحات عديدة، فهو قضية (النقل والعقل)، و(الوحي والفكر)، و(الرواية والدّراية)، و(الأثر والنّظر)، و(النص والمصلحة)...تختلف العناوين والمعنون واحد. والأصل المعوّل عليه في هذا الباب- وهو الذي اتفق عليه علماء الإسلام على بكرة أبيهم- أن طريق معرفة (صلاح الأفعال وفسادها) هو طريق الشرع لا العقل، إلا أن هذه المقدّمة - الصحيحة أصولها نظريًّا - لا تتفق الأنظار حولها ساعة التنزيل، وبخاصة في المسائل المسكوت عنها؛ وهي التي أحدثها الناس وليس فيها نص شرعي خاص، فقد انقسمت الآراء حولها شيعا ومذاهب، وكلٌّ يَخَالُ نفسه صاحب الحق ومُلْهَمَ الصّواب!! ومن هذه الفرق: فريق: زعم روّاده أن هذه الشريعة الإسلامية الغرّاء يعجزها أن تحيط بكل وقائع الناس المستجدة... وأغلب هؤلاء من الذين قلّ فقههم بمقاصد القرآن والسنة، أو تأثروا ببعض الخلفيات الفكرية الفاسدة، وأخطر ما في مذهبهم هذا أنه يوحي بإمكان تعارض (مقتضى العقل) و(محتوى النقل). وفريق آخر من (المُتَفَلْسِفِينَ على عِوَجٍ) ينظر إلى الدين (الوحي) باعتباره " خطابا مجازيا يجب تأويله فلسفيا "[1] وهم بذلك لا يلزمون العقل حدوده، ولا يحفظون للشرع منزلته، بل يسلبونه سموّه ورفعته... والأعجب من هذا طَمَعُهُم في إخضاع نصوص الوحي - قرآنا وسنة – لسائر مناهج نقد الخطاب البشري شعرًا ونثرًا، كاشفين حسب زعمهم عن الحقيقة - حقيقة صلاح الأفعال وفسادها - وهي عندهم واحدة لا تتعدّد، وأرباب الفلسفة أقرب إليها من أتباع الشرائع؛ لأنها برهانية عند الفريق الأول، خطابية عند الفريق الثاني![2] يقولون ذلك لأنهم جعلوا من خالص العقل مَعْبُودَهُم، فضلّوا وأضلّوا. وقريب من مذهب هؤلاء مَنْ أنكر الدين جملة، ونعته ب (شاعل العقول) و(أفيون الشعوب)، وشرّ ما في هذا المذهب – وكله شرّ – أنه يجعل (العقل البشري وما يكنزه من تجارب) الحاكم المتسيّد في تحديد معالم صلاح وفساد الأشياء. وفريق آخر من (غُلاة المتصوّفة) يرى الخلاص في موضوع إدراك حقيقة الصلاح والفساد هو التحلّل من (سلطان الشرع) و(قانون العقل) معاً، حتى قالوا:" من أراد التحقيق فليترك الشرع والعقل."[3] ! ولست أدري إن ترك هؤلاء الشرع والعقل بماذا يعتصمون ؟ وإلى ماذا يحتكمون ؟!!! وكيف سيكون حالهم ؟ وإلى أين يصير مآلهم ؟ وفريق آخر قالوا: قد جعل الله تعالى (مبدأ الاستصلاح) أساسا لشريعته، ومنارا للكشف عن حقيقة أحكامه، ثم بنوا على ذلك قاعدة خاطئة موهمة، فقالوا: حيثما وُجدت المصلحة فثم شرع الله.[4] ونسي هؤلاء - أو بالأحرى تناسوا - أن لو كان (مفهوم الصّلاح) بهذه البساطة والسذاجة لما اختلف الناس على حكم مصلحة قط، ولا كانوا بحاجة إلى رسالة أو رسول أبدا!!! وفريق آخر اعترف بالدين حَكَمًا، ولوَّحَ به حجّة، وحمله شعارا دون أن يتخذه دثارا، فتعسفوا في قراءته، وبالغوا في تأويله، حتى حكّموا عموماته ومطلقاته ومجملاته، وتغافلوا عن مخصّصاته ومقيَّداته ومفسراته...وأفرطوا في ذلك أيما إفراط، فكان أن اختلط عليهم ما هو (صالح) بما هو (فاسد)، فتجدهم يَتْلُونَ (ولباس التقوى ذلك خير) -الأعراف:26- ويغفلون عن ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً( - الأحزاب:59- وفريق آخر آثر التماس المصالح من ظواهر النصوص الشرعية، فساروا على سكّة الحرفيات، وأغفلوا الأصول وأهملوا الكليات، حتى إذا أعياهم التفتيش في تلك الظواهر لم يجدوا من التّكلف بُدًّا، وعن التعسّف مَفَرًّا وملاذا.
وجهة نظر المحققين: والحق أن علاقة النقل بالعقل في التصوّر الإسلامي تقوم على أساس التوافق والتكامل لا التعارض والتضارب، بل إن هذه العلاقة تصل - عند التحقيق - إلى حدّ التلازم والافتقار؛ إذ لا غنى للنقل عن العقل، ولا استقلال للعقل عن النقل أبدًا، يقول الإمام الشاطبي(ت790ه):" فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر؛ لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل."[5] ووبهذا يعرف أن سبيل المحققين من أهل العلم في هذا الباب يقوم على أساس رفض إمكان حصول التعارض بين نصوص الشرع الصحيحة الصريحة ومقتضيات العقل السليم الراجح، وتأكيد التعاضد بينهما، وهذه بعض شهاداتهم في الموضوع: قال ابن حزم (ت456ه):" ومن المحال أن يكون الحق فيما استحسنا دون برهان."[6] وقال الباجي(ت474ه):" يستحيل ورود الشرع بما ينافي العقول."[7] وقال الغزالي (ت505ه)" وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع."[8] وقال أيضا:" ...إن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لن يتبيّن إلا بالعقل، فالعقل كالأسّ، والشرع كالبناء، ولن يغني أسّ ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أسّ، وأيضا فالعقل كالبصر، والشرع كالشعاع...وأيضا فالعقل كالسراج، والشرع كالزيت الذي يمدّه..."[9] ويقول سيف الدين الآمدي (ت631ه):" الوصول إلى معرفة الحق ممكن بالأدلة المنصوبة عليه ووجود العقل الهادي."[10] وقال ابن تيمية (ت728ه):" إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع، لأن العقل مصدِّق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به."[11]
والحاصل أن هذه الشريعة الربانية المعظمة المفضلة لا تعارض بين أحكامها، ولا تناقض في أخبارها، ولا تنافي بينها وبين قضايا العقول السليمة الراجحة، وقد جرّب المجربون وحقق المحققون فلم يجدوا فيها إلا حقا وصدقا. إن القول المعوّل عليه إذن في علاقة (النقل بالعقل) هو أن النقل أسبق من العقل دائمًا أبدًا، وأن العقل لا يخرج عن كونه كاشفًا لأحكام ومقاصد الشارع، ولا يجوز أن يكون العقل مستقلا بذاته في ذلك أبدًا، لأن الكشف متأخّر عن الإنشاء. وهنا لابد من التنبيه على أمر غاية في الأهمية، وهو قول العلماء " إن العقل أصل للنقل" فالذي ينبغي أن يفهم منه هو أن (العقل أصل للنقل) من حيث كونه المصدّق به ليس إلا؛ فيكون قولهم صحيحا على اعتبار أن القدحُ في العقل قدحٌ في أصل النقل، فكان طعنًا فيهما معا، ولذلك اتفقوا على أن من شروط العالم المجتهد أن يكون: صحيح العقل، محيطا بمدارك الشرع.[12] ------------------------------------------------------------------------ هوامش
- مفهوم العقل، لعبد الله العروي، ص: 40.[1] - مفهوم العقل، ص: 40.[2] - مصادر المعرفة، ص: 252. نقلا عن: أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ص: 102.[3] - ضوابط المصلحة، ص: 17.[4] - الموافقات، 3/37.ن - الإحكام في أصول الأحكام: 6/196.[6] - الإشارات في أصول الفقه، ص: 105.[7] - المستصفى:1/4.[8] [9]- نقلا عن العقل والعقلانية، ص: 95-96. وانظر نفس النص في مجلة القرويين، ص: 216. نقلا عن معارج القدس للغزالي، ص: 59-61. - الإحكام في أصول الأحكام: 4/412.[10] - إعمال العقل، ص: 82. نقلا عن درء تعارض العقل والنقل، ص: 138.[11]